الحمد لله رب العالمين خالق السماوات والأرضين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين ـ محمد المصطفى ـ سيد الأولين والآخرين، وعلى أهل بيته الميامين الذين انتخبهم الله هداة للبشر أجمعين.
إنّ بعض آيات القرآن الكريم عُرفتْ بتسمية خاصة, سواء كانت هذه التسمية بأثر أو تُعورف عليها من قبل العلماء, وهذه التسمية غالباً ما تشير إلى موضوع رئيسـي في الآية, الأمر الذي من شأنه أن يُلفت النظر ويستوقف الباحث وقفة تأمل وتفكر حول تلك الآيات التي اشتهرت بتسمية أو صفةٍ خاصة, وما أن يسلط ضوء فكره وتدبره حولها آية آية سيجد أنّ ما تمحورت حوله تلك الآيات كان بمكان من الأهميّة, ألا ترى أنّ آية الكرسي تضمنت من الأمور أعظمها وذلك ما صرحت به الأخبار التي بينت فضلها وأشارت إلى أهميتها مع أنها آيات وردت في سورة البقرة البالغ عدد آياتها 286 آية.
ومن تلك الآيات التي عرفت واشتهرت بتسمية خاصة أيضا، هي (آية المباهلة) وهذه الآية قال الجرجاني: الآية: (هي طائفة من القرآن يتصل بعضها ببعض إلى انقطاعها، طويلة كانت أو قصيرة)(1). وقال ابن منظور: الآية: (سميت الآية آية لأنها جماعة من حروف القرآن))(2). إن الآية هي: (طائفة حروف من القرآن علم بالتوقيف انقطاع معناها عن الكلام الذي بعدها في أول القرآن، وعن الكلام الذي قبلها في آخره، وعن الذي قبلها والذي بعدها في غيرها)(3).
المزيدقد وردت في ضمن آيات سورة (آل عمران) البالغ عدد آياتها 200 آية, وجاء فيها قول الحق سبحانه مخاطباً نبيه (صلى الله عليه وآله): (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِين)(([1])
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ ([2]).
إن المعنى اللغوي للمباهلة من البهل، والبهل في اللغة بمعنى تخلية الشيء وتركه غير مراعى، هذه عبارة الراغب في كتاب المفردات ([3]). وعندما تراجعون القاموس وتاج العروس وغيرهما من الكتب اللغوية ترونهم يقولون في معنى البهل أنّه اللعن ([4]). فهي الملاعنة و الدعاء على الطرف الآخر بالدمار و الهلاك، و قوله عَزَّ و جَلَّ ﴿... نَبْتَهِلْ ...﴾ ([5]) أي نلتعن.
وقد نزلت هذه الآية حسب تصريح المفسرين جميعاً في شأن قضية و قعت بين رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) و نصارى نجران، عندما كتب النبي (صلَّى الله عليه و آله) كتابا إلى " أبي حارثة " أسقف نَجران دعا فيه أهالي نَجران إلى الإسلام، فتشاور أبو حارثة مع جماعة من قومه فآل الأمر إلى إرسال وفد مؤلف من ستين رجلا من كبار نجران و علمائهم لمقابلة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والاحتجاج أو التفاوض معه ، وما أن وصل الوفد إلى المدينة حتى جرى بين النبي و بينهم نقاش وحوار طويل لم يؤد إلى نتيجة ، عندها أقترح عليهم النبي المباهلة ـ بأمر من الله ـ فقبلوا ذلك و حددوا لذلك يوما ، وهو اليوم الرابع و العشرين ([6]) من شهر ذي الحجة سنة : 10 هجرية .
لكن في اليوم الموعود عندما شاهد وفد نجران أن النبي (صلَّى الله عليه وآله) قد اصطحب أعز الخلق إليه و هم علي بن أبي طالب وابنته فاطمة والحسن الحسين ، وقد جثا الرسول (صلَّى الله عليه وآله) على ركبتيه استعدادا للمباهلة، انبهر الوفد بمعنويات الرسول و أهل بيته و بما حباهم الله تعالى من جلاله و عظمته ، فأبى التباهل.
