قال الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة في صلاة الجماعة: "وفضلُها عظيم وثوابها جسيم، وقد ورد فيها عنهم (ع) من ضروب التأكيدات ما كاد يلحقها بالواجبات"، وجرى هذا التعبير على لسان غير واحدٍ من الفقهاء.
في هذا المقال نتعرّضُ لطائفتين من الأحاديث الشريفة المؤكدة على صلاة الجماعة، لنتعرف على وجه ما ذكره الفقهاء من "أنّها كادت تُلحق بالواجبات لما ورد فيها من ضروب التأكيدات".
الطائفة الأولى:
أدلّ الأدلة المُشعِرة بأنّ صلاة الجماعة كادت أن تلحق بالواجبات ما ورد من أمر الرسول (ص) بحرق الدور على تاركيها، فقد روى الشيخ محمد بن الحسن الطوسي عن عبدالله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "همَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإحراق قوم في منازلهم، كانوا يصلون في منازلهم ولا يصلون الجماعة، فأتاه رجل أعمى فقال: يا رسول الله أنا ضرير البصر وربما أسمع النداء ولا أجد من يقودني إلى الجماعة والصلاة معك، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): شدّ من منزلك إلى المسجد حبل واحضر الجماعة".
ووردت أحاديث متعددة بالتشديد السابق، بل اشترط رسول الله (ص) على جيران المسجد شهود الصلاة وإلا حرق عليهم بيوتهم، روى الصدوق في المجالس وفي ثواب الأعمال والبرقي في المحاسن بأسانيدهم عن ميمون القداح عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: "اشترط رسول الله (صلى الله عليه وآله) على جيران المسجد شهود الصلاة، وقال: لينتهينّ أقوام لا يشهدون الصلاة أو لآمرنّ مؤذنًا يؤذِّن، ثمّ يُقيم، ثمّ لآمرنّ رجلاً من أهل بيتي وهو علي بن أبي طالب فليحرقنّ على أقوام بيوتهم بحزم الحطب لأنّهم لا يأتون الصلاة".
وقد جرى أمير المؤمنين (ع) على سيرة الرسول (ص) كذلك، فقد روى الشيخ في المجالس والأخبار بإسناده عن زريق قال: "سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: رُفِع إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة أنّ قومًا من جيران المسجد لا يشهدون الصلاة جماعة في المسجد، فقال (عليه السلام): ليحضرنّ معنا صلاتنا جماعة، أو ليتحولنّ عنّا ولا يجاورونا ولا نجاورهم".
وفي حديثٍ آخر أنّه (ع) خطب في الناس عندما بلغه ذلك، فعن الشيخ بإسناده عن زريق، عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بلغه أنّ قومًا لا يحضرون الصلاة في المسجد، فخطب فقال: إنّ قومًا لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا فلا يؤاكلونا ولا يشاربونا ولا يشاورونا ولا يناكحونا ولا يأخذوا من فيئنا شيئًا، أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة، وإنّي لأوشك أن آمر لهم بنار تشعل في دورهم فأحرق عليهم أو ينتهون.
قال: فامتنع المسلمون عن مؤاكلتهم ومشاربتهم ومناكحتهم حتى حضروا الجماعة مع المسلمين".
إنّ الأحكام الشرعية تابعةٌ للمصالح والمفاسد، بمعنى أنّ تشريع الشارع المقدس للوجوب أو الاستحباب لفعل ما إنّما هو تعبيرٌ عن مدى إرادته لذلك الفعل، وإرادة الشارع لفعلٍ ما تتحدد شدةً وضعفًا بحسب قدر المصلحة المتوفرة فيه.
والكاشف للوجوب والاستحباب وتأكده هو لسان الشارع ونوع تعبيراته وأسلوب بيانه وتشديداته، فيكون اللسان أيضًا كاشفًا عن إرادة الشارع والمصلحة التي يتوفر عليها الفعل، فالتشديد في لسان الشارع على صلاة الجماعة والمحافظة عليها وحضورها إنّما هو للمصلحة الموجودة فيها، والغاية من ورائها، والحِكَمِ المترتبة على امتثالها.
