بسم الله الرحمن الرحيم
اعلموا عباد الله أن مصائب أئمتكم لا تحصى، كما أن مناقبهم لا تعد ولا تستقصى، قد أبلت القلوب وذابت لها العيون وانقضت لها السموات العلى، وتجرع بها النبي (ص) محنًا غصصًا، وألبس الإسلام لها ضافي الأحزان بألوان السواد، فتجلببوا بجلاليب الأشجان، وصبوا مدامعكم من سحائب الأجفان، وأرضوا بذلك الملك الديان، وادخلوا السرور على قلبي النبي وفاطمة وعلي ببكائكم في كل وقت وآن، وشاركوا الملائكة في العالم العلوي والشان، والوحوش في القفار، والجن في الأوعار والغيطان، والملائكة في الجنان، ومن كان في أصلاب الرجال لم تحمله النساء بعد، ومن كان في أرحام النساء حزنًا على الغريب العطشان.
روى الصدوق في العيون والأمالي: عن الريان بن شبيب قال: دخلت على الرضا عليه السلام في أول يوم من المحرم فقال: يا ابن شبيب أصائم أنت؟ قلت:
لا فقال: ان هذا اليوم هو اليوم الذي دعا فيه زكريا عليه السلام ربه عز وجل فقال: (رب هب لي من لدنك ذريه طيبه انك سميع الدعاء) فاستجاب الله له وأمر الملائكة فنادت زكريا (وهو قائم يصلى في المحراب ان الله يبشرك بيحيى) فمن صام هذا اليوم ثم دعا الله عز وجل استجاب الله له كما استجاب الله لزكريا ثم قال: يا ابن شبيب ان المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية يحرمون فيه الظلم والقتال لحرمته فما عرفت هذه الأمة حرمه شهرها ولا حرمه نبيها لقد قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساؤه وانتهبوا ثقله فلا غفر الله لهم ذلك ابدا يا ابن شبيب ان كنت باكيا لشئ فابك للحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام فإنه ذبح كما يذبح الكبش وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلا ما لهم في الأرض شبيهون ولقد بكت السماوات السبع والأرضون لقتله ولقد نزل إلى الأرض من الملائكة أربعة آلاف لنصره فلم يؤذن لهم فهم عند قبره شعث غبر إلى أن يقوم القائم عليه السلام فيكونون من أنصاره وشعارهم يا لثارات الحسين عليه السلام يا بن شبيب لقد حدثني أبي عن أبيه عن جده عليهم السلام انه لما قتل جدي الحسين صلوات الله عليه أمطرت السماء دما وترابا احمر يا بن شبيب ان بكيت على الحسين حتى تصير دموعك على خديك غفر الله لك كل ذنب أذنبته صغيرا كان أو كبيرا قليلا كان أو كثيرا يا بن شبيب ان سرك ان تلقى الله عز وجل ولا ذنب عليك فزر الحسين عليه السلام يا بن شبيب ان سرك ان تسكن الغرف المبنية في الجنة مع النبي (ص) فالعن قتله الحسين يا بن شبيب ان سرك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين بن علي عليه السلام فقل متى ذكرته: ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما يا بن شبيب ان سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا وأفرح لفرحنا وعليك بولايتنا فلو ان رجلا أحب حجرا لحشره الله عز وجل معه يوم القيامة.
عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى " لم نجعل له من قبل سميا " قال يحيى بن زكريا لم يكن له سمي قبله، والحسين بن علي لم يكن له سمي قبله، وبكت السماء عليهما أربعين صباحا وكذلك بكت الشمس لهما وبكاؤها أن تطلع حمراء وتغيب حمراء، وقيل أي بكى أهل السماء وهم الملائكة.
عن أبي عبد الله عليه السلام أن الحسين بن علي بكى لقتله السماء والأرض واحمرتا، ولم يبكيا على أحد قط إلا على يحيى بن زكريا.
عن عروة بن الزبير قال: سمعت أبا ذر وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة فقال له الناس: يا أبا ذر أبشر فهذا قليل في الله فقال: ما أيسر هذا ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن علي قتلا أو قال ذبح ذبحا والله لا يكون في الاسلام بعد قتل الخليفة أعظم قتيلا منه، وإن الله سيسل سيفه على هذه الأمة لا يغمده أبدا، ويبعث ناقما من ذريته فينتقم من الناس، وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار، وسكان الجبال في الغياض والآكام، وأهل السماء من قتله، لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم، وما من سماء يمر به روح الحسين عليه السلام إلا فزع له سبعون ألف ملك، يقومون قياما ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة، وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله، وما من يوم إلا وتعرض روحه على رسول الله فيلتقيان.
