ارتبطت هوية الإسلام منذ بزوغ فجره بالمنبر. ولم تكن وظيفة المنبر منحصرة في الوعظ والإرشاد وإنما كان بمثابة مركز إدارة الدولة بأسرها، فكان المنبر الديني الذي تعلم من خلاله المسلمون الأوائل تعاليم الدين الحنيف هو ذاته المنبر السياسي الذي تدار من خلاله شؤون الدولة، وهو ذاته منبر القضاء الذي يتم منه وعليه الحكم في القضايا والفصل بين المتخاصمين، وهو ذاته موقع بث الحماس في نفوس المقاتلين، وغيرها الكثير الكثير من الوظائف التي تشير بوضوح إلى مركزية المنبر الإسلامي. وقد تضاءل هذا الدور شيئاً فشيئاً لاسيما مع سياسة فصل السلطات، فتمايز المنبر الديني عن المنبر السياسي على سبيل المثال. إلا أن ثورة الحسين عليه السلام، أعادت للمنبر جزءً كبيراً من وظيفته الأساسية، فكان المنبر الحسيني بمثابة الإحياء لمنبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع فارق بُعدي الإدارة السياسية والقضاء، باعتبار أن قيادة الدولة الإسلامية قد أُبعدت عن أهل البيت عليهم السلام وصارت في غيرهم بالنسبة للبعد السياسي، وتبعية القضاء للنظام السياسي بالنسبة للقضاء. فكما كان منبر رسول الله (ص) عاكساً لهوية الدين الإسلامي، أصبح المنبر الحسيني عاكساً للهوية الإسلامية لدى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام. ولعل هذا الموقع المركزي للمنبر الحسيني، بالإضافة إلى جملة من الأمور الأخرى، هو ما حافظ على هوية المذهب من جهة، ودور المنبر من الجهة الأخرى.
من هنا تبرز أهمية الحديث عن موقع ودور المنبر الحسيني، والذي مر منذ بدايته بأربعة أدوار تاريخية، كان أولها مرحلة التأسيس، وهي فترة الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والتي تمتد من الواقعة الأليمة في كربلاء سنة 61 للهجرة حتى سنة 328 للهجرة مع بداية الغيبة الكبرى للإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف. أما المرحلة الثانية، فقد بدأت مع نشوء الدول الشيعية كالدولة الفاطمية في مصر والدولة البويهية في بغداد، والدولة الحمدانية في حلب، حيث عمدت هذه الدول إلى إنعاش المنبر الحسيني، لينتقل من الخفاء إلى العلن. ففي حلب مثلاً بدأ انتشار المنابر الحسينية ومجالس العزاء تقريباً منذ العام 334 للهجرة، ثم سُجلت أول عطلة رسمية بمناسبة عاشوراء الحسين عليه السلام في عهد معز الدين البويهي سنة 352 للهجرة، ثم بعدها بعقد من الزمان، أي في سنة 362 للهجرة بدأت القاهرة في إقامة المجالس الحسينية حين دخلها معز الدين الفاطمي، وذلك في أعقاب تأسيس القاهرة. أما المرحلة الثالثة فقد بدأت منذ سقوط الدولة الفاطمية سنة 457 للهجرة حتى القرن الرابع عشر الهجري، والتي تميزت بحالة من الركود في المنبر إذ تضاءل الدور التربوي والتوعوي والنهضوي للمنبر الحسيني حتى انحصر في جلد الذات والبكاء والنحيب. ويستثنى من هذه الحالة العامة، الدولة الصفوية وما بعدها في بلاد فارس والتي اهتمت بالمنبر حتى احتل الموقع الأبرز كأداة إعلامية ساهمت بشكل كبير في نشر فكر ومنهج أهل البيت عليهم السلام. أما المرحلة الرابعة، فقد بدأت مع بدايات القرن الرابع عشر الهجري تقريباً (القرن العشرين ميلادي) مع ما شهدته وسائل وأدوات الإعلام من تطور ملموس، ونشطت فيه حركة التأليف والطباعة، فبرزت في هذه المرحلة، بالأخص في النجف الأشرف، أسماء لامعة تركت أثراً بارزاً في تطوير المنبر الحسيني من خلال إعادة دوره المحوري في حياة الإنسان المسلم، والتي كان من بينها الشيخ كاظم سبطي، والسيد صادق الحلي، والشيخ محمد علي يعقوب والشيخ الدكتور أحمد الوائلي رحمة الله عليهم أجمعين.
وعلى الرغم من أن المؤرخين يضعون العصر الحالي ضمن هذه المرحلة الأخيرة، أي المرحلة الرابعة من الأدوار التاريخية للمنبر الحسيني، إلا أن الخشية بالفعل تكمن في أنه مع رحيل رجالات منبر هذه المرحلة قد بدأ هذا المنبر مرحلةً خامسة، هي أشبه بالمرحلة الثالثة، التي انحصر فيها دور المنبر كما أشرنا في البكاء والنحيب وجلد الذات، الأمر الذي يستدعي الالتفات والاهتمام للحفاظ على مسيرة التطور والارتقاء التي تميز بها الدور الرابع.