وإنّما كان كلام الرسول (ص) والإمام (ع) بالوجه الذي ورد في الأحاديث لشدة حرصهما على صلاح الناس في دنياهم وأخراهم، وتأديةً لوظيفتهما في إقامة الدين وتثبيت أركانه، وتأصيله في حياة الناس ومجتمعهم، و عدم التساهل من المعصومين (ع) في هذه العبادة المستحبة لأجل المصلحة العظيمة الموجودة فيها التي يريد الله تعميمها في المجتمع، وهذا ما سنتعرّض له.
قد ورد في علل الشرائع وعيون الأخبار عن الرضا (عليه السلام) قال: "إنّما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلا ظاهرًا مكشوفًا مشهورًا، لأنّ في إظهاره حجة على أهل الشرق والغرب لله وحده، وليكون المنافق والمستخف مؤديًا لما أقرّ به يظهر الاسلام والمراقبة، وليكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البر والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عز وجل".
وورد في علل الشرائع عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "إنّما جعلت الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممن لا يصلي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع ولولا ذلك لم يمكن أحدًا أن يشهد على أحد بالصلاح، لأنّ من لم يصل في جماعة فلا صلاة له بين المسلمين، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فلا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين إلا من علة".
ويستفاد من هذين الخبرين التالي:
الأمر الأول: إظهار الدين وإقامة الحجة:
إنّ الصلاة لو كانت أمرًا شخصيًا خاصًا لما كان هناك إشاعة وإذاعة لطاعةِ الله سبحانه وعبادته، وإذا لم يكن ذلك لم تقم الحجة على البشر، فالله يريدُ أن يكشف للنّاس الطريقة المثلى في حياتهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم وطريق الحق، وهو كشفٌ عامٌّ ظاهرٌ للناس، لإقامة الحجة على الناس في الشرق والغرب، وبذلك تُفتحُ للناس طرقُ الهداية إلى الحق من جهةٍ، لما يشاهدونه من شعائر للدين ومظاهر للإيمان والتوحيد والعبادة، وانسياق أفواجٍ وجماعات من الناس للإيمان والالتزام بالدين وإقامة حدوده وأركانه والمحافظة على عموده، ومن جهة أخرى يكون هذا الإظهار والكشف العام مُعمِمًا للإيمان بالله وعبادته والتقرب له في مجتمع الإنسان مما يؤدي شيئًا فشيئًا لتقريب البشر من المبادئ الحقة وصولاً إلى إظهار الدين الإسلامي على كل دين ومذهب ورأي، ولهذا الوجه جُعلت الصلاة في جماعة، لكي لا تكون العبادة والطاعة لله أمرًا شخصيًا وحسب، بل تتسمُ بطابعٍ اجتماعي إعلامي يكشفها ويظهرها في العلن، ويقرب الناس من الطاعة لله.
الأمر الثاني: معالجة مرض النفاق:
إنّ الإسلام وإنْ طمح إلى إقامة الإنسان على أمثل طريقة إلا أنّ المثالية النظرية لا يكون تطبيقها إلا بمراعاة الواقع، ومن جملة ما لاحظه الإسلام ملاحظةً واقعية هو الأنفس المريضة من البشر التي تبطنُ شيئًا وتظهِر آخر، وتستغلُّ سماحة الإسلام الذي جعل النطق بالشهادتين حاقنًا للدم والمال والعرض وموجبًا لكل المميزات التي يمتاز بها المسلم في دولة الإسلام، وقد جعل لذلك حلاً يُقللُ من النفاق، وهو الانسياقُ في الحالة الاجتماعيّة العامّة بجعل الدين أمرًا علنيًا يُلزمُ بأمورٍ عملية يظهرها كل من يعتنقهُ، وعندئذٍ يكونُ المنافق ملزمًا بما لا يعتقدهُ حفاظًا على ما يريد الدين إقامته على مستوى المجتمع من ضميرٍ متشرعٍ وورعٍ عام، فيبقى مبطنًا ملتزمًا بظاهر الإسلام من غير تجاوزٍ لحدود الإسلام في الظاهر، ثمّ تعالج القضية فكريًا وثقافيًا عند حضوره للمحافل الدينية، وهذا الحلُّ فيه تماشٍ مع واقع البشر الذين لا يهتدون وإنْ وصلت الهداية إلى أسماعهم وأخذت بأيديهم.
