تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) {14}.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب23 - أنَّ صفات الله سبحانه الذاتية ليس شيءٌ منها زايدًا على ذاته ولا مغايرًا لها:
الباب الثالث والعشرون يتحدَّث عن الصفات الذاتية، وعندنا في المقابل الصفات الفعلية، والفرق بينهما أنَّ هناك من الصفات ما يحتمل الصدق والكذب المنطقيين، فقد نقول الله تعالى رازقٌ بمعنى أنَّه يرزق الآن ولا مخلوق، فهذه القضية منطقيًا لا صدق لها في الخارج، لا أنَّه تعالى ليس برازق، لكنْ لا فعلية لها في الخارج، وهذه تُسمى الصفات الفعلية، وقد وقع فيها الكلام، ومن أوائلها صفة الكلام، وأوَّل من ابتدعها هو يُوحنا الدمشقي، وكان من مستشاري الدولة العباسية، وقد دخل من كون عيسى بن مريم (عليه السلام) كلمة الله، ثمَّ تساءل ما معنى هذه الكلمة، وكيف تكلَّم بها الله تعالى، ثمَّ تَلَقَّفها بعض علماء المسلمين وتحدَّثوا في القرآن الكريم على اعتبار أنَّه كلام الله تعالى.
وكيف كان، في هذه الروايات عندما نقول هذا الأمر زائدٌ، فهو في قِبال ما هو من قوام الذات، وهذه العناوين التي لا تتحقَّق الذات إلا بها لا تكون زائدة على الذات، أمَّا ما يمكن فصله عن الذات فهو زائدٌ عليها، فإذا سلَّمنا بأنَّ ماهية الإنسان هي الحيوانية الناطقية، فكلُّ شيءٍ خارجٍ عن جنسه وفصله لا يكون من الذات، لأنَّ انتفاءه لا يؤثِّر على الذات، وكذا الأمر في الموضوع في بحوثٍ أخرى، فكثيرًا ما يقع النزاع في ما هو خارجٌ عن ذات الموضوع، وتُتْلَف الأوقات فيها على اعتبار أنَّها ليست زائدة.
{136} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن عليِّ بن إبراهيم، عن محمَّد بن خالد الطيالسي، عن صفوان بن يحيى، عن ابن مُسكان، عن أبي بصير، قال: سمعتُ أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لمْ يزلِ الله عزَّ وجلَّ ربُّنا والعلمُ ذاتُهُ ولا معلوم، والسمعُ ذاتُهُ ولا مسموع، والبصرُ ذاتُهُ ولا مُبصَر، والقدرةُ ذاتُهُ ولا مقدور، إلى أنْ قال: قلت: فلمْ يزلِ الله متكلِّمًا؟ قال: فقال: إنَّ الكلام صفةٌ مُحدَثةٌ ليستْ بأزليَّة، كان الله عزَّ وجلَّ ولا مُتكلِّم.
"العلمُ ذاتُهُ" أيْ ليس بصفةٍ زائدةٍ عنه، وكذا في الباقي، من السمع والبصر والقدرة.
لكنْ هل صفة (الكلام) مثل تلك الصفات المزبورة؟ أجاب الإمام (عليه السلام) بأنَّ الكلام يختلف عن تلك الصفات، وهو ليس بأزلي.
لا يوجد لدينا إلا أفعال، نعم هناك أفعالٌ استدعتها أفعالٌ أخرى، ونسميه رد فعلٍ بالقياس إلى الفعل الأول، فيوجد لدينا نارٌ وخشبٌ مثلًا، فنسمي النار فاعلًا، وإذا احترق الخشب نسميه قابلًا، ولكنْ من جهة احتراقه دون القياس إلى النار يكون فاعلًا، فلا يوجد في هذا الوجود إلا فواعل، ولكنْ بالقياس للفاعل الأول نسمي الثاني مفعولًا، أو منفعلًا.
الآن، ما الفرق بين الكلام وبين السمع؟ الكلام قد يكون ابتدائيًا، وقد يكون ممَّا استدعاه فعلٌ آخر، أمَّا السمع لا يكون إلا ممَّا يستوجبه فعلٌ آخر، فإذا قلنا الله تعالى يسمع، ولا توجد حركةٌ ولا صوتٌ ولا أيّ شيء، فلا سمع فإنَّه لا يوجد ما استدعى السمع، أما الكلام فيصح أنْ يتكلَّم ولا سامع لهذا الكلام، ولا نتحدَّث من جهةِ لَغويةِ هذا الكلام، إنَّما نريد أنْ نبيِّن أنَّ هذه الصفة مُحدَثة، ومن جهة القدرة هذه الصفة راجعةٌ إلى القدرة والإرادة، أمَّا فعلية الكلام فهو أمرٌ آخر.
نحن الشيعة نقول أنَّ الكلام هذه الألفاظ ولا شيء وراءه إلا العلم والقدرة والإرادة، بخلاف غيرنا كالأشاعرة الذين يرون أمرًا آخر، وكلُّ هذا النقاش الذي وقع فيها إنَّما كان لأنَّها من الصفات الفعلية، أيْ أنَّها كانت بعد أنْ لم تكن، وذلك لأنَّها ليست ذاتية.
{137} الرواية الثانية: وعنه، عن محمَّد بن عيسى بن عُبيد، عن حمَّاد، عن حَريز، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) أنَّه قال في صفة القديم: إنَّه واحدٌ صمدٌ أحديُّ المعنى ليس بمعاني كثيرةٍ مختلفة، قال: قلت: جُعِلتُ فداك، يزعم قومٌ من أهل العراق أنَّه يسمع بغير الذي يُبصِر به، ويُبصِر بغير الذي يسمع، قال: فقال: كذبوا وأَلحَدوا وشبَّهوا، تعالى الله عزَّ وجل، إنَّه سميعٌ بصيرٌ، يسمع بما يُبصِر، ويُبصِر بما يسمع، قال: قلت: يزعمون أنَّه بصيرٌ على ما يعقلونه، قال: فقال: تعالى الله، إنَّما يعقل ما كان بصفة المخلوق، وليس الله كذلك.
