مقدمة:
لا خلافَ بين أصحابنا في رجحان جلسة الاستراحة، وهي الجلسة التي تكون بعد السجدة الثانية من الركعتين الأولى والثالثة ممَّا لا تشهُّد فيه، قال السيِّد العامليُّ في مفتاح الكرامة: "وفي (مجمع البرهان، والبحار) أنَّه لا خلاف بين الأصحاب في رجحانها وإنَّما الخلاف في وجوبها"[1]، وقد ناقشوا الإجماع المدَّعى على الوجوب بأنَّه دلَّ على رجحانها لا على وجوبها، قال العلَّامة الحِلِّيُّ (قدِّس سرُّه) في المُختَلف: "الإجماع دلَّ على الرجحان، أما الوجوب فلا"[2]، وكذا ناقشوا الإجماع على الندب كما سيأتي في كلام صاحب الجواهر.
لذلك فإنَّ الكلام يقع في وجه هذا الرجحان الأعمَّ من الوجوب وغيره: فقد قال بعضٌ بالوجوب، وبعضٌ آخر بالندب، وهو الأشهر، بل قيل هو المشهور، واحتاط آخرون بالوجوب، وعدم الترك.
عرض الأقوال:
ذهب أكثر علمائنا إلى استحباب الجلوس بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى في كل فريضة، وبعد الثالثة في غير المغرب من الفرائض، وخالف بعضهم كالسيِّد المرتضى وابن زهرة (رحمهما الله) بالوجوب، واحتاط آخرون بعدم الترك.
قال العلَّامة الحِلِّيُّ (قدِّس سرُّه) في التذكرة: "جلسة الاستراحة مستحبةٌ عند أكثر علمائنا"[3]، وقال الشيخ يوسف البحراني (قدِّس سرُّه) في حدائقه: "ومنها [أيْ مستحبات السجود] أنْ يجلس بعد السجدة الثانية مطمئنًّا على المشهور وهي جلسة الاستراحة"[4]، وقال صاحب مفتاح الكرامة: "والمشهور كما في (الإيضاح، والمُختَلف، والبيان، وإرشاد الجعفرية، ومجمع البرهان، والبحار) وغيرها أنَّها مستحبةٌ غير واجبة"[5]، وقال صاحب الجواهر (قدِّس سرُّه): "(و) كذا يُستحب (أنْ يجلس عُقيب السجدة الثانية مطمئنًّا) ليستريح، ولذا سُمِّيت بجلسة الاستراحة، واستحبابها مشهورٌ بين الأصحاب، بل في المنتهى "أنَّه مذهب علمائنا إلا السيِّد المرتضى"، وفي المُعتبَر نسبته إلى أكثر أهل العلم، بل عن كشف الحقِّ وتلخيص الخِلاف الإجماع عليه"[6].
القول الأول: الوجوب، والاحتياط بعدم الترك:
قال به السيِّد المرتضى، ويظهر من كلمات بعضهم أنَّه الوحيد الذي قال بوجوبه كما أشار المحقِّق الأردبيلي في مجمع الفائدة، وتفرُّد السيِّد المرتضى بالقول بالوجوب غير دقيقٍ كما سيتضح، وقد احتج السيِّد للوجوب بالإجماع، وطريقة الاحتياط، وأضاف أنَّ الشافعيَّ من المخالفين اتفق مع الإمامية في ذلك، وأنَّ مخالفينا رَوَوا جلوس النبي (صلَّى الله عليه وآله) هذه الجلسة[7]. وقد استدلَّ له العلَّامة بخبر عبد الحميد بن عوَّاض الحاكي فعل الصادق (عليه السلام)، وأمر الصادق (عليه السلام) بالجلوس في خبر أبي بصير، والأمر للوجوب. ويأتي ذكر الخبرين والنقاش فيهما وفي باقي الروايات.