ورغم أننا لا نرمي في هذه السطور إلى الخوض في تفاصيل الأسباب والظروف التي أدت إلى مثل هذه الحالة من التراجع في دور المنبر، إلا أنه لابد من الإشارة ولو بعجالة إلى بعض المظاهر، تاركين الأمر لأهل الاختصاص لإيجاد المعالجات الجذرية الناجعة لتفادي هذا التقهقر، وتصحيح المسار، على الأقل للحفاظ على مكتسبات العصر الأخير من حيث محورية المنبر الحسيني في الرقي بالمجتمع الإسلامي وفق منهج العترة الطاهرة عليهم ونبينا الكريم أفضل الصلاة وأزكى التحية والسلام.
فمن بين الأسباب الملحوظة، أو المشاهدات إن صح التعبير في واقع المنبر الحسيني اليوم، نجد مسألة التحول في الدور الوظيفي للخطيب من ممارسة الدور الرسالي إلى الامتهان. ففي حين يفرض الدور الأول على الخطيب الاجتهاد في الخطابة للرقي بالخطاب إلى مستوى مضمون الرسالة، يكون اجتهاده في الدور المهني، أي اعتبار الخطابة مهنة يعتاش منها الخطيب، مُنصَبًّا في إرضاء الأذواق، والشهرة، وزيادة قاعدة المستمعين والمؤيدين والمتابعين، وهي المساعي الطبيعية لأي عمل تجاري، حيث يكون غرض المؤسسة هو تحقيق الأرباح من خلال زيادة عدد الزبائن، ولتحقيق هذه الزيادة لابد من إرضاء الزبون. وبمعنى آخر، فإن زمام التوجيه انتقل من يد الخطيب إلى يد المخاطَب (بفتح الطاء). وهذا لا شك تحولٌ خطير، ليس أقل مظاهره ما نشهده اليوم بكل أسف من بِدعٍ لها أولٌ وليس لها آخر، لدى العامة يباركها ويؤيدها، بقصد أو بغير قصد، بعض الخطباء. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لتسليط بعض الضوء على هذه الظاهرة في الحلقة التي سنخصصها بإذنه تعالى للحديث عن مسألة الشعائر الحسينية باعتبارها أحد مظاهر إحياء ذكر أهل البيت عليهم السلام.
المسألة الأخرى التي لابد من التوقف عندها هي مسألة ثقافة الخطيب، ونعنى بالثقافة هنا تحديداً مستوى معرفة الخطيب في ما يطرح من مواضيع ولو من باب الاستشهاد، بالإضافة إلى المعرفة والاطلاع الديني، وهو بُعدٌ رئيسٌ للخطيب. ولعل أبرز هذه المشاهد ما نلحظه من تبني بعض الخطباء، روايات شاذة أو ضعيفة يتمسك بها الخطيب عند طرحها مع علمه المسبق بضعفها أو شذوذها في الكثير من الأحيان، فنراه على سبيل المثال يُسهب في التركيز على المصادر التي أوردت هذه الرواية، ويصل بعضهم للأسف لحالة من التحدي في هذا الإثبات، حتى يكون الوقت المخصص في هذه المقدمة الإثباتية أكثر من الوقت الذي يستغرقه عرض الرواية أو استخلاص الدروس والعبر منها. ولعل من بين أسباب هذا السلوك، إلى جانب حب التميز والظهور لدى البعض ولا نقول الجميع، وهو ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة، هو ضعف المعرفة الدينية التخصصية، وعلى وجه الخصوص نعني دراية الحديث، والتي تقوده إلى انتقاء ما يناسب موضوعه دون عناية ورعاية للاقتباس أو الدلالة. يبرز هذا السلوك في الوقت الذي يؤكد فيه أعاظم فقهاء مذهب أهل البيت عليهم السلام، عبر التاريخ، على أن منهج أهل البيت عليهم السلام لا يُقر بأي شكل من الأشكال بوجود كتاب صحيحٌ كلُّ ما فيه، من الدفة إلى الدفة، سوى كتاب الله المجيد.
المسألة الثالثة، تتمثل في انصراف الخطيب عن مضمون الرسالة بانشغاله بالرد على انتقادات هامشية أو بمواضيع جدلية لا طائل منها، لاسيما وأن فئة من مدِّعي الثقافة ينشطون مع بداية موسم عاشوراء تحديداً في اقتناص فرصة هنا وأخرى هناك لإثارة الجدل تحت ذريعة النقد. ولا نقول هنا أنه ينبغي تجاهل النقد أو منعه، إذ لا غنى عن الدور الذي يلعبه النقد السليم باعتباره صمام أمان يدفع مسيرة التطور في اتجاه تصاعدي ويمنع التقهقر والانحدار، إلا أنه ينبغي التمييز بين النقد البناء والانتقاد لأجل الظهور والمماراة، كما ينبغي أن يكون الرد، إذا ما تطلب الرد، بحجم النقد وتأثيره دون إسهاب يحرف بوصلة الحديث عن المضمون الرسالي.
نكتفي بهذه المشاهد العابرة، والتي إنما أردنا من خلالها قرع ناقوس التنبيه وتوجيه رسالة إلى كل من يعنيه الأمر بضرورة اتخاذ الخطوات العملية الجادة، ونقول الخطوات العملية لا مجرد الخُطب أو الفتاوى أو ما شابه ذلك، نحو تصحيح مسار المنبر والحفاظ على مكانته ودوره، لاسيما في إبراز علوم أهل البيت عليهم السلام، وتربية المجتمع وفق المنهج القويم، تماماً كما كان توجيه السادة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين في إحياء أمرهم: “يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا..”.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.