عن المفضل بن عمر، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده أن الحسين بن علي عليهما السلام دخل يوما إلى الحسن عليه السلام فلما نظر إليه بكى فقال له: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لم يصنع بك فقال له الحسن عليه السلام: إن الذي يؤتى إلي سم يدس إلى فاقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدعون أنهم من أمة جدنا محمد صلى الله عليه وآله وينتحلون دين الاسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك، وانتهاك حرمتك، وسبي ذراريك ونسائك، وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة، تمطر السماء رمادا ودما، ويبكي عليك كل شئ حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار.
فعلى الشيعة أن يحفظوا ما اندرس من مآتمهم، وأن يبكوا على خلو منازلهم ومعالمهم عليهم السلام، فقد أصبحت قفرا من دروسهم ومعالمهم، ويحن عليها لسان الحال من فضائلهم ومكارمهم، فليت نفوسنا أن تقتل بين أيديهم من تلك الأعداء بصوارمهم، وتذوق ما تجرعه حبيب رسول الله وضلوعه تسحقها حوافر الخيول وشفتاه قد ذبلتا من العطش وأكتافه قد كوتها أشعة الشمس، السلام على تلك الشفاه الذابلات، وعلى الاجساد العاريات وعلى الجسوم الشاحبات وعلى الدماء السائلات وعلى الأعضاء المقطعات وعلى الرؤوس المشالات وعلى تلك النسوة البارزات.
إنَّ أنصار الحسين على قسمين: قسم نصره بدمه قاتل معه وصبر وجاهد وضحى بنفسه في سبيله وهذا فوز عظيم.
وقسم آخر لا زال يجاهد ولا زال يضحي ولا زال صابرًا محتسبًا مجاهدًا بفكره وبمعتقده وبمواقفه وبنصرته للحسين عليه السلام، وهذا الصنف الثاني لا ينتهي ولن ينتهي، بل يبقى إلى حين ظهور ولي الأمر، الذي شعاره (يا لثارات الحسين) يأخذ بثأره مع إمامٍ تقي هادي؛ إذن لا بد أن نعرف بأن عاشوراء مدرسة إلهية عظيمة، ونورٌ إلهي يشع على القلوب والأرواح، في حال ألتفاتنا إلى هذه الحقيقة.
رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة الأطهار اتفقوا في عاشوراء على جملة واحد في لفظها وفي معناها، ولم تختلف هذه الجملة من نبي ولا من إمام، قالوا: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله- هذه الجملة بألفاظها ومعانيها قالها رسول الله وقالها الأئمة الأطهار.
أولياء الله رجال الله إذا اتفقوا على كلمه وكلهم قالها، دل على أن هذه الكلمة فوق كل الاعتبارات، وأن المضمون الذي تشتمله هذه الكلمة في غاية الارتفاع والسمو والعلو.
أحداث الدنيا كثيرة وأيامها لا تحصى ولا تعد، رسول الله صلى الله عليه وآله حينما يقول: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، ونحن نعلم أنَّ المعصوم عين الله الناظرة والعالم أمامه ككتاب مفتوح لا يختلف فيه ماض ولا حاضر ولا مستقبل، يرى الأشياء كما هي هي.
إذن عندما يقول: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، معناه أنه نظر إلى كل أيام الأنبياء منذ زمان آدم عليه السلام إلى زمان الخاتم صلى الله عليه وآله، ونظر إلى كل الأحداث والوقائع التي مرت على البشر، والتي ستأتي وتمر، نظر إلى كل المصائب والنوازل التي نزلت على الأنبياء والأولياء والتي ستنزل.. كل هذه نظرها وقال: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. وهذا اليوم عظيم عندأولياء الله؛ لذا نجد بأن أولياء الله قد أكثروا البكاء في مثل هذا اليوم؛ لذا قال الأمام عليه السلام: إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، وأورثنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء.
ومن الواضح أن هذا اليوم بأحداثه ووقائعه يفوق أيام كل الأنبياء والأولياء، وأحداثه تفوق أحداث كل الأنبياء والأصياء فضلاً عن أحداث ومصائب الناس العاديين، ودرك مثل هذه الحقيقة عقولنا قاصرة عن دركها؛ لأن لعاشوراء مزايا، و ليست عاشوراء من الأحداث التي تصنعها الأسباب السياسية أو الاجتماعية أو العسكرية، بعضها فيها أسباب ظاهرية، ولكن بعضها كانت ولا زالت فيها أحداث إلهية غيبية لا يدرك معناها وعمقها غير المعصوم.