وذهب ابن زُهرة الحلبي كذلك للوجوب، واحتجَّ بالإجماع، والاحتياط، والتأسِّي بفعل النبي (صلَّى الله عليه وآله)، وقد قال (صلَّى الله عليه وآله): "صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي"[8].[9]
ومال الفاضل في كشف اللثام إلى الوجوب، وفهم الوجوب من أقوال الصدوق الأول، والحسن، وأبي علي، وهذا نصُّ كلامه: "وقال علي بن بابويه: لا بأس بأنْ لا يقعد في النافلة، وقال الحسن: إذا أراد النهوض أَلزَم أليتيه الأرض ثم نهض معتمدًا على يديه. وقال أبو علي: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الأولى والثالثة حتى يماسَّ إليتاه الأرض أو اليسرى وحدها يسيرًا ثم يقوم جاز ذلك. وهذه الأقوال أيضًا تُعطي الوجوب"[10].
وهذا الفهم منه ليس ببعيد، فنفي البأس عن تركها في النافلة في قول الصدوق الأول يشعر بوجوده في الفريضة، والحاجة لمماسَّة الأرض بأليتيه أيضًا تشعر بذلك خصوصًا في قول أبي علي.
وقوَّاه المحقِّق البحراني في الحدائق[11]، بل اختاره صريحًا كما قال صاحب الجواهر.
وقال السيِّد العاملي في مفتاح الكرامة أنَّ الوجوب يلوح في المُقنعة والمراسم والسرائر، وأنَّه أحوط في البحار وحاشية المدارك، لكنَّه قوَّى الاستحباب[12].
ومال صاحب الرياض إلى الاستحباب، لكنه قال أنَّ الوجوب أحوط وأولى[13].
ومال إليه أيضًا المحقِّق النَّراقي في المُستند، وإنْ عدَّه في المستحبات[14].
وقال صاحب الجواهر أنَّ الوجوب أحوط، وإنْ كان عدمه أقوى[15].
فيما احتاط صاحب العروة بعدم تركها، بل قوَّى وجوبها[16].
القول الثاني: الاستحباب:
ذهب إليه الشيخ الطوسي في جُملة كُتُبه[17]، والمحقِّق الحِلِّيُّ في غير كتاب[18]، والعلَّامة في جُملة كُتُبه[19]، بل قال أنَّها مستحبةٌ عند أكثر علمائنا، والشهيد الأول في سائر كُتُبه[20]، وقال هو الأشهر، وابن فهدٍ الحِلِّيُّ حيث عدَّها في المستحبات في رسائله العشر[21]، والمحقِّق الأردبيلي في مجمع الفائدة[22]، والمحقِّق السبزواري[23]، والشيخ جعفر كاشف الغطاء[24]، وقوَّاه في مفتاح الكرامة كما مر، ومال إليه سيِّد الرياض واحتاط فيه كما مر، والميرزا القُمِّي[25]، وعدَّه الشيخ الأنصاري من المستحبات[26]، والشيخ عبد الكريم الحائري[27]، والسيِّد الخوانساري في جامع المدارك[28]، وإن عقَّب بقوله (الاحتياط سبيل النجاة)، وكذلك اختاره السيِّد الخوئِّيُّ بعد مناقشته للروايات بشيءٍ من التفصيل[29]، وذهب إليه السيِّد الروحاني في فقه الصادق[30]، ويظهر من ابن إدريس أنَّه يرى الاستحباب فإنَّه وإنْ ذكر الجلسة في كيفية الصلاة إلا أنَّه لم يبيِّن الوجه فيها[31]، ثمَّ إنَّه لم يذكرها في فروض الصلاة[32]، فظاهره الاستحباب لا الوجوب كما قال بعض الأعلام. وعمدة أدلَّتهم وركنها هو مُوثَّقة زرارة الآتية.
هذا وقد ذكر كلٌّ من الشيخ الصدوق[33] والشيخ المفيد[34] جلسة الاستراحة في كيفية الصلاة، لكنَّهما لم يذكرا وجهها، مع اشتمال الكيفية المذكورة على ما هو معلوم الوجوب وما هو معلوم الندب.
مناقشة الأدلة:
أولا: الإجماع:
لا يمكن الركون إلى الإجماعات المدَّعاة، لتخالفها، لا سيَّما القول بالإجماع على الوجوب إذْ أنَّه يقابل القول الأشهر بالاستحباب، ثمَّ إنَّ الإجماعات المدَّعاة بالاستحباب جاءت متأخرةً لم يَدَّعها المتقدمون، فلا يمكن الركون إليها، وغاية ما يمكن أنْ تعطينا هذه الإجماعات هي الرجحان، ولعلَّه معقد إجماع المتقدمين، وهو ثابتٌ لا كلام فيه. قال صاحب الجواهر: "مع إمكان المناقشة في إجماعَي الندب بإمكان إرادة أصل الرجحان الذي لا إشكال فيه عندنا"[35]. وعليه فالبحث إنَّما يكون في مقاماتٍ أخرى، بل هو في الروايات بالخصوص.
