مرت مسيرة علم الفقه الإسلامي لدى أعلام الإمامية بعدة مراحل منذ أواخر الغيبة الصغرى وإلى العصر الحالي الذي يعد عصر ازدهار الصناعة الفقهية عندهم، ولعل أهم تلك المراحل هي مرحلة التأسيس لنظام فقهي شيعي تسير الطائفة على وفقه بعد أن انتهى زمن حضور المعصوم (ع) وآلت المسؤولية الشرعية إلى العلماء، وتكمن أهمية هذه المرحلة والدور العلمائي فيها في:
- أنَّ عصرًا جديدًا سوف يدخله المذهب وأبناؤه يكونون فيه منفصلين تمامًا عن المعصوم (ع) بعد أن كانوا في فترة الغيبة الصغرى منفصلين عنه جزئيًا، ومن هنا فإنَّ ثمَّة ضرورة قائمة للحفاظ على الهوية العقائدية والدينية للمؤمنين من أن تنصهر وتذوب في التيار العام السائد.
- أنَّ أحاديث الأئمة (ع) وتراثهم الروائي -الذي يشكل بالإضافة إلى القرآن الكريم القاعدة التي يقوم عليها الفكر الديني الإمامي- إن لم يجمع في هذه المرحلة المبكرة فإنه قد يتعرض إلى الضياع أو التحريف، وسوف يفقد جزءًا من قيمته العلمية على المباني الرجالية التي لا تحكم بالاعتبار على الأحاديث الواردة في الكتب المتأخرة.
ومن خلال قراءة هذه المرحلة التأسيسية التي يمكن حصر زمانها بشكل تقريبي بين النصف الثاني من القرن الثالث وحتى وفاة الشيخ الطوسي (رض) في عام ٤٦٠هج نجد فيها ثلاثة مسالك علمية لدى فقهاء الطائفة:
- مسلك أهل الحديث: وهو مسلك صب كل جهوده في جمع واستقصاء أحاديث أهل البيت (ع) التي كانت مبثوثة في بطون الأصول الأربعمائة وتبويبها في مجاميع حديثية خاصة، ولنا أن نتصور مقدار الجهد الذي بذل من قبل رواد هذا المسلك بملاحظة نموذج كتاب (الكافي) لثقة الإسلام الكليني (رض)، حيث ذكر الشيخ النجاشي (رض) في رجاله أن تأليف (الكافي) قد استغرق عشرين عامًا.
ومن أعلام هذا المسلك المحدث الجليل محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق (رض)، والذي بذل جهدًا مشهودًا في جمع الأحاديث الشريفة وتبويبها، وله كتب مشهورة اليوم منها: (من لا يحضره الفقيه، علل الشرائع، عيون أخبار الرضا (ع)، الخصال، معاني الأخبار، الأمالي)، وقد ذكر الشيخ الطوسي (رض) في الفهرست أنَّ لابن بابويه نحو ثلاثمائة مصنف، وقال عنه الشيخ النجاشي (رض) في الرجال: "نزيل الري، شيخنا وفقيهنا، ووجه الطائفة بخراسان".
وأما طريقة تأليف علماء هذا المسلك لكتبهم فهي تتمثل في إيراد متون الروايات تحت أبوابها وعناوينها الخاصة دون شرح أو تحشية في العادة، نعم في بعض الأحيان يكتب المؤلف تحت بعض الروايات عددًا محدودًا من الكلمات التوضيحية كما في توضيحات الشيخ الصدوق (رض) لبعض روايات الفقيه.
- المسلك العقلي: فقد ذكر غير واحد من العلماء الباحثين في تاريخ الفقه الإمامي ومدارسه أنَّ مسلكًا علميًا يعطي للعقل مساحة واسعة وصلاحيات كبيرة في استنباط الأحكام الشرعية قد وجد بين علمائنا في هذه المرحلة، وأبرز رواد هذا المسلك هو الشيخ محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي (رض).