تحدَّثنا سابقًا في مسألة الانتزاع، وهو لا يكون إلا بملاحظة طرفين، فلو قلتُ فلانٌ ذكي، لا بدَّ لي أوَّلًا أنْ أُلاحظ ما يظهر فيه ذكاؤه، فأنظر إليه وإلى المورد، وأقيس ثمَّ أنتزع الصفة، ويمكن أنْ أَتصوَّره دون هذه الصفة، ثمَّ أنظر في جانبٍ آخر فأجد فيه صفةً أخرى، فيمكن أنْ أَتصوَّره بلا هذه الصفة، وهكذا صفاته مُتكثِّرة. والإمام (عليه السلام) في هذه الرواية يريد أنْ يقول أنَّنا من هذه الجهة نقول أنَّه قادرٌ وخالقٌ وعالمٌ إلى آخره، لكنْ ليس على نحو التكثُّر، لذلك صدَّر كلامه (عليه السلام): "إنَّه واحدٌ صمدٌ أحديُّ المعنى ليس بمعاني كثيرةٍ مختلفة". من هنا يقع الكلام في إمكان نزع هذه الصفات عن الذات الإلهية، لا في تعدُّدِها، لذا لو لم يبيِّن الله صفاته لتوجَّهنا إلى مخلوقاته، وانتزعنا القدرة والعلم والإرادة وغيرها، وهذا التعدُّد إنَّما هو لأنَّنا ننظر إلى جهاتٍ مختلفة، لا لأنَّ الصفات متكثِّرة في الله تعالى، أمَّا في الإنسان فهي تتكثَّر وهي عِدَّة معانٍ لأنَّها غير الذات.
أمَّا ما قاله القوم من أهل العراق بأنَّه يُبصِر بغير ما يسمع، ويسمع بغير ما يُبصِر، فهذا يعني تكثَّر المعاني، لوجود جِهةٍ يسمع بها غير التي يُبصِر بها، وردَّ الإمام (عليه السلام) هذا القول.
ينبغي أنْ ننظر في الباء في قوله (عليه السلام): "يسمع بما يُبصِر، ويُبصِر بما يسمع"، فقد تُوقِعنا فيما هربنا منه من سماعه بواسطةٍ ووسيلة، فصارت الذات شيءٌ والسمع شيءٌ آخر، وسنرجع لها في الرواية التالية.
الأمر الآخر، نحن نُبصِر ما نعقله، أمَّا غيرها ممَّا يكون أكبر من إدراك الذهن لا يمكن أنْ نُبصِره.
{138} الرواية الثالثة: وعنه، عن أبيه، عن العبَّاس بن عمرو، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: في حديث الزنديق الذي سأله: أتقولُ إنَّه سميعٌ بصيرٌ؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو سميعٌ بصيرٌ بغير جارحةٍ، ويُبصر بغير آلةٍ، بل يسمع بنفسه، ويُبصِر بنفسه، وليس قولي يسمع بنفسه ويُبصِر بنفسه أنَّه شيءٌ، والنفس شيءٌ آخر، ولكنِّي أردتُ عبارةً عن نفسي إذ كنتُ مسؤولًا، وإفهامًا لك إذ كنتَ سائلًا، فأقول: يسمع بكلِّه، لا أنَّ كلَّه له بعضٌ، لأنَّ الكلَّ لنا بعضٌ، ولكنْ أردتُ إفهامك والتعبير عن نفسي، وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنَّه السميعُ البصيرُ العليمُ الخبيرُ بلا اختلاف الذات ولا اختلاف المعنى.
لاحظ استدراكات الإمام (عليه السلام) بعد الجواب في قوله: "وليس قولي يسمع ... اختلاف المعنى"، ونحن هنا نربط بين هذا القول والباء في الرواية السابقة، فإنَّ الباء قد تُثبت الوسيلة والواسطة والتعدُّد لولا إرجاعها للعقيدة والكلام، وإنَّما كان استعمالها لضيق العبارة عن الحقيقة، والكلام هو طريقنا للتعبير والتفهيم، وهو أمرٌ مُنتزَعٌ من الخارج الذي تُقاس فيه الأشياء على بعضها البعض، وهذا ما دعا الإمام (عليه السلام) للاستدراك أكثر من مرَّةٍ، لا سيَّما وأنَّه يحاور زنديقًا يحتمل منه الوقوف على كل شيءٍ للإشكال من خلاله.
لو أخذنا شخصًا وقرَّبناه من الحقائق في السماء، فإنَّه لا يتمكَّن من التعبير عن كلِّ ما رآه، لأنَّنا كلَّما اقتربنا من الحقائق ضاقت العبائر عنها، وذلك لأنَّ العبائر قائمةٌ على المقايسات والانتزاع كما بيَّناه.
فائدةٌ:
في المناطق البدائية تجد عددَ كلماتِ تلك الأقوام محدودةً جدًّا، وذلك لمحدودية أدواتهم وحاجاتهم، ولكنَّك تجد بعض اللغات غنيةً وواسعةً كاللغة العربية، وسِعَة اللغة وتكثُّر ألفاظها دليلٌ على انفتاح وذكاء وخيال أهلها.