ثانيًا: البحث الروائي:
البحث السندي:
لم أقفْ على مزيد عنايةٍ من الأعلام بالأسناد في هذا البحث، فأكثر من أولاه الأهمية هما المقدس الأردبيلي والسيِّد الخوئي (قدِّس سرُّهما)، وذلك يتناسب مع طريقتهما في التعامل مع الأخبار بلا ريب، لكنَّني لا أجد أهميةً لبحثها هنا لاستفاضة الروايات موضوعًا، وانحصارها بين حكمين، على أنَّ الروايات التي يظهر منها الوجوب -وهو خلاف ما ذهبا إليه- فيها ما هو معتبرٌ كما قال السيِّد الخوئي، وعليه فالكلام كل الكلام في مدلول الروايات كما سيأتي:
البحث الدلالي:
يمكن الاستدلال على الوجوب بجُملةٍ من الروايات:
الأولى: ما رواه الصدوق -في حديث الأربعمائة- في كتاب الخصال: "عن أبي بصيرٍ ومحمَّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): اجلسوا في الركعتين حتَّى تسكنَ جوارحكم ثمَّ قوموا فإنَّ ذلك من فِعلنا"[36]. فالأمر ظاهرٌ في الوجوب، أمَّا التأكيد على أنَّه من فعلهم، وإنْ قال بعض الأعاظم كالسيِّد الخوئي (قدِّس سرُّه) أنَّها من التعليلات التي قد تفيد الاستحباب، إلا أنَّ ما يظهر للنظر القاصر أن النظر هنا إنَّما هو لمسألة التقيَّة الآتي بيانها في نصوصٍ أخرى، والحال هو الحال في مناقشة باقي التعليلات.
الثانية: صحيحة أبي بصير: "أحمد بن محمَّد، عن عليِّ بن الحكم، عن داود الخندقي، عن أبي بصيرٍ قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) -في حديث-: فإذا رفعتَ رأسك من الركوع فأقمْ صُلبك حتَّى ترجعَ مفاصلك، وإذا سجدتَ فافعل مثل ذلك، وإذا كنتَ في الركعة الأولى والثانية فرفعتَ رأسك من السجود فاستتمَّ جالسًا حتَّى ترجعَ مفاصلك فإذا نهضتَ فقُل: بحولِ الله وقوَّتِهِ أقومُ وأقعُد، فإنَّ عليًّا (عليه السلام) هكذا كان يفعل"[37]. فالأمر فيها ظاهرٌ في الوجوب، ولكنْ قد يُقال أنَّ الرواية ذكرت مجموعةً من الأفعال المستحبة والمكروهة ممَّا يُضعف ظهورها في الوجوب، كما يرِد هنا أيضًا ما ورد على الخبر الأول من التعليل بأنَّ "عليًا هكذا كان يفعل" أنَّه قد يفيد الاستحباب.
الثالثة: صحيحة الأزدي: عن أحمد بن إسحاق، عن بكرِ بن محمَّد الأزدي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث، قال: "فإذا قام أحدُكُم فليَعتدِل، فإذا ركع فليتمكَّن، وإذا رفع رأسه فليَعتدِل، وإذا سجد فلينفرج وليتمكَّن، وإذا رفع رأسه فليلبث حتَّى يسكن"[38]، حيث أَمَرَ باللَّبث والسكون المساوق للجلوس مطمئنًّا، وظاهر الأمر الوجوب، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الرفع عن السجدة الأولى أو الثانية كما قال السيِّد الخوئِّي (قدِّس سرُّه). والرواية صحيحة، وخاليةٌ من التعليلات التي جعلتهم يحملون بعض الروايات على الاستحباب.
الرابعة: ما رواه زيدٌ النَّرسِّي في كتابه، "عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) أنَّه كان إذا رفع رأسه في صلاته من السجدة الأخيرة جلس جلسةً ثمَّ نهض للقيام، وبادر بركبتيه من الأرض قبل يديه، وإذا سجد بادر بهما إلى الأرض قبل ركبتيه"[39]. وهي تفيد أنَّه (عليه السلام) كان يجلس هذه الجلسة، ولكنَّ هذه الرواية من الروايات البيانية التي لا تُبيِّن وجه الفعل.