قال العلامة الطريحي ـ صاحب كتاب مجمع البحرين ـ : و قالوا : حتى نرجع و ننظر ، فلما خلا بعضهم إلى بعض قالوا للعاقِب و كان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال والله لقد عرفتم أن محمدا نبي مرسل و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهَل قومٌ نبيًّا قط فعاش كبيرهم و لا نبت صغيرهم ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم ، و ذلك بعد أن غدا النبي آخذا بيد علي و الحسن والحسين ( عليهم السَّلام ) بين يديه ، و فاطمة ( عليها السَّلام ) خلفه ، و خرج النصارى يقدمهم أسقفهم أبو حارثة ، فقال الأسقف : إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا لأزاله بها ، فلا تباهلوا ، فلا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم إنا لا نُباهِلَك و لكن نصالحك ، فصالحهم رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على أن يؤدوا إليه في كل عام ألفي حُلّة ، ألف في صفر و ألف في رجب، و على عارية ثلاثين درعا و عارية ثلاثين فرسا و ثلاثين رمحا.
و قال النبي (صلَّى الله عليه وآله): " و الذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ، و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير و لأضطرم عليهم الوادي نارا ، و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا " ([7]) .
ولقد أجمع العلماء في كتب التفسير و الحديث على أن هذه الآية نزلت في خمسة هم :
- النبي الأكرم محمد رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) .
- الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .
- السيدة فاطمة الزهراء( عليها السَّلام ) .
- الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .
- الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .
ففي صحيح مسلم : و لما نزلت هذه الآية :﴿ ... فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ... ﴾ 1 دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال : " اللهم هؤلاء أهلي " ([8]).
و في صحيح الترمذي : عن سعد بن أبي وقَّاص قال : لما أنزل الله هذه الآية :﴿ ... نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ... ﴾ ([9]) دعا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا ، فقال : " اللهم هؤلاء أهلي " ([10]) .
و في مسند أحمد بن حنبل : مثله([11]) .
و في تفسير الكشاف : قال في تفسير قوله تعالى :﴿ ... فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ... ﴾ ([12])، فأتى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) و قد غدا محتضنا الحسين ، آخذا بيد الحسن ، و فاطمة تمشي خلفه و علي خلفها ، و هو يقول :" إذا أنا دعوت فأَمّنوا " فقال أسقف نجران : يا معشر النصارى لأرى و جوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصارى إلى يوم القيامة ... "([13]).
و هناك العشرات من كتب التفسير و الحديث ذكرت أن آية المباهلة نزلت في أهل البيت ( عليهم السَّلام ) لا غير ، و لا مجال هنا لذكرها .
و تجدر الإشارة إلى نقاط ذات أهمية و هي :
- إن تعيين شخصيات المباهلة ليس حالة عفوية مرتجلة، وإنما هو إختيار إلهي هادف و عميق الدلالة ... و قد أجاب الرسول (صلَّى الله عليه وآله) حينما سئل عن هذا الإختيار بقوله : " لو علم الله تعالى أن في الأرض عبادا أكرم من علي و فاطمة و الحسن و الحسين لأمرني أن أباهل بهم ، و لكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء فغلبت بهم النصارى" ([14]) .
- إن ظاهرة الإقتران الدائم بين الرسول (صلَّى الله عليه وآله) و أهل بيته ( عليهم السَّلام) تنطوي على مضمون رسالي كبير يحمل دلالات فكرية، روحية، سياسية مهمة، إذ المسألة ليست مسألة قرابة، بل هو إشعار رباني بنوع وحقيقة الوجود الامتدادي في حركة الرسالة، هذا الوجود الذي يمثله أهل البيت (عليهم السَّلام) بما حباهم الله تعالى من إمكانات تؤهلهم لذلك.
- لو حاولنا أن نستوعب مضمون المفردة القرآنية { أنفسنا } لأستطعنا أن ندرك قيمة هذا النص في سلسلة الأدلة المعتمدة لإثبات الإمامة ، إذ أن هذه المفردة القرآنية تعتبر علياً ( عليه السَّلام ) الشخصية الكاملة المشابهة في الكفاءات و الصفات لشخصية الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) بإستثناء النبوة التي تمنح النبي خصوصية لا يشاركه فيها أحد مهما كان موقعه و منزلته، فقد أجمع المفسِّرون على أنَّ المقصود من (أنفسنا) في الآية الكريمة هو نفس رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) و نفس علي (عليه السلام) وإن أي محاولة لتشكيك في هذا الامر محاولة فاشلة بعد اتفاق العلماء على أن الآية انما نزلت في النبي الأكرم محمد رسول الله (صلَّى الله عليه و آله) و الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) و السيدة فاطمة الزهراء (عليها السَّلام) و الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السَّلام) و الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السَّلام).
هذا من جانب، و من جانب آخر فان تصريح النبي (صلى الله عليه و آله) بعد نزول الآية و دعوة علي و فاطمة و الحسنين (عليهم السَّلام) بأن هؤلاء هم المقصودين في الآية بقوله: "اللهم هؤلاء أهلي" لا يبقي مجالاً لمثل هذه الاقاويل و التشكيكات الرخيصة.