{139} الرواية الرابعة: محمَّد بن عليِّ بن الحسين في الأمالي والتوحيد، عن محمَّد بن عليٍّ ماجيلويه، عن عمِّه، عن محمَّد بن عليٍّ الكوفي، عن محمَّد بن سنان، عن أَبَانٍ الأحمر، قال: قلتُ للصادق جعفر بن محمَّدٍ (عليه السلام): أَخبِرني عن الله تعالى، لم يزلْ سميعًا بصيرًا عليمًا قديرًا؟ قال: نعم، فقلتُ له: إنَّ رجلًا ينتحل موالاتكم أهل البيت يقول: إنَّ الله تبارك وتعالى لم يزلْ سميعًا بسمعٍ، وبصيرًا ببَصرٍ، وعليمًا بعِلمٍ، وقادرًا بقُدرةٍ، قال: فَغَضِبَ (عليه السلام) وقال: من قال بذلك ودانَ به فهو مُشركٌ، وليس من ولايتنا على شيءٍ، إنَّ الله تبارك وتعالى ذاتٌ علَّامةٌ سميعةٌ بصيرةٌ قادرةٌ.
قال أبان: "لم يزل"، وأراد السؤال هل هذه الصفات أزليةٌ؟
إشارة:
إنَّ الصفة المُفاضة، فإنَّ الجِهةَ التي أفاضتها لا يمكن أنْ تكون -هذه الجهة- نفس الصفة فقط، فلا بدَّ أنْ تكون عالمةً قادرةً حكيمةً وغير ذلك، فتجتمع هذه الصفات لتتحقَّق الإفاضة على الوجه الصحيح، وكلُّ صفةٍ تُفاض كالعِلم والقدرة وغيرها، فهي راجعةٌ إلى جهةٍ لها هذه الصفات، بحيث تتحقَّق هذه الإفاضة، وما نحن بصدد بيانه أنَّ هناك جهةٌ واحدةٌ لها تلك الصفات.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب24 - أنَّ صفات الله الذاتية قديمةٌ، وأنَّها عين الذات:
يُريد في هذا الباب بيان حيثية القِدَم، بعد الفراغ من أنَّ تلك الصفات ليست زائدةً على الذات.
{140} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن يحيى، عن سَعْد بن عبد الله، عن محمَّد بن عيسى، عن أيوب بن نوح، عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديثٍ أنَّه كَتَبَ إليه: لم يزلْ الله عالمًا بالأشياء قبل أنْ يخلق الأشياء كعلمه بالأشياء بعد ما خلقَ الأشياء.
قوله (عليه السلام): "لم يزل" إشارةٌ للقِدَم.
عِلمنا قائمٌ على المقايسة والتمايز، وما لم نتخلَّص من هذا لا نفهم القِدَم، والأمور المتمايزة لا يمكن أنْ يكون العِلم بها قديمًا، واستحالته لأنَّ التمييز بين الأشياء من مقتضيات الحدوث، فالمُحدَثات تتمايز عن بعضها، لكنَّ كلامنا هو في عِلم الله تعالى، فهل عِلم الله بالمُحدَثات عِلمٌ بكلِّ شيءٍ على حِدةٍ أو هو علمٌ واحدٌ لا تمايز فيه بين المُحدَثات؟
توضيح المسألة بأمرين:
الأول: وهو أمرٌ عامٌّ: من أساليب الخطاب للعقلاء الإجمال بحدٍّ مُفهِمٍ، والبيان والتفصيل إذا احتجنا إليه بيَّنا وفصَّلنا بما يناسب المقام، بل الإجمال مهارةٌ مهمةٌ، فقد يتمكَّن البعض من التفصيل ولا يتمكَّن من الإجمال، وبالعكس، والتفصيل موجودٌ في الذهن وإنْ أَجملنا في البيان، لكنَّه لا يكون مُلتَفَت إليه أحيانًا، وليس هو عجزٌ عن التفصيل، ومن هنا نجد بعض الأعلام يقول: (فَذْلَكَة المَطْلَب)، ومعناها الإجمال. وبالتالي إذا كان المقام يستدعي الإجمال ينبغي أنْ نُجمِل، وإذا كان يستدعي التفصيل فصَّلنا في البيان.
الثاني: إذا تزوَّج أيُّ فردٍ يستحضر في ذهنه مسألة الأولاد، لكنْ لا على نحو التفصيل في كون المولود ولدًا أو بنتًا، فهو يحب عنوان الولد، ثمَّ أنَّه إذا أنجب يميِّز بين هذا الولد وذاك الولد، فصار هذا التمييز من مقتضيات هذا الوجود؛ أيْ أنَّ هذا المقام يحتاج إلى تمييز، لا أنَّك أنت كأبٍ تحتاج إلى تمييز.
الآن، إذا عدنا بالكلام لعِلم الله وخرجنا من عالم الإمكان، فلا يستدعي المقام التمايز بين الأشياء، لأنَّ هذه المفاهيم كالقلم مثلًا لا يوجد ما يستدعيها في تلك النشأة، والعِلم بهذه الأشياء المُحدَثة عِلمٌ دُونِّيٌّ، وبالتالي وجود الأشياء في هذه النشأة لا يغير شيئًا من عِلم الله تعالى. فنُجيب أنَّ العِلم الكامل الذي لا يبلغه الإنسان، العِلم القادر على التفصيل في حين أنَّه غير مركَّب، هو عِلم الله، وهذه الأمور المعلومة في هذا الوجود ليست إلا مَظهرًا لعِلم الله تعالى بما يليق بهذا الوجود، فعِلمه سبحانه وتعالى بالأشياء قبل أنْ يخلقها كعِلمه بها بعد أنْ خلقها، يعني أنَّ وجودها في هذا الوجود لم يغير في عِلم الله شيئًا.