إن بعض القضايا في عاشوراء هي أسرار بين الباري وبين آل محمد، وبعضها عهد معهود بين الله وسيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، عقولنا العادية لا يمكن لها أن تدرك هذه الأسرار والمعاني؛ لذا لا بد من النظر إلى أهمية عاشوراء وما ورد عن المعصومين عن عظيم المصاب بهذا اليوم، المعصوم هو الذي يعبر عن عظمة هذه القضية الإلهية وما قاله المعصوم يحاكي قدر عقول الناس، قال صلى الله عليه وآله: أمرنا معاشر الأنبياء أن نخاطب الناس على قدر عقولهم.
وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن شيء من أمر العدل... قال عليه السلام (نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)، ونلاحظ هنا أن بعض خفايا عاشوراء، وبعض مقامات سيد الشهداء وأصحابه وأنصاره لا تدركها عقول البشر، بل تظهر هذه المقامات في الآخرة. هذا الذي نتكلم فيه ايضاً من مضامين روايات نحن نتكلم بها في هذا الموضوع فقط أشارة ورؤوس أقلام لا أكثر، تفاصيلها قد أوردها الشيخ ابن قولويه في بعض الروايات في كتابه الذي كان ولا يزال معتمد الشيعة.. أعني كتاب كامل الزيارات.
المعصومون عليهم السلام قد بينوا بعض جوانب عاشوراء، نذكر منها أربعة جوانب:
القضية الأولى: إن في قضية الحسين عليه السلام، وخروجه عليه السلام ارتباط عقائدي كبير؛ لأن خروج الحسين عليه السلام ومقتله وسبي نسائه، كل ذلك كان من أجل عهد وثيق بينه وبين الله تعالى، وخروجه عليه السلام ومقتله بهذا الشكل البشع، لم يكن إلا من أجل الإسلام؛ لأنه عليه السلام لم يخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرج لطلب الإصلاح في أمة جده، ويريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويسير بسيرة جده وأبيه علي بن أبي طالب. وهذه رسالة تدل على أهداف لنهضة الحسين عليه السلام؛ فإن خروجه الشريف ليس من منطلق التغطرس، والتكبر، والرياء، والسمعة.
إن في هذا النص أموراً مهمة متعددة ينبغي علينا معرفتها، وهي إن خروجه عليه السلام لم يكن إلا ضد الظلم والطغيان، فإننا من خلال هذه الكلمة العظيمة نستنتج بُعدا عقائديا خاصا وهو من أجل صلاح الأمة وإندثار الدين، فكان همه رفع كلمة الإسلام وإرجاع الأمة إلى طريق الهداة المهديين.
ولذا نلاحظ: أن هذا الخلوص سر من اسرار خلود ثورته المباركة؛ لانها كانت من أجل الآخرين وليس لنفسه كما في الدعوات التي تخرج في ذلك الوقت، وإن كان ذلك يؤدي إلى قتله وقتل أهل بيته وأصحابه، فهو بذلك يؤدي رسالة الأنبياء الذين جاؤوا من قبل للصلاح والإصلاح.
القضية الثانية:
ندرة الوقائع والأحداث التي حصلت في عاشوراء ولم تحصل في غير عاشوراء، بل ليس لها في التاريخ البشري مثيل.
نلاحظ: دولة كبيرة كدولة بني أمية، واسعة المساحة، كثيرة الجيش، كثيرة المال، يجهزون جيوشا مدججه مسلحة، لمحاربة أسرة! ليس لمحاربة جيش. بل أسرة من رجال ونساء وأطفال، ومن هم هؤلاء؟ هم واسطة الأرتباط بين السماء والأرض، بيدهم أرادة الله وفي صدورهم علم الله وفي عملهم حكمة الله وفي معرفتهم شريعة الله.
هم أطهر من خُلق على وجه الأرض، ونسائهم أعف بنات حواء، وفيهم أطفال صغار هم باب الحوائج إلى الله. أسرة صغيرة ودولة كبيرة، وبمعايير هذا الزمان دولة عظمى (كأمريكا في هذا الزمان)، دولة تقتل أناسا هم سبب وجود هذه البشرية، وهم سبب خلق هذا الكون، قال الباري في حديث الكساء: أني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا بحرا يجري....إلى آخر الحديث).وهم سبب هدايتهم.
