ما أن يقترب موسم عاشوراء من كل عام، لاسيما في السنوات الأخيرة، حتى نجد المواقع الإلكترونية والمجالس وموائد الحديث تعج بالحديث حول الشعائر الحسينية، بين مؤيد لبعض المظاهر، ومعارض لها، وبين متحفظ وداعٍ، وكلٌّ يسوق الدليل، أحياناً بالنقل وأخرى بالعقل، وتارةً بمجرد الترديد الأجوف الذي قلما يعي قائله معناه، فتطول السجالات وتصل للأسف إلى حد المهاترات في الكثير من الأحيان، وتصل في أحيانٍ ليست بالقليلة إلى حد القدح في شخوص علماء أفاضل وفقهاء لهم في العلوم الدينية باعٌ ليس يستهان به. كما نشهد، لاسيما في موسم عاشوراء الحسين عليه السلام، بِدعاً كثيرة ربما لم يكن يتخيلها عقلٌ سليم، يُطلقها مريدوها تحت عنوان “الشعائر”، ويصرون على الإتيان بها إصراراً غير طبيعي، فيظهر في المقابل من يصل في محاربتها إلى الحد التكفير أو الإضرار بأصل الشعائر أو حتى المعتقدات دون قصد. فما هي الشعائر؟ وهل الشعائر الحسينية تحديداً أمرٌ توقيفي يُعتبر كل ما عداه بدعة لا ينبغي العمل بها؟ وهل كل فعلٍ يُؤتى به تحت هذا العنوان هو أمرٌ جائز؟ وكيف يمكننا كعوام أن نميز بين الشعيرة والبدعة؟ هذا ما نحاول أن نسلط عليه بعض الضوء في السطور القادمة.
قبل الدخول في صلب الموضوع، لابد أولاً أن نقف عند معنى “الشعيرة” كمقدمة أولى، ومنشأ الشعيرة كمقدمة ثانية، ثم رأي أهل الاختصاص في ما يصح أن يكون شعيرة وما لا يصح كمقدمة ثالثة.
فالأصل في مفردة “الشعائر” ومفردها شعيرة، أنها العلامة الدالة على الشيء وهي الشعار، وهذا هو المعنى اللغوي للمفردة. أما في الاصطلاح، فالشعائر هي معالم دينية دالة على قدسيةٍ أو مكانةٍ معينة، وهي إما أن تكون شعائر فعلية أو مكانية أو اعتبارية، أي أن وجودها اعتباري لا حقيقي.
وبين ترجيح الأخذ بالمعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لأي مفردة، يشير آية الله الشيخ محمد السند في كتاب الشعائر الحسينية (ص61) بقوله: “بعد معرفة أن الأصل الأولي ومقتضى القاعدة الأولية هو أن الشارع إذا أورد عنواناً معيناً في دليل من الأدلة، فإنه يجب أن يبقى على معناه اللغوي، أي أن كل دليل ورد من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعية… فالأصل الأولي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفياً، سواء كان له وجود تكويني أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلا أن يجعل الشارع له وجوداً خاصاً بأن ينصب دليلاً على ذلك..“، ويخلص بعد عرض لجملة من القواعد والمقدمات إلى عُرفيَّة الشعائر، حيث يقول: “وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعل شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحج، وهناك موارد لم يتصرف الشارع بها، ولم يتخذ بخصوصها علامات معينة، وإنما اتخذ المتشرِّعة والمُكلَّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال مثلاً علامةً وشعاراً على معنى من المعاني الإسلامية. فتلك الموارد يشملها عموم الآية (ذلِكَ وَمَن يُعَظِّم شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقوَى القُلُوبِ)، وكذلك يشملها عموم (لا تُحِلّوا شعائر الله)، فلو كنا نحن وهاتين الآيتين فقط يتقرر: أن معنى الشعائر ووجودها هو اتخاذي بحسب اتخاذ العرف، لكن قبل أن يتخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها الُعرف والمتشرعة والعقلاء والمكلفون لا تكون شعيرة، وإنما تتحقق شعيريَّتها بعد أن تتفشى وتنتشر ويُتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرةً وشعائر..“