{141} الرواية الثانية: وعنه، عن أحمد بن محمَّد، عن الحسين بن سعيد، عن القاسم بن محمَّد، عن عبد الصمد بن بشير، عن فُضيل بن سُكَّرَة، قال: قلتُ لأبي جعفرٍ (عليه السلام): إنْ رأيتَ جُعِلتُ فداك أنْ تعلِّمني، هل كان الله يعلم قبل أنْ يَخلُق الخَلْقَ أنَّه وَحْدَه؟ فقد اختلف مواليك، فقال بعضهم: كان يعلم قبل أنْ يَخلُق الأشياء من خلقه، وقال بعضهم: إنَّما معنى يعلم يفعل، فهو اليوم يعلم أنَّه لا غيرُهُ قبل فعل الأشياء، فقالوا: إنْ أثبتنا أنَّه لم يزلْ عالمًا بأنَّه لا غيرُهُ فقد أثبتنا معه غيرَهُ في أزليَّته، فإنْ رأيتَ سيدي أنْ تعلِّمني ما لا أَعْدُوه إلى غيرِهِ؟ فَكَتَبَ (عليه السلام): ما زالَ عالمًا تبارك وتعالى ذِكره.
تفصيل جوابه (عليه السلام) هو ما مرَّ في بيان الحديث السابق. فنفى عدم العِلم، ونفى قرن العلم بالفعل، بهذا الجواب.
يمكن الإجابة على كل مقطعٍ من السؤال بجواب الإمام (عليه السلام). ويتبين من الرواية أيضًا:
1/ أنَّ السائل مسلِّمٌ للإمام (عليه السلام).
2/ أنَّ موالي أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يتكلَّمون ويختلفون، لكنَّ بعضهم يرجع للإمام (عليه السلام) ليحلَّ الإشكالات ويُجيب عليها، فيمكن لك أنْ تُفكِّر ابتداءً، بل هو المطلوب لفهم الرواية، لكنْ لا تَستقلَّ بفكرك عن المعصوم (عليه السلام)، فترجع للروايات وتصحِّح تفكيرك.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها - ب25 - أنَّ صفات الله الفعلية مُحدَثةٌ وأنَّها نفس الفعل:
تُصنَّف الصفات الإلهية إلى ذاتيةٍ وفعليةٍ، وهو سبحانه تعالى صفاته عينُ ذاته، وقد بيَّنا أنَّه لا معنى لتعدُّد الصفات كما هو التعدُّد في عالمنا، وإنَّما هو الله سبحانه الواحد الأحد، وكلَّما نظرنا إليه ننظر على اعتبار صفةٍ من الصفات؛ الصفة المناسبة للمقام، والمقام من شأن عالم الوجود، وهذا العالم فيه مقاماتٌ تناسب كلَّ مقامٍ منها صفةٌ معينةٌ، فنلاحظ أنَّه تعالى عندما يذكر صفةً من صفاته في القرآن فإنَّها تكون مناسبةً للمقام، فلا يبدأ بالبسملة في سورة براءة مثلًا، ولولا الصفات الذاتية لما أَمكنَ الكلام في الصفات الفعلية، والصفات الفعلية يُنظر إليها من مقام الفعل، وهذا لا يعني أنَّها حادثةٌ كحدوث الإنسان، وإنَّما لا معنى للكلام عنها قبل الخَلْق، فهناك أمورٌ لا معنى للكلام عنها، فلا يُسأل: هل هي موجودةٌ أم ليست موجودة؟
لو سأل سائلٌ عن إرادة الله قبل الخَلْق، فلا يمكن الإجابة عليه بنفيٍ أو إثبات، فصفة الإرادة متعلقةٌ بوجود المراد، فالسؤال في غير محلَّه، بخلاف لو سأل عن العلم، فنُثبته لأنَّ المسألة ذاتيةٌ.
{142} الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن يحيى، عن أحمد بن محمَّد بن عيسى الأشعري، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن النَّضر بن سُويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت: لم يزلِ الله مُريدًا؟ قال: إنَّ المُريدَ لا يكون إلا لمُرادٍ معه، لم يزلْ عالمًا قادرًا ثمَّ أراد.
لم ينفِ الإمام (عليه السلام) الإرادة عنه تعالى، لكنَّه نفى كونه مُريدًا، لولا كونه عالمًا ولولا كونه قادرًا لما أراد، فالصفات الفعلية من جهةٍ هي فرعٌ للصفات الذاتية.
فائدةٌ:
في الصفات الشخصية وبناء الشخصية لا بدَّ أنْ أُميِّزَ بين الأصيل وما يتفرَّع عليه، فأنا كطالب علمٍ مثلا، أبحث عن الصفات التي ينبغي أنْ تكون فيَّ كَيْ أسير في هذا الطريق، والدراسة فعلٌ، فهذه راجعةٌ إلى ماذا؟ هي في الواقع راجعةٌ للعزيمة، فلا بدَّ أنْ أكون صاحب عزيمةٍ، ولا بدَّ أيضًا أنْ أكون عارفًا بمقام طلب العلم وهكذا. الأمور التي يطالبنا بها المقام راجعةٌ لصفاتٍ رئيسيةٍ، والرعاية لا بدَّ أنْ تكون هناك لتلك الصفات الأصيلة أوَّلًا، وإلا لنْ أُنتج وأتعرَّض للأذى وأُسبِّب الأذى للآخرين.
{143} الرواية الثانية: وعن محمَّد بن أبي عبد الله، عن محمَّد بن إسماعيل، عن الحسين بن الحسن، عن بكر بن صالح، عن عليِّ بن أسباط، عن الحسن بن الجَهْم، عن بُكير بن أَعيَن، قال: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): عِلْمُ الله ومشيَّته هما مُختلِفانِ أو متَّفِقان؟ فقال: العِلم ليس هو المشيَّة، ألا ترى أنَّك تقول سأفعل كذا إنْ شاء الله، ولا تقول سأفعل كذا إنْ عَلِمَ الله، فقولك إنْ شاء الله دليلٌ على أنَّه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، وعِلْمُ الله سابق المشيَّة.
كيف يشاء الله تعالى؟ إذا عَلِمَ الله شاء، فلا مشيئة بلا علم، وهي متأخرةٌ عنه.