الخامسة: لكنَّ ما رواه زيدٌ النَّرسِّي أيضًا في كتابه يظهر منه الوجوب: "قال سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: إذا رفعت رأسك من آخر سجدتك في الصلاة قبل أنْ تقومَ فاجلسْ جلسةً ثمَّ بادر بركبتيك إلى الأرض قبل يديك، وابسط يديك بسطًا واتَّكِ عليهما ثمَّ قُمْ فإنَّ ذلك وقار المؤمن الخاشع لربِّه، ولا تطشْ من سجودك مبادرًا إلى القيام كما يطيش هؤلاء الأقتاب في صلاتهم"[40]. فالأمر للوجوب، وإنْ كان في ذيل الرواية تعليلٌ آخر بأنَّ هذا الفعل وقار المؤمن الخاشع، ولمحلِّ هذا التعليل استظهروا الاستحباب أيضًا، لكنَّ النظر القاصر لا يتفق معهم لما ذكرته من أنَّ هذه التعليلات ناظرةٌ لما صدر تقيةً في مواضع أخرى، بل في هذه الرواية تعريضٌ بمن لا يفعل هذه الجلسة ويتركها، ونهيٌ عن تركها، فهي ظاهرةٌ في وجوب هذه الجلسة، للأمر بها مرَّةً والنهي عن تركها أخرى.
السادسة: "محمَّد بن أحمد بن يحيى، عن يعقوبَ بن يزيد، عن محمَّد بن الحسن بن زياد، عن محمَّد بن أبي حمزة، عن علي بن الحزور، عن الأَصبغ بن نُباتة قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا رفع رأسه من السجود قعد حتى يطمئنَّ ثمَّ يقوم، فقيل له: يا أمير المؤمنين كان من قبلك أبو بكرٍ وعمر إذا رفعوا رؤوسهم من السجود نهضوا على صدور أقدامهم كما تنهض الإبل، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنَّما يفعل ذلك أهل الجفا من الناس، إنَّ هذا من توقير الصلاة"[41]. وفي الرواية أولًا أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يجلس هذه الجلسة، كما أكَّدته روايةٌ أخرى، ثم التعريض بتاركها، ووصفه بأنَّه من أهل الجفاء، وإذا كان كذلك فيبعد بعدًا شديدًا أنْ يتركها أحدُّ الأئمة (عليهم السلام) لأنَّها مستحبة، وليس من عادتهم ترك المستحب بلا علَّة، وبالتالي يقرب أنَّ تركها في بعض المواضع يكون لعِللٍ أخرى فلاحظ.
السابعة: صحيحة عبد الحميد بن عوَّاض: "عن أحمد بن محمَّد، عن أبيه، عن الصفَّار، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن عليِّ بن الحكم، عن أبي أيوب الخزاز، عن عبد الحميد بن عوَّاض، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: رأيته إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى جلس حتَّى يطمئن ثمَّ يقوم"[42]. وهي من الروايات البيانية التي تُبيِّن تكرَّر فعل الجلسة من الإمام الصادق (عليه السلام) لكنَّها لا تُبيِّن وجه ذلك، فيما قال السيِّد الخُوئِّي أنَّها حكاية فعلٍ أعم من الوجوب، وهو صحيح، لكنَّه اعتمد في الاستحباب على حكاية فعلٍ كما سترى وقال أنَّ تلك الرواية صريحةٌ في الاستحباب فلاحظ!.
الثامنة: روى إسماعيل بن مسلمٍ، عن الصادق، عن أبيه (عليهما السلام) -في حديث- أنَّه قال: "وارفع يديك وكبِّر واسجد الثانية وقُلْ فيها ما قلت في الأولى، ولا بأس بالإقعاء فيما بين السجدتين، ولا بأس به بين الأولى والثانية وبين الثالثة والرابعة، ولا يجوز الإقعاء في موضع التشهُّدَين لأنَّ المُقعِي ليس بجالسٍ إنَّما يكون بعضه قد جلس على بعضه فلا يصبر للدعاء والتشهد، ومن أَجْلَسه الإمام في موضعٍ يجب أنْ يقوم فيه فليتجاف"[43]. مفاد الرواية نفي البأس عن الإقعاء في محلِّ جلسة الاستراحة، وإنْ قالت أنَّ الإقعاء ليس جلوسا، لكنَّها قد تفيد أنَّ الاطمئنان واللَّبث والسكون مطلوبٌ ولو بالإقعاء، وهي على أيِّ حالٍ غير ظاهرةٍ في الوجوب.