الأمر الثالث: إقامةُ الأحكام الشرعية:
إنّ الفقه بالنسبة إلى الدين يمثِّلُ الجانب التطبيقي العملي منه، لتعلقه بفعل المكلّف، فيعلِّمك ما تفعله وما لا تفعله، وما يجوز وما لا يجوز، وما يحل وما يحرم.
والفقه منظومةٌ واسعة من الأحكام المترابطة ترابطًا دقيقًا، ولمجموع هذا المنظوم غاية وغرضٌ رأى الله سبحانه في تطبيقه كلَّ المصلحة والصلاح للإنسان ومجتمعه، وهو ما يقيم حياة الإنسان على أكمل وجه.
وقيمة كل حكمٍ تختلف عن الحكم الآخر، فقد تتميّزُ بعض الأحكام بصفةٍ تجعلها سببًا مُعِدًا لعملِ وتطبيق أحكامٍ أخرى بحيث لولا ذلك الحكم لما تهيئ الحال لتطبيق تلك الأحكام، وبذلك تختلُّ المنظومة الأحكامية من حيث التطبيق، ولا تكون متحققة فعلاً.
وبعبارة أخرى: إنّ الأحكام الشرعية مترابطة ويؤثِّر بعضها في الآخر، وامتثال بعضها قد يكون موجبًا لامتثال البعض أو مُهيئًا ومُعدًا لذلك.
وصلاة الجماعة تمثل عمادًا من الأعمدة المهيئةِ لمجموعةٍ من الموضوعات والأحكام الشرعية، لو أُقيمت على الوجه الذي أمرت به الأحاديث الشريفة، فالأوامر الواردة من الشارع بصلاة الجماعة جاءت على وجهٍ لتكون من العبادات التي لا يتهاونُ فيها، ويُتلزم بامتثالها من جميع المسلمين، ولكي لا تكون صلوات الناس في غير جماعةٍ، ولكي لا تتفرق الناس في صلواتها على وجهٍ لا تكون هناك جماعات تجتمع للصلوات، وقد أفادت الأحاديث أنّ المسلم الذي لا تُعلم له صلاة مع جماعة المسلمين مذمومٌ شرعًا، والمسلم الذي يترك صلاة الجماعة رغبة عنها أو استخفافًا بها مأثومٌ، ولا تترك صلاة الجماعة إلا عن علة، وقد أفتى الفقهاء بحرمة ترك الجماعة رغبةً عنها أو استخفافًا بها.
وتظهر تهيئة صلاة الجماعة للموضوعات الشرعية في تهيئتها، بل تحقيقها وإقامتها لموضوعين شرعيين لهما بالغ الأهمية عند التأمّل في الفروع الفقهية:
الموضوع الأول: تشخيص المسلم من غيره، فإنّ صلاة الجماعة موجبةٌ لأنْ تكون شهادات الناس لبعضهم البعض بالإسلام جائزة ممكنة، كما مرَّ في الحديث الشريف، ومن المعلوم أنّ لهذا الموضوع مترتبات كثيرة في الشرع.
الموضوع الثاني: تشخيص العادل من الفاسق، وهو موضوع دخيلٌ في أحكام شرعية كثيرة.