سأل السائل عن هذه المسألة لأنَّ الفواصل بين هذه الأمور دقيقةٌ جدًّا، كما هو الحال بين صِفتي الإرادة والمشيئة مثلًا.
{144} الرواية الثالثة: وعن أحمد بن إدريس، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة مِنَ الله عزَّ وجلَّ ومِنَ الخَلق؟ قال: فقال: الإرادة من الخَلق الضميرُ وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأمَّا من الله فإرادته إحداثه لا غيرُ ذلك، لأنَّه لا يُرَوِّي ولا يَهُمُّ ولا يَتفكَّر، وهذه الصفات منفيَّةٌ عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غيرُ ذلك، يقول له كُن فيكون بلا لفظٍ ولا نُطقٍ بلسانٍ ولا هِمَّةٍ ولا تَفَكُّر، ولا كيف لذلك كما أنَّه لا كيف له.
سُئِلَ (عليه السلام) عن الفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الإنسان، فالإنسان يُريد والله تعالى يُريد، فأَوضَحَ الإمام (عليه السلام) الفرق بينهما، قال: "الإرادة من الخَلقِ الضميرُ وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل" فالإنسان يتصوَّر ثمَّ يفعل بناءً على هذا التصور، فتصور الشيء هو منشأ الإرادة، وفعل الشيء على وِفقِ ذلك التصور هو مظهر الإرادة وتحقُّقها، أمَّا الله تعالى "فإرادته إحداثه لا غير" فإنَّه لا يتصور ثمَّ يريد ويفعل، لا كالإنسان، وبما أنَّ إرادته إحداث الشيء فنحن إرادته والجبال إرادته وهكذا، وذلك لأنَّه تعالى "لا يُرَوِّي ولا يَهُمُّ ولا يَتَفَكَّر" وهذه الصفات منشأ الإرادة وهي "منفيةٌ عنه وهي صفات الخلق".
{145} الرواية الرابعة: وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن عُمَرَ بن أُذينة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: خَلَقَ الله المشيَّة بنفسها ثمَّ خَلَقَ الأشياء بالمشيَّة.
هذه الرواية وَصَفَهَا بعض العلماء بأنَّها من الأسرار التي يعجز الإنسان عن كشف اللثام عنها، وبعضهم حرَّم الكلام فيها لأنَّها تتعلق بالذات، وبعضهم أقرَّ بذلك ولم يمنع محاولة الكلام فيها بشرط أنْ لا يُتحدَّث فيما لا يجوز، والوجه في ذلك أنَّ المشيئة إذا كانت مخلوقةً، فخَلْقُها يحتاج إلى مشيئةٍ فنقع في التسلسل.
وقد ورد في بعض الروايات أنَّ المشيئة هي نفس الفعل، فإذا فعل الله تعالى فعلًا فنفس هذا الفعل هو مشيئته، فلا تُقاس على مشيئة الإنسان، وقد ورد في بعض الزيارات: (نحن محالُّ مشيِّة الله)، ولم يَردْ عنهم: (نحن مشيَّة الله). فمن بعض التوجيهات التي توافق بعض البحوث الكلامية والفلسفية أنَّ هذه المشيئة المخلوقة والمُودَعة في أهل البيت (عليهم السلام) هي التي خُلِقت الأشياء بها.
الإرادة هي الاختيار والقدرة على الترك، والأفعال الاختيارية كاشفةٌ عن إرادة الإنسان.
ننظر في جواب الإمام الكاظم (عليه السلام) في الرواية التي مرَّت -وهي الثالثة من هذا الباب- عن صفوان بن يحيى، وقد قال: "الإرادة من الخَلقِ الضمير، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل"، فالإنسان يَتصوَّر ثمَّ يُصدِّق ثمَّ يَفعل، فالإرادة عنده تدرُّجية، أمَّا في الله تعالى قال: "وأمَّا من الله فإرادته إِحداثه لا غير ذلك" فالله تعالى إرادته الإحداث لا غير، ولا تدرُّج فيها، ففعله هو العِلم.
ستمر علينا فيما يأتي روايةٌ تقول أنَّ الإرادة والمشيئة اسمان لأمرٍ واحد، فلاحظ.
إذن وَصفُ الله تعالى في مقام الذات بأنَّه مُريدٌ يكون بمعنى أنَّه مختار، ووَصفُه في مقام الفعل يكون بمعنى أنَّه مُوجِدٌ ومُحدِث، فالحديث عن إرادة الله يقع في مقامين، مرةً في مقام الذات وأخرى في مقام الفعل.
نقلًا عن بعض العلماء بتصرُّف:
ثمَّ إنَّ ما يمكن تصوره بالنسبة إلى الفعل الصادر عن الفاعل هو إحدى الصور الأربع التالية:
الأولى: أنْ يكون الفاعل فاقدًا للعلم، يفعل لا عن علمٍ، وهو لا يجوز على الله تعالى.
الثانية: أنْ يكون الفاعل عالمًا فاقدًا للإرادة، يعلم ولكنَّه فاقدٌ إمَّا لإرادة الاختيار أو لإرادة الفعل، وهذا لا يجوز على الله سبحانه وتعالى.
الثالثة: أنْ يكون الفاعل عالمًا ومُريدًا ولكنْ عن كراهةٍ لفعله، وذلك لأجل وجود قدرةٍ قاهرةٍ عليه مثلًا، وهذا لا يجري على الله سبحانه وتعالى أيضًا.
الرابعة: أنْ يكون الفاعل عالمًا ومُريدًا وراضيًا بفعله، وفاعلية الباري سبحانه وتعالى تكون من هذا النوع، فهو فاعلٌ عالمٌ مُريدٌ مالكٌ لزمام فعله وعمله.