لقد كان ابن الجنيد (رض) فقيهًا مؤلفًا كبيرًا حتى أنه ألف دورة فقهية موسعة تقع في أربعة وعشرين مجلدًا وهي كتابه (تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة) الذي لم يعد موجودًا في زماننا، كما كان (رض) فاضلًا ورعًا جليل القدر، ولهذا أجمع علماء الطائفة الأقدمون على وثاقته وأثنوا عليه، غير أن البعض منهم برغم إكباره وإعظامه له فقد رفع راية المعارضة لطريقته الفقهية، بل ذكر النجاشي والمفيد والطوسي (قدس الله أسرارهم) في الرجال والمسائل السروية والفهرست على الترتيب أنَّه كان يستعمل القياس في استنباطاته، فهل لهذه النسبة واقع في المباني الأصولية لابن الجنيد (رض)؟
الجواب: استبعد جملة من المحققين الماضين والمعاصرين عمله بالقياس الذي نهت عن العمل به روايات أئمة أهل البيت (ع)، كما أنَّ بعضهم أقرَّ بأنَّه كان يعمل فعلًا بالقياس المنهي عنه، ولكنَّه التمس له العذر في ذلك، ومن هؤلاء المحققين:
السيد بحر العلوم (رض): حيث أقر في رجاله بعمل ابن الجنيد (رض) بالقياس إلا أنه اعتذر له بأن حرمة العمل بالقياس في ذلك الزمان لم تكن ضرورية، بل نظرية، مستدلًا بأنَّ غير واحد من أعلام الإمامية آنذاك كان يعمل به أيضًا.
السيد منير الخباز (دام ظله): فقد ذكر في كتاب (الرافد في علم الأصول) والذي قرَّر فيه أبحاث المرجع الديني الكبير السيد علي السيستاني (دام ظله) أن من المحتمل أن يكون القياس الذي نسب الأعلامُ إلى ابن الجنيد (رض) العمل به هو ما يُعبَّر عنه بالموافقة الروحية للكتاب والسنة، أي توافق مضمون الحديث مع الأصول الإسلامية العامة المستفادة من الكتاب والسنة، وهذا شيء أجنبي عن القياس المنهي عنه شرعًا، بل إنَّ هذه الموافقة الروحية مأمور في الروايات، حيث جاء في حديث الإمام الرضا (ع) للحسن بن جهم: "ما جاءك عنَّا فقسه على كتاب الله عز وجل وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منَّا، وإن لم يشبههما فليس منَّا".
- مسلك التوسط: وهو مسلك علمائنا الذين اتخذوا طريقًا وسطًا بين المسلكين الآنفين بعد أن أوردوا على مباني كليهما مجموعة إيرادات، وممن اتخذ هذا المسلك من أعلام الطائفة المفيد والطوسي والمرتضى وسلار (قدس الله أسرارهم).
ولأجل أخذ لمحة عن طبيعة الرؤية العلمية التي يتبناها مسلك التوسط نستعين بنصين لِمُؤسِّسِهِ الشيخ المفيد (رض) من كتابه (المسائل السروية) أورد في أحدهما على مسلك أهل الحديث وفي الآخر على المسلك العقلي.
فعن مسلك أهل الحديث قال: "وأصحاب الحديث ينقلون الغثَّ والسمين، ولا يقتصرون في النقل على المعلوم، وليسوا بأصحاب نظر وتفتيش، ولا فكر فيما يروونه وتمييز، فأخبارهم مختلطة لا يتميز منها الصحيح من السقيم إلَّا بنظر في الأصول، واعتماد على النظر الذي يوصل إلى العلم بصحة المنقول".
وأما المسلك العقلي فقد قال عن رائده ابن الجنيد (رض): "فأمَّا كتب أبي علي بن الجنيد فقد حشاها بأحكامٍ عمل فيها على الظن، واستعمل فيها مذهب المخالفين في القياس الرَّذِلِ فخلط بين المنقول عن الأئمة عليهم السلام وبين ما قال برأيه، ولم يفرد أحد الصنفين من الآخر".
كما بين المفيد (رض) في كتابه الأصولي الشهير (التذكرة) عددًا من مبانيه الأصولية، منها:
- أنَّ الشرع إنَّما مصدره كتاب الله تعالى والسنة الواقعية للنبي (ص) والأئمة الطاهرين (ع) والإجماع الذي يكون فيه المعصوم (ع).
- أنَّ الطرق الموصلة لمصدر الشرع الذي بيناه في الأعلى هي العقل؛ حيث يستدل به على حجية القرآن والسنة الواقعية، وما ثبت اعتباره من الأخبار المروية عن المعصومين (ع) فإنَّها طريقٌ موصلٌ إلى السنة الواقعية، واللسان أي علم اللغة حيث تعرف به معاني كلمات القرآن والأخبار المعتبرة.
صادق القطان
٢٧ يوليو ٢٠٢١م