وذلك ما رواه احمد بن حنبل عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ـ وَآلهِ ـ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ حِينَ جَاءُوهُ : " وَاللَّهِ لَتُسْلِمُنَّ أَوْ لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكُمْ رَجُلا مِنِّي ، أَوْ قَالَ : مِثْلَ نَفْسِي ، فَلَيَضْرِبَنَّ أَعْنَاقَكُمْ ، وَلَيَسْبِيَنَّ ذَرَارِيَّكُمْ ، وَلَيَأْخُذَنَّ أَمْوَالَكُمْ " ، قَالَ عُمَرُ : فَوَاللَّهِ مَا اشْتَهَيْتُ الإِمَارَةَ إِلا يَوْمَئِذٍ ، جَعَلْتُ أَنْصِبُ صَدْرِي لَهُ رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا ، فَالْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ : " هُوَ هَذَا ، هُوَ هَذَا " مَرَّتَيْنِ . ([15])
و مارواه النسائي في الخصائص بسنده عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن أبي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه ـ و آله ـ و سلم : لينتهين بنو ربيعة، أو لأبعثن عليهم رجلا كنفسي، ينفذ فيهم أمري، فيقتل المقاتلة، و يسبي الذرية!.
فما راعني إلا و كف عمر في حجزتي من خلفي: من يعني ؟
قلت : إياك يعني و صاحبك.
قال : فمن يعني؟
قلت: خاصف النعل.
قال: وعلي يخصف النعل. ([16])
- فالإمام علي ( عليه السَّلام ) إنطلاقاً من هذه المشابهة الفكرية و الروحية هو المؤهل الوحيد لتمثيل الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في حياته و بعد مماته لما يملكه من هذه المصداقية الكاملة .
...............................................
المصادر:
-الترتيب حسب الحروف الأبجدية:
القرآن الكريم
ت-
- تاج العروس من جواهر القاموس/السيد محمد مرتضى الزبيدي/دار الكتب العلمية/بيروت
- تفسير الكشاف /محمد جواد مغنية/ دار الكتاب العربي / بيروت
- تهذيب الخصائص/عبدالله التليدي/دار البشائر الإسلامية
ص-
- صحيح مسلم /مسلم بن الحجاج النيسابوري/ دار إحياء التراث العربي/ بيروت
- صحيح الترمذي / محمد بن عباس الترمذي/دار الكتاب العربي / بيروت
ف-
- فضائل الصحابة /أحمد بن حنبل/نشر جامعة أم القرى
م-
- مجمع البحرين / فخر الدين بن محمد الطريحي/ مكتبة المرتضوي / طهران
- المفردات في غريب القران/الحسين بن محمد الأصفهاني /نشرمكتبة نزار مصطفى الباز/ الرياض
- مسند أحمد بن حنبل /أحمد بن حمبل/ دار صادر / بيروت .
- المباهلة / عبد الله السبيتي / مكتبة النجاح / طهران
.....................................................
[1] - سورة آل عمران (3)، الآية: 61، الصفحة: 57.
[2] - سورة آل عمران (3)، الآية: 61، الصفحة: 57.
[3] - مفردات في غريب القران (بهل)
[4] - تاج العروس (بهل)
[5] - سورة آل عمران (3)، الآية: 61، الصفحة: 57
[6] - ما ذكر هو المشهور بين المفسرين و المؤرخين ، و هناك أقوال أخرى .
[7] - مجمع البحرين : 2 / 284 ، للعلامة فخر الدين بن محمد الطريحي، مكتبة المرتضوي ، طهران / إيران
[8] - صحيح مسلم : 4/1871 ، طبعة : دار إحياء التراث العربي/ بيروت .
[9] - سورة آل عمران (3)، الآية: 61، الصفحة: 57
[10] - صحيح الترمذي : 5/225 حديث : 2999 ، طبعة : دار الكتاب العربي / بيروت
[11] - مسند أحمد بن حنبل : 1/ 185 ، طبعة : دار صادر / بيروت .
[12] - سورة آل عمران (3)، الآية: 61، الصفحة: 57
[13] - تفسير الكشاف : 1/ 193 ، طبعة : دار الكتاب العربي / بيروت
[14] - المباهلة : 66 ، لعبد الله السبيتي ، طبعة : مكتبة النجاح ، طهران / إيران
[15] - أنظر فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل حديث رقم: 866.