نلاحظ: في قول الأمام الحسن عليه في أخر ساعات حياته، وكان من آخر ما قاله الإمام الحسن عليه السلام لسيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، قال: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله- ثم يفسر الأمام لماذا لا يوم كيومك يا أبا عبد الله؟ قال: يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل، يدعون أنهم من أمة جدنا محمد صلى الله عليه وآله، وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك. ثلاثون ألف على قتل رجل! وسفك دمك وأنتهاك حرمتك. وسفك الدم فيها دلالة فوق القتل؛ لأن القتل ممكن أن يكون بأي نحو، ولكن السفك الدم لا يكون إلا بالذبح. وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وأنتهاك ثقلك فعندها تحل ببني أمية اللعنة، وتمطر السماء رمادا ودما ويبكي عليك كل شيء. وهذا كلام معصوم ليس كلام فرد عادي عندما يقول المعصوم كل شيء لا أن كلامه يوجد به مبالغه أي أنه يعي ما يقول وما يقوله هو الحق، وهذه من الحقائق التي حصلت في ذلك اليوم والتي لا تدركه عقول الناس، عندما نقول شيء- أي كل ما يقال له شي أي تشمل الحيوانات والجمادات_.
قال: يبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار.
لا يخفى عليكم بأن الأمام عليه السلام هنا يشرح عظمة وفظاعة هذا اليوم، وأن الوقائع التي تجري فيه فادحة لم يجرِ مثلها في التاريخ البشري، وهذه الأخبار من أخبار الغيب؛ لأنه إخبار عن وقائع قبل أوانها وكلها تحققت، إذن هذا على ماذا يدل؟ يدل على أن قضية عاشوراء ليست قضية أرضية، بل هي قضية سماوية إلهية وهو قدرٌ مُقَدَّر لسيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، وعهد معهود بين الله وبينه منذ الخليقة؛ لذا يخبرون عنها قبل وقوعها.
انظر أيدك الله بنوره السبحاني إلى ضمير المخاطب في (يزدلف إليك)، فهو يدل على أن الذين أزدلفوا لقتل الحسين عددهم ثلاثون ألف، وليس كما قد يتوهم الأنسان بأن كل جيش بني أمية هذا عددهم، لا بل كانوا أكثر من ذلك، وبهذا يمكن أن نجمع بين الأقوال التاريخية في العدد وبين بعض الروايات التي وردت في كتب المقاتل التي قالت: بسبعين ألف؛ لأن الجيوش في العادة عندما تقاتل تنقسم إلى كتائب، ويكون في كل كتيبة عدد معين، فصنف يباشر القتال، وصنف يعزز في حال الهزيمة، وصنف يكون في حالة الأستعداد للدفاع عن الكتيبة الأولى والثانية.
وهذا واضح من كلام الإمام الحسن عليه السلام؛ بأن الذين سوف يقبلون على قتل الامام الحسين عددهم ثلاثون ألف، والذين كانوا خلف الجبهات أكثر من هذا العدد.
ومن هنا نلاحظ: أن في الزيارات الشريفة والروايات التي ورد فيها اللعن لأمم عديدة، فاللعن نزل بأمة قتلت الحسين عليه السلام، وبأمة ظلمت الحسين، وبأمة اسرجت والجمت وتنقبت لقتال الحسين عليه السلام.
قالوا عليهم السلام: لعن الله أمة دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتبكم الله فيها:
وهنا يتضح لنا: أن لأهل البيت عليهم السلام مقامات وهبها الله لهم، نذكر بعض مقامات أهل البيت عليهم السلام، ومنها وجوب المودة كما قال الله تعالى:"قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى".
وقد ورد في مقامهم العلمي والفكري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة والحكمة فليأتها من بابها.
وقالوا: برئت إلى الله وإليكم منهم ومن أشياعهم وأتباعهم وأوليائهم:
البراءة من أعداء محمد وآل محمد، من ركائز المذهب وهو شرط الولاية، ويجب على المؤمن أن يتبرَّأ من أعدائهم حتى يكون شيعياً، والدليل على ذلك عندما قال الإمام: "برئت إلى الله وإليكم منهم، وأتقرب إلى الله وإلى رسوله ثم إليكم بموالاتكم ومولاة وليكم وبالبراءة من أعدائكم".
فهنا: قدم التبري على المولاة وهذا يدل على شرطية التبري من أعداء الله ورسوله. وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: النظر إلى علي عبادة ولا يقبل إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه.