الفرق بين الإرادة والمشيئة:
أمَّا بالنسبة إلى الله تعالى فالظاهر أنَّ الإرادة والمشيئة متَّحدان في المعنى رغم اختلاف التسمية، استنادًا لقول الإمام الرضا (عليه السلام): "أنَّ الإبداعَ والمشيئةَ والإرادةَ معناها واحدٌ وأسماؤها ثلاثة".
كيف نتعامل مع ما قاله الإمام الرضا (عليه السلام)؟
في الواقع أمامنا احتمالان: الأول أنَّها أمرٌ واحدٌ من جميع الجهات ولا فرق بينها مطلقًا، والأسماء متعدِّدةٌ فقط، والثاني أنَّها أمرٌ واحدٌ من جهةٍ، وأسماؤها متعدِّدةٌ، وتعدَّدت الأسماء للاختلاف في جهاتٍ أخرى، فنسأل هل هذا خلاف الظاهر؟ الجواب أنَّه ليس خلاف الظاهر لكنَّه خلاف الفهم الأوَّل لهذا النص، فلاختيار الاحتمال الثاني نحتاج إلى نصوصٍ أخرى، وهذه النصوص موجودةٌ، فتُوجَد بعض النصوص التي تفسِّر الرواية بخلاف تفسيرها للمشيئة، ولكنْ هل هذه التفاسير تكشف عن الاختلاف بينهما، أو أنَّها تتحدَّث عنهما مرةً من جهةٍ ومرةً من جهةٍ أخرى، فتُطلِق في أحد المقامات اسمًا وفي المقام الآخر اسمًا آخر؟ بمعنى أنَّها واحدةٌ من جميع الجهات، لكنَّ المعصوم يتحدث عن جهةٍ واستعمل في أحد النصوص لفظة (إرادة) وفي نصٍّ آخر استعمل لفظة (مشيئة)، فيبقى كلام الإمام الرضا (عليه السلام) كما هو، والاختلاف في الأسماء يكون لسبب الاختلاف في البيان فقط، ولو أردنا الوقوف على حدود المسألة فإنَّنا نحتاج إلى بحثٍ في الإرادة والمشيئة.
ويُوجَد تفسيرٌ آخر للإرادة والمشيئة، وهي أنَّ الإرادة هي أمر الله تعالى، وإنَّما أمره إذا أراد شيئًا أنْ يقول للشيء كُن فيكون، أمَّا المشيئة فتعني أنَّ الله تعالى قادرٌ على منع العباد عمَّا يريدون فعله وهم غير قاهرون لله تعالى، بمعنى أنَّ إرادتهم غير خارجةٍ عن القدرة الإلهية، وهذه هي المشيئة.
عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، قال: "إنَّ لله إرادتين ومشيئتين، إرادة حَتْمٍ وإرادة عَزْمٍ، يَنْهَى وهو يشاء ويأمر وهو يشاء، أَوَمَا رأيتَ الله نَهَى آدم (عليه السلام) وزوجته أنْ يأكلا من الشجرة وهو شاء ذلك، إذ لو لم يشأْ لم يأكلا، ولو أكلا لغَلَبَتْ مشيئتهما مشيئة الله تعالى، وأمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح ابنه وشاء أنْ لا يَذْبَحَه، ولو لم يشأْ ألَّا يذبحه لغَلَبَتْ مشيئة إبراهيم (عليه السلام) مشيئة الله عزَّ وجل".
ومِثل هذا نجده في حياتنا، فنُهيِّئ كلَّ المقدمات لتحقيق أمرٍ ما لكنَّنا لا نتمكن منه، مع احتمال تقصيرنا في تحقيق المقدمات، وقد يكون الله أراد لنا ذلك.
فائدةٌ:
لو واجهتنا مِثل هذه الحالة، كما لو سعينا في تحقيق أمرٍ ولم نتمكن منه، ولا نعلم إنْ كان بسبب تقصيرنا في المقدمات أم أنَّ الله أراد لنا ذلك، فممَّا ينفع في مثل هذه الأمور طلب الإلهام من الله تعالى، عن طريق الدعاء والاستخارة وغيرها من الأعمال، مع الإصرار عليها، ومن أفضلها صلاة الاستخارة الواردة عن المعصومين (عليهم السلام).
في أحد التوجيهات للرواية قال بعضهم أنَّ الحديث في الرواية محلِّ الكلام إنَّما هو في مشيئة الإنسان لا مشيئة الله تعالى.
{146} الرواية الخامسة: وعن عِدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد بن خالد، عن أبيه، عن ابن أبي عُمير، عن ابن أُذينة، عن محمَّد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: المشيَّة مُحْدَثَةٌ.
الكلام في هذه الرواية كسابقتها.
{147} الرواية السادسة: محمَّد بن عليِّ بن الحسين في الأمالي والتوحيد، عن القطَّان، عن السُّكَّري، عن الجوهري، عن محمَّد بن عُمَارة، عن أبيه، قال: سألتُ الصادقَ جعفرَ بن محمَّدٍ (عليه السلام) فقُلتُ له: يا ابن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) أخبرني عن الله، له رضًا وسَخَط؟ فقال: نعم، ولكنْ ليس على ما يُوجَد في المخلوقين، ولكنَّ غَضَبَ الله عِقابه، ورِضاه ثوابه.
أيْ أنَّه لا يغضب ثمَّ يُعاقِب، فغضبه هو عقابه، وعندما نتحدث عن المعاني فلا وَعْيَ لنا بها إلا بفعلها، أيْ أنَّ تعلُّقَنا بالإثبات، هذا بالنسبة للإنسان.
الرضا والسَخَط نتيجته العقاب والثواب بالنسبة للمخلوقين؛ أيْ لا كلَّما رَضيتُ أَثَبْتُ ولا كلَّما سَخطتُ عاقبت، ولكنْ كيف هو الأمر بالنسبة لله تعالى إذ أنَّه يرضى ويسخط كما في النصوص؟
الرضا والسَخَط منه تعالى صُغرَى إلى كُبرى مرَّ الحديث عنها سابقًا، ونستعرضها فيما يأتي أيضًا.