أما في خصوص تعريف الشعائر الحسينية، فيشير سماحة السيد منير الخباز إلى أن المقصود بها “كل عمل يكون مظهراً للجزع على الحسين أو أن يكون مظهراً لمواساة أهل البيت في مظلوميتهم، أو يكون مظهراً لإحياء أمر آل محمد، أو يكون مظهراً لإعلاء ذكر الله عز وجل، فإن جميع هذه العناوين مما ورد الندب إليها في النصوص الشريفة حيث ورد في الرواية (كل البكاء والجزع مكروه ما خلا البكاء والجزع على الحسين)، وورد في رواية أخرى (فإنه فيه مأجور)، كما ورد في الزيارة (فنعم الأخ المواسي لأخيه) مما يدل على استحباب المواساة…“. ويؤكد الخباز في جوابه على وجه مهم في وسم فعلٍ ما بكونه شعيرة، حيث يستدرك قائلاً: “ولكن صدق الشعيرة على جميع ما مضى متقوِّمٌ بكونه عملاً جماهيرياً لا عملاً فردياً، فإن العمل الفردي الخاص ليس مصداقاً لعنوان الشعيرة، وإن كان عملاً مستحباً في نفسه…“، ويُفصل الشيخ السند أكثر في هذا السياق، كما ورد سابقاً، مؤكداً موقع العرف والمتشرِّعة في اعتبار الشعيرة، أي أنه ليس فقط جماهيرية الفعل بل موقف العرف وأهل التشريع منه، حيث يقول: ” وكذلك ظهر أنّ معنى الشعائر ووجودها اتّخاذي واعتباري، أي: حسب اتّخاذ العرف واعتباره، فقبل أن يتواضع عليها العرف والمتشرعة ويتخذوها، لا تكون شعيرة ومشاعر، بل تتخذ شعيريّتها بعد أن تنتشر وتتفشَّى ويُتداول استعمالها..“
وعلى الرغم من التعميم الذي يقد يتصوره البعض من هذه التعاريف، إلا أن نظرةً فاحصةً فيها تُبين العكس تماماً، حيث التساؤل هنا يدور حول كيفية تشخيص تلك المظاهر، ومدى انطباق المضمون السليم للإحياء عليها، ومدى اعتبارها عُرفاً، ومقبوليتها بالنسبة للمتشرعة، لاسيما وأن بعض الأفعال قد وردت فيها نصوصٌ عن المعصومين عليهم السلام، بينما لم ترد أي نصوص في غيرها. فالمسألة إذن لا يمكن أن تترك لغير المختص للحكم في صوابيتها بناءً على تشخيص الفعل وما يترتب عليه من آثار، وصاحب الاختصاص في هذا الشأن إنما هو الفقيه دون غيره باعتبار موقعه. ولنا أن نرى مقدار ما هو حادثٌ اليوم من فوضى كبيرة في هذا الشأن نتيجة أطروحات غير المختصين واجتهاداتهم الشخصية، والتي لا تعدو كونها آراءً شخصية لا مسألةً تشخيصية.
يقول السيد الخباز: “حيث أن تطبيق هذه العناوين على بعض الأفعال الواقعة من الناس مما يحتاج إلى تدقيق في حدود المعاني العرفية لهذه العناوين الواردة في النصوص وهذا من اختصاص الفقيه، كما أن تحديد كون هذا العمل موهناً للمذهب أو موجباً لهتك حرمة أهل البيت أو عدم كونه كذلك من اختصاص الفقيه، لذلك نقول بأن المرجع في تحديد المصاديق والأفعال من حيث كونها شعيرة أو ليست بشعيرة إلى رأي الفقيه“.
من خلال المقدمات الثلاث أعلاه، نخلص إلى القول بأن الشعائر إنما هي أفعال دالَّة على مضامين ومعاني محددة وسامية، يأتي بها الجمهور ويُقرها العرف وأهل الاختصاص بناءً على تشخيص مشروعيتها.
فمفاد رسالتنا إذن يتوزع في بُعدين اثنين، أولهما هو ضرورة مبادرة أهل الاختصاص لنبذ كل فعلٍ يُفضي تشخيصه إلى عدم كونه فعلاً إحيائياً مقبولاً، وعدم ترك الساحة في فراغ يعبث فيه غير أهل الاختصاص، بالتأييد أو المعارضة، ذلك أن هذا التباطؤ إنما يُدخل الأمر في حالة من التعقيد واللغط المسيء من جهة، بينما يساهم الاستمرار فيه وتجذيره عبر الزمن في الوقت الذي يُعتبر فيه العُرف كما أشرنا معياراً رئيساً في إقراره. أما البُعد الآخر فيتمثل في ضرورة اجتناب العامة الخوض في مسألة تحديد الهوية الشعيرية لأي فعل، لأن تدخل غير المختص في أمرٍ تخصصي لابد وأن يحمل في طياته ضرراً مؤكداً. وليس معنى قولنا هذا هو الكف عن النقد أو فضح بعض التصرفات الشاذة التي لا يقبلها العقل ولا الذوق السليم، وإنما يجب أن يكون نقد الناقد مبنياً على المعرفة والقدرة النقد البناء من جهة، وأن ينتقي المفردات الملائمة في نقده، فلا يسِمُ فعلاً ما مهما بلغ عدد فاعليه ومريديه بأنه شعيرةً ما لم تتوفر المعايير في اعتباره كذلك، والتي أحد أركانها رأي المختص.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.