إذن نقول: إن الإيمان لا يُقبل إلا بولايتهم عليهم السلام.
قالوا عليهم السلام: ولعن الله االممهدين بالتمكين من قتالكم.
بيان هذا الشطر يوضح لنا: بأن كل من ساهم من الصدر الأول لوصول هؤلاء إلى ما وصلوا إليه، وقتلهم الحسين صلوات الله وسلام عليه ملعونون من قبلهم عليهم السلام.
قالوا عليهم السلام: ولعن الله أمة أسرجت وألجمت وتهيأت وتنقبت لقتالك.
أولاً نوضح معاني الكلمات التالية:
اسرج: شد عليه السرج، أي الرجل الذي يوضعه على ظهره فيقعد عليه.
ألجم: لجمها؛ ألبسها اللجام، وضع في فمها حديدة لقيادتها"- أي ألجم حصانه-".
تهيأ للأمر: تأهب له وأعد نفسه لمزاولته.
تنقب المرأة: شدت النقاب على وجهها. تنقب عن الشي: بالغ في البحث عنه.
وإذا أخذنا كل جملة على حدى، خص باللعن الأمة التي أسرجت خيولها، وقطعاً صانع هذه السروج والألجمة قد شملته اللعنة؛ لأنه كان يعلم بأن هذا الجيش مقبل على قتل أبن بنت النبي ومع ذلك قد ساهم في هذا الفعل الشنيع.
وربما ايضاً: يقصد بها من أسرج خيله وركبه وقاتل، مع العلم في الحالة الأولى والثانية لم يشارك في الحرب ضد أبي الأحرار بشكل مباشر، وأما الثالث الذي أسرج خيله وركبه وقاتل، فهذا من المسلمات أنه قد شمله اللعن، وفي الصورة الأولى والثانية ايضاً مشمول باللعن، وربما يقصد بها الخيول الأعوجية التي داست جسد الإمام الحسين بأمي وأمي.
وأما الأمة التي تنقبت لقتال سيد الشهداء، فهنا التنقيب هو ظاهراً للنساء حيثُ نقول تنقبت الفتاة أي غطت وجهها، والمقصود أمة تنقبت وتظاهرت بالتجاهل، وهم يعلمون بأن جد الحسين عليه السلام هو رسول الله صلى الله عليه وآله ومع ذلك قتلوه ظمآناً وسلبوه ثيابه ورفعوا رأسه على أسنة الرماح، يطاف به من بلد إلى بلد.
والمعنى الثاني: هم متنقبون لقتال سيد الشهداء-أي فعلوا ما بوسعهم لقتال الحسين، فبحثوا ورتبوا واستعدوا وتهيأوا لقتاله بأبي وأمي، ومن الواضح أن معنى التنقيب الثاني هو الأقرب إلى الصواب وهذا ما مال إليه بعض علمائنا الأعلام.
القضية الثالثة: تراكم المصائب والنوازل:
نلاحظ: بأن أنبياء الله وأولياءه، كلهم كان لهم نوع معين من الإيذاء، فمنهم من ذبح ومنهم من شرد ومنهم من قتل بالسم، وكل نبي من أنبياء الله قتل بطريقة، وبعض الطرق التي قتلوا بها مفجعة. كل هذه المصائب التي جرت في أنبياء الله وأوليائه قد اجتمعت في سيد الشهداء عليه السلام، ننظر إلى كل ما نزل بالأنبياء و الأولياء من مصائب ونوازل قد اجتمعت في الحسين، أي كل ما تفرد به الأنبياء والأولياء أجتمعت في الحسين عليه السلام.
مثال: من الأنبياء من قطع رأسه كيحيى عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلوات وأزكى التسليم، ومن الأنبياء من حرق ومن الأنبياء من قطع ومن الأنبياء من رُمي بالحجارة، ولكن هذا الذي تَفَرَّقَ في أنبياء الله أجتمع في سيد الشهداء، وهذا واضح من نص رسول الله عندما قال: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، أي كل ما كان ويكون قد تمثل في سيد الشهداء عليه السلام، وهذه القضية لا مثيل لها في فظاعتها ومصيبتها.
بل أصحاب الحسين عليهم السلام كلاً منهم قتل بطريقة واستشهد بطريقة مختلفة عن الآخر، فبعضهم قتل بالسهم، وبعضهم قتل بالرمح، وبعضهم فصل بين رأسه وجسد، وبعضهم قطع جسده، وكل ما جرى على أصحاب الحسين، وأبناء الحسين عليه السلام. إن بعض أرباب المقاتل نقلوا بأن علي الأكبر قطعوه إربا إربا، بل وما جرى على إخوته في ذلك اليوم المفجع ، وما جرى على أبناء أخية الأمام الحسن المجتبى عليه السلام، كل ما قد تفردوا به قد أجتمع في سيد الشهداء عليه السلام.