تنبيهٌ:
هناك أمورٌ نذكرها في الدرس لم تُذكرْ في كُتُبِ علم الكلام والعلوم العقلية، وتوجد نتائج لم يتوصَّل لها من سَبَقَنا ونقول أنَّنا توصَّلنا إليها، فإذا كان الطالب يستوحشها فإنَّها تزول من ذهنه سريعًا، فلا بدَّ له من التخلُّص من هذا الاستيحاش، فإنْ كان الرأي يُناقَش ويُردُّ عليه فيجب مناقشته وردُّه، وإذا كان لا يُردُّ عليه فليس من الصحيح رفضه لأنَّهم لم يتطرَّقوا له في الكتب.
واجهتنا مشكلةٌ في أفعال الله تعالى، فنحن الآن نَدرُس وهناك كلمةٌ ستُقال بعد ثوانٍ، وكلمةٌ بعد دقيقةٍ، وأخرى بعد عشر دقائق، ونحن ننتظر هذا الوقت لينقضي لنقف على ما يحدث فيه، ولكنْ كيف هو ربُّ العالمين بالنسبة لهذه الأفعال المحكومة بالزمان والمكان؟ هل ينتظر مثلنا أم لا؟ وبطبيعة الحال هو لا ينتظر، إذًا كيف نفهم هذه الحالة؟
نُجيب أولًا عن النصِّ الوارد في الرواية الشريفة فنقول: هذا أمرٌ موجودٌ يُغضِب الله تعالى، وليَكُن قتل النفس المحترمة مثلًا، ولكنَّه لم يقعْ بعد، فإذا ارتكبه زيدٌ عُوقِب، والعقاب مَظهرٌ لغضب الله تعالى المتحقِّق بالارتكاب، فالعقاب يكون في نفس الوقت، والله سبحانه وتعالى لا ينفعل بفعل فلانٍ، فعندما نقول هذا الفعل اهتزَّ له عرش الله تعالى، فلا يعني هذا أنَّ العرش لم يكنْ يهتزُّ ثمَّ اهتزَّ، وإنَّما اهتزاز العرش واضطرابه هو نفس هذا الفعل، فنفس هذا الفعل يستبطن أمورًا تكوينيةً لا يمكن أنْ تتخلَّف عنه، ولو جاء فردٌ لقتل فردٍ مستحقٌ للقتل في حالةٍ أخرى، فهنا أمران: القتل يُغضِب الله تعالى، والأمر الآخر أنَّ الفرد مستحقٌ للقتل، فهذه عناوين تدخل في نفس الفعل، وهذه العناوين لها مَظهرٌ راجعٌ لله سبحانه وتعالى؛ أيْ أنَّ فعله تعالى موجودٌ منذ الأزل، ويُظهِره ارتكاب الخَلْقِ له، أيْ أنَّه لا يَحدُث، فهو سبحانه وتعالى لا ينفعل بأفعال الإنسان، فغضبه موجودٌ ورضاه موجودٌ لكنْ متى يكون له تحقُّقٌ وفعلية؟ يكون ذلك عندما يُرتَكب ما يستوجبها، فنفس المثوبة تظهر إذا كانت علَّتها التامة موجودةً، بخلاف ما لو كانت مشوَّشةً بأمورٍ أخرى، فتتأثَّر المسألة بهذا القَدَر.
جاء من أَشْكَلَ فقال إنَّكم تقولون أنَّ الله تعالى -بناءً على ما مرَّ- يعلم بالكلِّيات ولا يعلم بالجزئيات، وهذا الكلام باطلٌ، لأنَّه غيرُ موجودٍ في علم الله من أصلٍ، لأنَّه من حاجات الفقير لا الغني المطلق، فهذه التفصيلات لا تجري في حقِّ الله، فهو عِلمٌ واحدٌ لا نتمكَّن من تصوره لحاجتنا للفرز والتفصيل في عِلمنا.
بيان كُبرَى القياس:
في القضاء والقَدَرِ نُهينا عن الكلام، لأنَّه ظلماتٌ وغير ذلك من التوصيفات الواردة في الروايات، وهو فعلًا كذلك، فلا يمكن أنْ نُحيط به، أمَّا معنى القضاء والقدر فهو أمرٌ آخر نحتاج لفهمه، فإذا خطوتُ خطوةً فهو قَدَرٌ وقضاؤه تحقُّق الانتقال، وعندما أَقولُ كلمةً فهو تقديرٌ ومعه قضاءٌ لازمٌ لا يتخلَّف عنه، وإذا تحرَّكتِ الشمس من نقطةٍ لأخرى فانتهاؤها لتلك النقطة قضاءٌ، وهكذا، لذلك لا نتعجَّب عندما تُقضى حوائج بعض عَبَدَة الأصنام والمشركين، كمن يتمسَّح ببوذا أو غيره وهو معتقدٌ بقضاء حاجته ويدعو عِندَه فتُقضَى حاجته، وكذا لا نتعجَّب من قضاء أو عدم قضاء حاجة المؤمن إذا دعا ربَّه، وإنْ كان تحت قُبَّة الإمام الحسين (عليه السلام)، فالدعاء تحت قُبِّته (عليه السلام)، والكون على طهارةٍ، وغير ذلك من أمورٍ كلُّها مُقتَضيات، وليستْ علةً تامةً للاستجابة، كما هو الحال في غير المقام، لذلك لو وُجِدت بعض الموانع فلا تُقضَى الحاجة، ولكنْ إذا تمَّت المُقتَضيات وزالت الموانع فإنَّ الحوائج تُقضَى، فنحن نحيا في هذه الدنيا وُفْق قوانينها، فلاحظ.
