من المهم في قراءة سيرة أهل البيت عليهم السلام الاعتناء بأمرين:
الأول: كون أدوارهم على وفق قاعدة "تعدد أدوار ووحدة هدف"، فكل إمام في زمانه يتحرك داخل دائرة الهدف المشترك لدولة رسول الله (ص) ويسري منهجه (ص) في منهج كل إمام بغض النظر عن تغير ظرفيته الزمانية والمكانية؛ وهذا معنى ما ورد في الرواية عن الإمام الباقر (ع): وكلنا واحد من نور واحد وروحنا من أمر الله، أولنا محمد وأوسطنا محمد وآخرنا محمد وكلنا محمد.
الثاني: أن مناهج حركة المعصومين (ع) مناهج تراكمية متداخلة في بعضها، بمعنى أن الإمام اللاحق يعتمد على نتاجات من سبقه ويبني عليها مشروعه الجديد.
فالنبي (ص) دوره في سلسلة أهل البيت (ع) دور المؤسس الذي ثبت أركان الدين وعمل على إبقائها رغما عن صنمية قريش وتيار الكفر والجاهلية، وهذا الوصف نقرأه في دعاء الصباح (والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول..). ثم جاء من بعده أمير المؤمنين (ع) وكانت وظيفته تمييز جبهة الحق بعد انقسام المسلمين إلى طوائف وفرق متعددة الآراء، وهذا معنى كونه فاروقًا كما روت ذلك مصادر العامة كمثل ما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب عن أبي ليلى الغفاري، أنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: سيكون بعدي فتنةٌ، فإذا كان ذلك فالزموا علي بن أبي طالب فانّه الفاروق بين الحق والباطل.
وهذا يدلل على أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) هو معيار التمييز بين المؤمن الحق من غيره (ولولا أنت يا علي لم يعرف المؤمنون بعدي وكان بعده هدى من الضلال ونورًا من العمى).
ثم جاء دور الإمام الحسن المجتبى (ع) في السلسلة مع الأخذ بالإعتبار أنه دوره ثنائي مشترك مع أخيه الحسين (ع)، والمعية واضحة في ألسنيات الروايات (الحسن والحسين سيدا.. إمامان..)، ودور الحسن (ع) بالتحديد في هذه الثنائية تأسيس نظام التعامل في الوسط الداخلي للمسلمين وتنظيم علاقة المذاهب بعضها ببعض.
تنبيه لابد منه: كل إمام بالنظر إلى كونه مؤسسًا لمشروع جديد فإنه ينبغي أن لا ينظر إلى ظروف زمانه فحسب، بل لابد أن يكون عمله مراعيًا لظروف من سيأتي من بعده ليكون القانون جاريًا سيالًا فيما بعد؛ ومن هنا تعرفوا مثلًا سبب صلابة أمير المؤمنين (ع) في أثناء قيادته السياسية وكيف رفض أنصاف الحلول وعمد إلى تطهير الدولة من كل فاسد والجيش من كل خائن، لإنه في دور المؤسس لأول دولة واضحة لأهل البيت (ع) فلا بد أن تعكس حقيقة الحاكمية لهم (ع)، وهكذا الحال مع الإمام الحسن المجتبى (ع) فإنه في دور المؤسس لقانون العلاقات في الوسط الداخلي للإسلام.
والسؤال: ماهي القواعد التي إعتمد عليها الإمام الحسن (ع) في حفظ الوسط الداخلي؟
أولا: حفظ العهود والمواثيق واعتبارها منشأ السلم المجتمعي:
يقول كبار منظري السياسة العالمية أن منشأ وسبب الصراعات والحروب في العالم هو نكث العهود بين أطراف النزاع، إذ أنه بمجرد أن يخرم أحد الطرفين العهد ينتج عنه سلب الثقة من كلا الطرفين، وقد بين أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشتر في كتابه حينما ولاه مصر على أن منبع كل صراع هو الإخلال بالوفاء في العهود والمواثيق (وقد جعل الله عهده وذمته أمنا أفضاه بين العباد برحمته).