التاسعة: ما رواه الشيخ بإسناده عن سماعة، "عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا رفعت رأسك من السجدة الثانية من الركعة الأولى حين تريد أنْ تقومَ فاستوِ جالسًا ثمَّ قُم"[44]. فالأمر للوجوب، لكنَّ السيِّد الخوئِّي لم يقبلها لأنَّها مرسلة، بينما لا نجد هذا الإرسال مانعًا من اعتبارها للاستفاضة المتحقِّقة كما ترى، وبالتالي يمكن إثبات الوجوب من خلال هذه الرواية إذا اعتبرناها كما هو واضح.
العاشرة: خبر المعراج المرويِّ في العِلَلِ بسندٍ جيِّدٍ -كما عبَّر صاحب الجواهر-، عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قال: "فنظرت إلى شيءٍ ذهب منه عقلي فاستقبلت الأرض بوجهي ويدي فأُلهِمت أنْ قُلت: سبحان ربِّيَ الأعلى وبحمده لعُلوِّ ما رأيت فقُلتُها سبعًا، فرجعتُ إلى نفسي كلما قُلتُ واحدةً تجلَّى عني الغشي، فقعدتُ فصار السجود سبحان ربِّيَ الأعلى وبحمده، وصارت القعدة بين السجدتين استراحةً من الغشي وعُلوِّ ما رأيت، فألهمني ربِّي عزَّ وجلَّ وطالبتني نفسي أنْ أَرفعَ رأسي فرفعتُ فنظرتُ إلى ذلك العُلوِّ فغشي علي، فخررتُ لوجهي فاستقبلت الأرض بوجهي ويدي وقُلت: سبحان ربِّيَ الأعلى وبحمده سبعًا، ثمَّ رفعتُ رأسي فقعدتُ قبل القيام لأثني النظر في العُلو، فمن أجل ذلك صارتْ سجدتين وركعة، ومن أجل ذلك صار القعود قبل القيام قعدةً خفيفة، ثمَّ قُمت"[45]. وفي هذه الرواية البيانية بيانٌ لسبب الجلسة، ولكنَّها لا تُبيِّن وجه الفعل، فلا يمكن اعتمادها دليلًا على الوجوب أو الاستحباب.
ما استُدِلَّ به على الاستحباب:
عُمدة الاستدلال على الاستحباب هي موثَّقة زرارة، وهي: "ما رواه أحمد بن محمَّد بن عيسى، عن الحَجَّال، عن عبد الله بن بُكَير، عن زُرارة، قال: رأيتُ أبا جعفرٍ وأبا عبد الله (عليهما السلام) إذا رفعا رؤوسهما من السجدة الثانية نهضَا ولم يجلسا"[46]. ووجه الاستدلال بها أنَّهما (عليهما السلام) كانا يتركان هذه الجلسة في بعض صلواتهم، ولكنَّنا نقول هذه الرواية من الروايات البيانية، والتي يُجهل وجه الترك فيها، لذلك احتملوا النَّفلَ والعُذرَ والتَّقيَّة، وهو صحيح، بل من أبعد الاحتمالات احتمال النفل وذلك أنَّهم لم يُعهد منهم ترك المندوب بشكلٍ متكرِّرٍ دون عِلَّة، وبالتالي لا يمكن الركون إلى هذه الرواية في مقابل ما ذكرناه من روايات، أما قول السيد الخوئي (قدس سره) بأنها صريحةٌ في الاستحباب فلا نوافقه فيه، لما قلناه وقاله غير واحدٍ من احتمال العذر والتقية، فلا وجه لترجيح الاستحباب. وفي الواقع إذا لم نتمكَّن من إثبات الاستحباب من خلال هذه الرواية فلا يمكن الركون إلى غيرها في ذلك، وهو ما ذهب إليه صاحب الحدائق وغيره، بل ويَقوَى احتمال التقية في بعض الروايات، ويَقوَى احتمال كون التعليلات المذكورة في بعض الروايات إنَّما كان بسبب التقية التي طرأت فأباحت ترك الجلوس، فعَمَدَ الأئمة (عليهم السلام) لتلك التعليلات لبيان الحال، وبالتالي يعود المؤمنون لفعل الجلسة عندما ترتفع التقية، ومن الروايات التي وقع فيها الكلام، خبر رحيم، "قال: قلتُ لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): جُعِلتُ فداك، أراك إذا صلَّيتَ فرفعتَ رأسك من السجود في الركعة الأولى والثالثة فتستوي جالسًا ثمَّ تقوم، فنصنع كما تصنع؟ فقال: لا تنظروا إلى ما أصنع أنا اصنعوا ما تُؤمَرون"[47]. فإنَّ النظر القاصر يرى أنَّ أمر الإمام (عليه السلام) إنَّما هو دعوةٌ لالتزام التقية لا إلى ترك الفعل، فكيف يكون ذلك وهي راجحة؟ فنستقرب أنَّ هناك أمرًا صدر بعدم فعلها في ذلك الوقت تقيةً، ولمَّا رأى الراوي أنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) يجلس هذه الجلسة ظنَّ ارتفاع الأمر بالتقية، والرواية على أيِّ حالٍ لا تفيد الاستحباب، فإنَّ الجلسة إنْ كانت واجبةً أو مستحبَّةً فالأمر سواءٌ في تركها تقية، فلا يقال أنَّها لو كانت واجبةً لم يأمره بالتزام ما أمره به، ولا داعي لتركها ما لم يكن هناك عذر، فلاحظ، وعليه فهذه الرواية لا تصلح لإثبات الاستحباب كما حاول بعضهم استظهار ذلك منها. أضف إلى ذلك أنَّه لا توجد روايةٌ قال فيها الإمام لا تفعل هذه الجلسة صريحًا، وإنْ ورد تركها في موثَّقة زرارة، والتي هي من الروايات البيانية، بخلاف الأمر بالفعل فقد جاء في أكثر من رواية.
الخاتمة:
بناءً على ما مرَّ من وجود الروايات الدالَّة على الوجوب، كحديث الأربعمائة في الخصال، وصحيحة أبي بصير، وصحيحة الأزدي، وما رواه زيد النَّرسِّي في كتابه، ومُرسلة سَماعة عن أبي بصير، ومع عدم وجود المعارض، فإنَّ النظر القاصر يرى أنَّ هذه الجلسة واجبة، ولا تصمد أدلَّة القائل بالاستحباب أمام القائل بالوجوب، فلا الإجماع منعقدٌ على ذلك، ولا الروايات الواردة تفيده، بل تفيد الوجوب، ولا تأتي النوبة للأصل العملي حينئذ.
هذا وقد وقعت مناقشاتٌ أخرى كثيرةٌ بين الفريقين، لم أجدْ مُوجِبًا لذكرها والخوض فيها، واقتصرت على ما وجدت فيه الكفاية والمحقِّق للغرض، فنقاشهم مثلًا في ذِكر الجلسة من عدمه في خبر حمَّاد الذي وردتْ فيه تفاصيل الصلاة الدقيقة لن يؤثِّر في البحث، فقال بعضٌ بعدم ذكرها، وردَّه آخرون كالشيخ في الخلاف، فإنَّ غرضنا، وهو التعرُّف على حكم الشارع في هذه الجلسة يتمُّ لنا بما ذكرناه، ولذلك أعرضتُ عن مناقشة الأصل العملي في المسألة كذلك.
والحمد لله رب العالمين..
محمود أحمد سهلان
حوزة خاتم الأنبياء (صلَّى الله عليه وآله) العلمية
المنامة - البحرين
الثلاثاء 9 ذو الحجة 1442هـ
الموافق 20 يوليو 2021م
......................................
[1] السيد محمد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ج7، ص386.
[2] العلامة الحلي، مختلف الشيعة، ج2، ص172.
[3] العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، ج3، ص199.
[4] الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج8، ص302.
[5] السيد محمد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ج7، ص384-385.
[6] الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج10، ص182.