فالحسين روحي له الفداء قد واسى بكل ما جرى على أنبياء الله، وأولياء الله، وأصحابه، وأبنائه، وإخوته، وأهل بيته.. واساهم جميعاً بكل ما جرى عليهم بأنه عليه السلام تعرَّض له وجرى عليه صلوات الله وسلام عليه.
أي نبياً قتل عطشاناً ظمآنا، ثم سحقوه بحوافر الخيل، ثم قطعوه، ثم سلبوه ثيابه، ثم قتلوا أطفاله وسبو ذراريه؟
فاغتنموا الفرص أيها الشيعة الأبرار، ونوحوا على مصيبته آناء الليل وأطراف النهار، فالحسين ضحى بنفسه من أجلكم، فقد رفع الله مقامكم بمصيبته، وبوأكم الجنة تجري من تحتها الأنهار، وإنكم عندهم لمن المصطفين الأخيار، وستسقون من حوضهم الكوثر من كف إمامكم حيدر الكرار، وستكتبون من الشهداء بين أيديهم بالصارم البتار.
القضية الرابعة:
إرادة الله اقتضت أن يخرج إلى كل تضحياته، أن الله تعالى أختبر إبراهيم خليله بذبح إسماعيل عليهم وعلى نبينا وآله سلام الله. قال تعالى: وفديناه بذبح عظيم. ولم يرد الله إلى إبراهيم أن يمضي في ذبح إسماعيل عليه السلام، ولكن أراد للحسين عليه السلام أن يمضي، إلى رفع كلمة الله وأن يقتل؛ لأن بقتل الحسين عليه السلام ترتفع رأية الدين؛ لأن الحسين عليه السلام مكتوباً له أن يمضي وأن يخرج مع أهل بيته وأولاده فكل هذا كان مقررا لهم، ولم يشأ الله تعالى إلا أن يمضي الحسين في إرادة الله تعالى وأن يتم الرسالة المحمدية بقتله صلوات الله تعالى عليه.
لا يخفى عليك أخي المؤمن وأختي المؤمنة أن نبينا إبراهيم عندما أراد أن يذبح أسماعيل لم يرد الله تعالى له بأن يمضي في هذا وأن يفجعه بقتل ابنه، ولكن في الحسين أراد له أن يتم له ذلك بقتل أبنه علي الأصغر على كتفه. لكي يبقى رمزا في قلوب كل محب وموالي.
واعلموا أيها المؤمنون المنغمسون في بحار المحبة والولاء والمتسنمون لصهوة المتابعة لأرباب الشرف والعلا، أن إقامة المآتم على أولئك النبلاء من المفروض اللازم الفائق على سائر المفروضات والمسنونات في الثواب والاعتلاء، بل هو من الواجبات على كل المكلفين لما قدموه من تضحيات لإعلاء كلمة الدين، وإرشادكم إلى طريق الهداية والصواب، بل هو قائم مقام الجهاد مع الحسين عليه السلام في عرصات كربلاء، فنحن أنصار الحسين عليه السلام الذين لا زلنا ولا نزال نجاهد في هذه الدنيا إلى ظهور القائم عجل االه تعالى فرجه الشريف، فتداركوا بقية أعماركم قبل أن تخترم وتختل، فعدوا أنفسكم في مدة أعماركم من المستشهدين والقتلى، وتنغصوا على أنفسكم من المطعم ما طاب وحلا، ولا تنظموا أنفسكم في سلك من تلبس بالصبر وسلا، واستشعروا شعار هذه المصيبة التي أوجبت لأهل البيت القتل والسبي والجلا، وتصوروا إمامكم في عرصات الطفوف مع لهيب الشمس والظمأ قد فطرت كبدة وتفتت، وهو منغمس في بحار المصائب والبلاء، بعد أن أُخرج من جوار الله وجوار جده رسول الله صلى الله عليه وآله.
ونسأل الله سبحانه أن يكون ما نقلناه لكم موضع رضا لعلام الغيوب واستجلاء بالثواب الموهوب، ويجعل فيه وقاية من موبقات الذنوب، ونشكره جل شأنه على ما وفقنا له.
بقلم: الشيخ محمد مهدي ابن الشيخ عادل العصفور