الحياة الدنيا عبارةٌ عن قوانين ثابتةٍ، فمهما فعلنا وعبثنا فإنَّنا نكون داخل هذه القوانين ولا نخرج عنها، وهذه القوانين هي تقديرات الله تعالى وقضاءاته، فلو أَمسكتُ شيئًا وقُلتُ سأُمسِكه ولن يكون مَمْسوكًا به، نقول هذا مستحيلٌ، لأنَّ القانون التكويني يقول أنَّك إذا أَغلقتَ كفَّك على شيءٍ فالنتيجة أنْ تكون مُمسكًا به، وهذا ما نقصده بالتقديرات والقضاءات، وهذه هي الكبرى التي يُقاس عليها، ورضاه وغضبه تعالى من صُغرَيات هذه الكُبرَى، فلو صلَّى إنسانٌ طاعةً لله تعالى فهو تقديرٌ وقضاؤه الرحمة ورضا الله تعالى، ولا يمكن أنْ يكون إلا هكذا، وعلى خلافه المعصية فقضاؤها السَخَط والغَضَب والعقاب.
{148} الرواية السابعة: وفي التوحيد، عن محمَّد بن الحسن بن الوليد، عن الصفَّار، عن محمَّد بن عيسى اليَقْطِيني، عن سليمان بن جعفرٍ الجعفري، قال: قال الرضا (عليه السلام): المشيَّة من صفات الأفعال، فمن زَعَمَ أنَّ الله لم يزلْ مُريدًا شائيًا فليس بمُوحِّدٍ.
صفات الأفعال تَظهر في الفعل، فلا معنى لها ما لم يكن لها متعلَّق؛ أيْ لا موضوعية لها ما لم يكن الموضوع موجودًا، فإرادة الله تتعلَّق بأمرٍ خارجيٍّ، فما لم يوجد هذا الموجود الخارجي ينتفي الموضوع من أصل، فلا تُوصَف هذه الصفات بالقِدَم.
عندما نقول: الله رازقٌ قبل المرزوق وعالمٌ قبل المعلوم وسامعٌ قبل المسموع، كما مرَّ في بعض الروايات، فما الفرق بينها -أيْ هذه الصفات- وبين الإرادة والمشيئة؟ فإنَّنا لا نقول: الله مُريدٌ قبل أنْ تتعلَّق إرادته بموجودٍ خارجي، وكذا المشيئة؟ الإرادة والمشيئة في العلم، فتحتاج لتعلُّق العلم بالموجود الخارجي حتى تُوجَد فيه، وتحتاج إلى تعلُّق الرازقية بأمرٍ خارجيٍّ حتى تُوجَد فيه، وتحتاج إلى أنْ تتعلَّق هذه الصفات من الله تعالى بأمرٍ خارجيٍّ فتُوجَد الإرادة والمشيئة فيها، فالإرادة والمشيئة ناتج طرفين، فلا ينتفي العِلم عن الله تعالى مع عدم وجود المعلوم في الخارج، لكنَّ الإرادة والمشيئة تنتفيان لأنَّهما لا تتعلَّقان بوجود العلم، وإنَّما بوجود الطرفين، العالم والمعلوم، والسامع والمسموع، وهكذا، فإذا تحقَّق الطرفان تأتي الإرادة والمشيئة، فظرف الإرادة والمشيئة هما الطرفان (العالم والمعلوم).
{149} الرواية الثامنة: وفي عيون الأخبار عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله أو من المخلوقين؟ فقال: الإرادة من المخلوقين الضَّميرُ له وما يبدو له بعد ذلك من الفعل، وأمَّا من الله عزَّ وجلَّ فإرادته إِحداثه لا غيرُ ذلك، لأنَّه لا يُروِّي ولا يَهُمُّ ولا يَتَفَكَّر، وهذه الصفات منتفيةٌ عنه وهي من صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غيرُ ذلك ... الحديث.
مسألةٌ في ثبوت الكُتب:
ثبوت نسبة الكتب لأصحابها أو عدم ثبوتها لا ينتهي عندها التحقيق في الرواية، فلو لم تثبتْ نسبة أحد الكتب لصاحبه، وليكنْ كتاب عيون الأخبار، فآتي لروايةٍ وردت فيه، وأتعامل معها على مراحل كما يلي:
1/ أنظر إنْ كانت وردتْ مضامينها في الكتب الأصول أو لا.
2/ أنظر في المجاميع الحديثية للمتأخرين إنْ نقلتها أو لا.
3/ أنظر في موقف العلماء من مضامينها، لا من نفس الرواية.
4/ أنظر إنْ كانت موافقةً للقرآن والسُنَّة المُحكَمة أو لا.
وذلك لأنَّ تعاملي ليس مع الكتاب ككتاب، ولكنْ مع الروايات الواردة في هذا الكتاب، وهذه المسألة في غاية الأهمية في التعامل مع الكتب التي لم تثبتْ نسبتها لأصحابها، والتصريح بعدم ثبوت بعض الكتب يصنع حواجز بين عامَّة الناس والكتاب، وكذا بين طلبة العلم والكتاب.
ينبغي أنْ نلاحظ عناوين الكتب لأنَّها محلُّ عنايةٍ من المؤلفين عادةً، مثلًا هذا الكتاب عنوانه (عيون أخبار الرضا)، فيفيد أنَّ من جمع الأخبار اعتنى باختيارها.
تشير هذه الرواية للكلام الذي سبق منَّا في الرواية السادسة في قوله (عليه السلام): "لا يُروِّي ولا يَهُمُّ ولا يَتفكَّر وهذه الصفات مُنتفيةٌ عنه" في حديثه عن الله تعالى. فإرادته إحداثه، فيأتي الإشكال هل أنَّه لم يكن مُريدًا ثمَّ أراد، نقول لا فالإرادة تحتاج إلى شيءٍ تتعلَّق به، لا أنَّه لم يكن مريدًا.