[7] السيد المرتضى، الانتصار، ص150.
[8] الخبر مروي في عوالي اللئالي وبحار الأنوار.
[9] ابن زهرة، غنية النزوع، ص79.
[10] الفاضل الهندي، كشف اللثام، ج4، ص103-104.
[11] الشيخ يوسف البحراني، الحدائق الناضرة، ج8، ص302-305.
[12] السيد محمد جواد العاملي، مفتاح الكرامة، ج7، ص384-386.
[13] السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل، ج3، ص457-458.
[14] المحقق النراقي، مستند الشيعة، ج5، ص295-297.
[15] الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج10، ص182-185.
[16] السيد اليزدي، العروة الوثقى، ج2، ص576.
[17] الشيخ الطوسي، الاقتصاد، ص263/ الشيخ الطوسي، الخلاف، ص361-363/ الشيخ الطوسي، الرسائل العشر، ص182/ الشيخ الطوسي، المبسوط، ص113/ الشيخ الطوسي، الاستبصار، ج1، باب من يقوم من السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، ح3.
[18] المحقق الحلي، المعتبر، ج2، ص215-216/ المحقق الحلي، شرائع الإسلام، ج1، ص69.
[19] العلامة الحلي، إرشاد الأذهان، ج1، ص255/ العلامة الحلي، تذكرة الفقهاء، ج3، ص199-200/ العلامة الحلي، مختلف الشيعة، ج2، ص171-172.
[20] الشهيد الأول، البيان، ص88/ الشهيد الأول، الدروس، ج1، ص181/ الشهيد الأول، ذكرى الشيعة، ج3، ص399.
[21] ابن فهد الحلي، الرسائل العشر، ص158.
[22] المحقق الأردبيلي، مجمع الفائدة، ج2، ص269-270.
[23] المحقق السبزواري، كفاية الأحكام، ج1، ص97.
[24] الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كشف الغطاء، ج1، ص242.
[25] الميرزا القمي، غنائم الأيام، ج2، ص622.
[26] الشيخ الأنصاري، كتاب الصلاة، ج2، 64.
[27] الحائري، كتاب الصلاة، ص257.
[28] السيد الخوانساري، جامع المدارك، ج1، ص379.
[29] السيد الخوئي، كتاب الصلاة، ج4، ص195-200.
[30] السيد الروحاني، فقه الصادق، ج5، ص55-57.
[31] ابن إدريس، السرائر، ج، ص229.
[32] ابن إدريس، السرائر، ج1، ص215.
[33]الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها، ح932.
[34] الشيخ المفيد، المقنعة، كتاب الصلاة، ب9، ص106/ نفس المصدر، ص112.
[35] الشيخ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام، ج10، ص185.
[36] الشيخ الصدوق، الخصال، ص628.
[37] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج2، باب كيفية الصلاة وصفتها والمفروض من ذلك والمسنون، ح188.
[38] عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، ح118.
[39] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج82، باب الأدب في الهوي إلى السجود والقيام عنه، ح10.
[40] المصدر السابق.
[41] الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج2، باب كيفية الصلاة وصفتها والمفروض من ذلك والمسنون، ح133.
[42] الشيخ الطوسي، الاستبصار، ج1، باب من يقوم من السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، ح1/ الشيخ الطوسي، التهذيب، ج2، باب كيفية الصلاة وصفتها وشرح الإحدى وخمسين ركعة، ح70.
[43] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، باب وصف الصلاة من فاتحتها إلى خاتمتها، ح929.
[44] الشيخ الطوسي، الاستبصار، ج1، باب من يقوم من السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، ح2/ الشيخ الطوسي، التهذيب، ج2، باب كيفية الصلاة وصفتها وشرح الإحدى وخمسين ركعة، ح71.
[45] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج2، ب1، علل الوضوء والأذان والصلاة، ح1.
[46] الشيخ الطوسي، الاستبصار، ج1، باب من يقوم من السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، ح4/ الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج2، باب كيفية الصلاة وصفتها وشرح الإحدى وخمسين ركعة، ح73.
[47] الشيخ الطوسي، الاستبصار، ج1، باب من يقوم من السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، ح3/ الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج2، باب كيفية الصلاة وصفتها وشرح الإحدى وخمسين ركعة، ح72.