ومن هنا نعرف عظمة فكر الإمام الحسن (ع) الذي التزم بالعهود لمصالح عليا وهي إشاعة السلم المجتمعي في الوسط الداخلي للإسلام، وكان من دقته أن حافظ حتى على مرحلة المفاوضات التي سبقت توقيع الصلح رغم أن معاوية ارتكب خطئًا إستراتيجيًا بقدومه لمعسكر النخيلة في الكوفة وكان وقت ذاك تحت قبضة جيش الإمام الحسن (ع) وكان بمقدور الإمام أن يفتك به وليس في ذلك أي نقض للعهود لكونها في مرحلة التفاوض إلا أنه أصر على الالتزام الحرفي بالمبادئ الأخلاقية العالية حقنًا لدماء المسلمين، والشواهد على ذلك كثيرة منها ماورد في رده على بعض الشيعة الذين اعترضوا على صلحه مع معاوية، فقال (ع): (ما أردت بما فعلت إلا حقن الدماء فارضوا بقضاء الله وسلموا لأمره).
ومن هنا أسس الحسن المجتبى (ع) حرمة دماء المسلمين من بقية المذاهب الإسلامية، حَقَنَ دماءها وأصَّلَ لمبدأ السلم والتعايش الاجتماعي وهذا من صميم أهداف الإسلام الذي هو في تعريفه الأول عبارة عن وثيقة سلم بشري كما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي (فإن قومًا آمنوا بألسنتهم ليحقنوا به دماءهم فأدركوا ما أملوا)، ومن أهم ما يتمخض عن الانضمام للمجتمع الإسلامي هو قانون (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده). يقول الإمام المجتبى (ع): يا أيها الناس فإن الله قد هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا.
ولذلك هذا التعريف الدقيق للإسلام عالج العديد من المسائل الحساسة، منها علة وجوب قتل المرتد دون الكافر غير الحربي، كما بين ذلك الفقهاء من أن المرتد لمَّا خرج من الإسلام كأنه ألغى اتفاقية السلم وأعلن الحرب حتى وإن لم يحمل سلاحًا. كذلك فإن مسألة الجهاد الابتدائي وفتح الدول الكافرة لغرض أسلمة الأنظمة لا أسلمتها عقائديًا وفكرًا، الإسلام يريد بفتوحاته تحقيق مبادئ السلم لا البحث عن عناصر تدخل الإسلام إكراها وإلجاءً، وإلا فالدين يُقِرُّ أن بعض المسلمين يتعامل معهم مع ظاهرهم رغم كونهم يتساوون مع الكفار في نفاقهم (إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا).
ثانيا: إعلان التبري بشكل صريح:
من جمالية المشروع الحسني أنه في الوقت الذي أسس لِلُّحْمَةِ والتماسك مع بقية الطوائف من معتنقي الإسلام الظاهري، إلا أنه حافظ على كيان التشيع والمذهب الحق ولم يسمح بذوبان الهوية وهذا مايعبر عنه بالبراءة من الباطل.
والتبري لا يعني السب واللعن، التبري مشروع تعقيم الهوية من أي شائبة لئلا يمتزج الحق مع الباطل فتضيع البوصلة وهذا معنى ماورد في وصفهم عليهم السلام (لم تنجسك الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها).
من هنا نعرف لماذا كانت خطب الإمام الحسن (ع) أوضح الخطب من بين جميع الأئمة (ع) في إعلان البراءة، فقد تجد بقية المعصومين يستخدمون التلميح بينما تجد وضوحًا بالغًا في كلام المجتبى (ع)، والسبب في ذلك يعود إلى أن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في مرحلة تأسيسه لمبادئ التعايش مع المذاهب أراد أن لا يفهم من ذلك أن الوحدة تعني إلغاء الهوية والتنازل عن الحق. وهذه بعض نماذج خطبه عليه السلام:
لما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام ما كان من أمر أبي موسى في تخذيل الناس عن نصرته، أنفذ الحسن عليه السلام والأشتر وعمار إلى الكوفة. لما دخلوا المسجد صعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله وأثنى عليه وذكر جده فصلى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن عليًّا أمير المؤمنين باب هدى، فمن دخله اهتدى، ومن خالفه تردى.
روي أن أباه عليًّا (ع) قال له: قم فاخطب لأسمع كلامك، فقام (ع) فقال: إن عليًّا باب، من دخله كان مؤمنًا، ومن خرج عنه كان كافرًا.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل محمد