بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين
في محاضرة بعنوان: (ضوابط النقل التاريخي – كربلاء أنموذجًا)[1] تطرَّق سماحةُ العلَّامَةُ الفاضِلُ الشَّيخُ محمودُ العالي (دامت بركاته) إلى الرواية بلسان الحال مبينًا عدم حرمتها؛ "إذ إنَّها من باب التصور، والتصور ليس بحرام، كما لو تصوَّر حالَ الإمامِ الحُسين (عليه السَّلام) عندما وصله خبرُ مقتلِ مُسلم بن عقيل فوصف تأثُّره وبكاءه، بل وحتَّى لو كان التصور والوصف بلسانِ الحالِ أعمقَ من ذلك طلبًا للتفجيع، فهذا أيضًا ليس بحرام"[2].
ثُمَّ ألفتَ حفظه الله تعالى إلى قاعدة فقهية مفادها أنَّ: (ما دلَّ على استحباب شيءٍ دلَّ على استحباب إيجاده بأي سبب مباح) مطبِّقًا على الرواية بلسان الحال كونه من أدوات إيجاد الإبكاء والتفجيع المُسْتَحبَّين على مصيبة سيد الشهداء (عليه السَّلام).
أقول:
في بحث الشَّيخ مرتضى الأنصاري (علا برهانه) لحكم الغناء ومناقشته للقول باختصاص الحرمة ببعض أفراد الموضوع، قال: "أنّ أدلَّةَ المستحبَّات لا تُقَاوم أدلَّةَ المحرَّمات، خصوصًا التي تكون من مقدماتها؛ فإنَّ مرجع أدلَّةِ الاستحباب إلى استحباب إيجاد الشيء بسببه المباح، لا بسببه المحرَّم، ألا ترى أنَّه لا يجوز إدخالُ السُرُورِ في قلب المؤمن و إجابته بالمحرَّمات، كالزنا واللواط والغناء؟"
فَعَلَى أنَّ الرواية بلسان الحال طريقٌ إلى إيجاد الإبكاء والتفجُّع على مصاب سيد الشهداء (عليه السَّلام) جازت بعد إحراز سلامتها من المحاذير المتصورة، لا سيَّما وأنَّ النسبة فيها للمعصوم (عليه السَّلام) قولًا أو فعلًا أو تقريرًا، ولذا قال العلَّامة العالي (دامت بركاتُه) في بحث (الميزان العلمي في القضايا التاريخية): "وأمَّا القضايا التاريخية فليس فيها إسناد إلى الله كما هو واضح، نعم قد يكون فيها حكاية لفعل المعصوم أو قول المعصوم، فإذا أورده المتكلم بنحو الجزم مع عدم العلم بثبوته عن المعصوم يكون حراماً، و لكن إذا أورده بنحوٍ مسندٍ إلى مصدر من كتاب أو نقل راوي فيخرج عن تلك الأدلة"[3].
من الواضح أنَّ النكتة في ذلك حجية قول المعصوم (عليه السَّلام) وفعله وتقريره، وما ثبتت له الحجيَّة اسْتُدِلَّ به ورُتِّبَ الأثرُ عليه، هذا وقد كان سماحته في وارد بيان حكم النقل التاريخي لما وهو وارد في بعض الكتب، فنبَّه على شرط التثبت من المنقول، فإن كان الناقل جازمًا بالصدور أو الوقوع، وإلَّا فعليه تخليص نفسه بإسناده إلى مصدر من كتاب أو نقل راوي.
إذا بان لك ذلك وقفتَ على أهمية إحرَاز كون لسان الحال متجرِّدًا عن كلِّ ما يمكن أن يكون واسطة في الاستدلال أو ترتب الأثر، لا لجهة التقول على المعصوم (عليه السَّلام)، فهذا منتف بعد كون الرواية بلسان الحال، ولكن لجهة ما يتكوَّن في أذهان العامَّة مع ارتكاز حجية قول المعصوم (عليه السَّلام) وفعله وتقرير، وهو ارتكاز موجود فعلًا في أذهانهم.
لذا، فإنَّ جوازَ التصوُّرِ والروايةِ بلسانِ الحالِ جوازٌ مُسلَّمٌ، إلَّا إنَّ ثمَّة خصوصية للمورد الذي يتعلَّق فيه المروي بالمعصوم (عليه السَّلام) لا يصحُّ إغفالها، وهي أنَّ المحكيَّ بلسان الحال متعلِّقٌ بالمعصوم (عليه السَّلام)، والخشية إنَّما هي من وقوع محذور ترتيب الأثر بحسب أفهام العامَّة من المؤمنين.
فالإشكال إذن ليس في الحكاية بلسان الحال، ولا في تصوره، وإنَّما في ما يلزم منه في حال عدم خلو المُتصوَّر ممَّا يستدل به على حقِّ أو باطل بناءً على أنَّه قول أو فعل أو تقرير للمعصوم (عليه السَّلام). ومن الواضح أنَّ الفكرة إذا ترسَّخت في الذهن العامِّي دَافَعَ عنها العامَّةُ بقوَّةٍ قَدْ تَصِلُ إلى حدِّ الشراسة؛ كيف لا وقد تعلَّقت بكربلاء وما جرى فيها على سيد الشهداء (عليه السَّلام)، وهي قضية حسَّاسة في الوجدان الشيعي.
إذا كان الأمر كذلك، فإنَّ لسان الحال صنعةٌ ليست متيسرة لكلِّ أحدٍ، بل هي كصنعة لها ضوابطها منحصرةٌ في القادر على تخليص تصوراته من المحذورات المذكورة، وهذا ممَّا ينبغي التنبيه عليه دائمًا لا سيَّما مع انطلاقات الشعراء وذهابهم الأدبي مع قوَّة الكلمة وجاذبية التصورات والخيالات الشعرية.
قد يُقال: إنَّ ما يقع فيه العاميُّ من ترتب لآثار أو ما شابه على المروي بلسان الحال ليس ممَّا يتحمل صاحب الرواية أو التصور مسؤوليته الشرعية، وإنَّما هي جرأة ممَّن يُرتب الأثر.
فنقول: لا تُوزَن الأمور فقط بميزان الجواز والحرمة من الجهة الشرعية، بل من الأهمية البالغة النظر في ما يورثه هذا الميزان من أدب وسلوك عمليين، ولا شكَّ في أنَّ مراعاة المؤمنين وحمايتهم من الوقوع في المحذورات الشرعية كمالٌ يَطُلبُهُ المُؤمِنُ العَاقِلُ.
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (عليه السَّلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ:
"مَنْ سَرَّه أَنْ يَسْتَكْمِلَ الإِيمَانَ كُلَّه فَلْيَقُلِ الْقَوْلُ مِنِّي فِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَوْلُ آلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا أَسَرُّوا ومَا أَعْلَنُوا وفِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُمْ وفِيمَا لَمْ يَبْلُغْنِي".
......................................................
[1] - أُلقيت في مأتم آل حسين – قرية العكر- بتاريخ 24 من ذي الحجَّة 1442 للهجرة
[2] - مفاد عبارة سماحة الشَّيخ وليس نصها
[3] - الميزان العلمي في القضايا التاريخية – الشَّيخ محمود العالي- ص 5 https://www.ketabat.org/writings/277