وفي إقامة هذين المفهومين في المجتمع وترسيخهما ضبطُ لثقافة المجتمع ومعاييره وموازينه في تقييم الناس، وهو موجبٌ لخلق ضميرٍ متشرعٍ ورعٍ عامٍّ بين الناس، إذ أنه من المعروف أنّ وصف العدالة يكون للرجل بتركه المحرمات وأدائه للصلوات والتزامه بالمروءات، والمهيء لهذا بمترتباته هو صلاة الجماعة.
ففي الحديث الشريف عن أبي عبد الله (عليه السلام): "إنّما جعلت الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف مَنْ يصلي ممن لا يصلي، ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع، ولولا ذلك لم يمكن أحدًا أن يشهد على أحد بالصلاح، لأنّ من لم يصلِّ في جماعة فلا صلاة له بين المسلمين، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فلا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين إلا من علة".
وقد استعمل الإمام (ع) لفظ (إنما) الدال على الحصر، فقَصَر جعل الجماعة فيما ذكر من علة، ثمّ عبّر بـ (لولا) التي هي حرف امتناع لوجود، لإفادة أنّ الشهادة على أحدٍ بالصلاح تمتنع خارجًا من غير صلاة الجماعة، لانعدام السبيل العام الذي يُهيئ لذلك، فإنّ صلاة الجماعة هي التي تكشف عن كون المسلم مصليًا أو لا، فمن لا يصلي في جماعة في الغالب لا يُعرف أنّه مصلٍ أو لا، فلا يُحكمُ عليه بأنّه من المصلين ما لم يُعلم منه ذلك، وعندئذٍ لا تُعرف عدالته وصلاحه، فلا يُحكم عليه بأنّه عادلٌ.
وكما أنّ صلاة الجماعة تهيئ لما ذكرنا فهي تهيئ لمجموعة من الأحكام، وهي:
الحكم الشرعي الأول: قد اعتمد الإسلامُ في القضاء والمحاكم على شهادة العادل لقبول الدعاوي، واعتمد على خصوص هذه الشهادة لأمرٍ وملاكٍ ومصلحةٍ يريد إقامتها في المجتمع، ولمّا أقام عليها نظامه القضائي كان يجب أن يكون مجتمعه على وجهٍ يخدم ما شرّعه في نظامه بحيث يكون بين أعراف المجتمع والقضاء نحوٌ من الاتساق، وتكون الشروط المطلوبة عند القضاء لقبول الشهادة مما يمكن توفره في أفراد المجتمع، وبحكم هذا الاتساق بينهما يضبط القضاء المجتمع عند المخالفة الصريحة، والأحكام والأعراف القائمة في المجتمع تخدمُ القضاء وتضبط المجتمع بوجهٍ آخر، وكلاهما يصبُّ في مصبٍّ واحد وتحقيق ملاكٍ واحد.
ومن مهيئات إقامة ذلك، بل لعله هو الواسطةٌ القريبة في تحقق ذلك هو إقامة صلاة الجماعة، حيث أنّ اجتماع الناس على الصلاة يُحقق المعرفة لبعضهم البعض لتلاقيهم في مجامع محددة في ثلاث أوقاتٍ في اليوم على طوال السنة، فكلُّ جماعة خاصة تعرفُ أصحابها، وبالتالي يُعرف مَنْ يحافظ على الصلاة ممن لا يُحافظ عليها، ومن المعلوم أنّ الصلاة من التشريعات الجوهرية التي يقوم عليها بنيان الإسلام، وهي علامة الصلاح في الإنسان المعتنق للإسلام، ومن خلال حضور المسلمين في الجماعات يتحدد الصالح من غير الصالح، والعادل من الفاسق، فيتنقح موضوع قبول الشهادة وعدم قبولها، وبتنقحه ينضبط ويلتزم المجتمع، لصيرورة العدالة والفسق عندئذٍ من الأعراف الراسخة في المجتمع، فصلاة الجماعة تجعلُ الموازين الشرعية من موازين المجتمع التي لا يحق لأحدٍ تجاوزها، لأنّ تجاوزها تعدٍ على حُرمة المجتمع وحرمة الدين معًا.
الحكم الشرعي الثاني: إنّ الاجتماع للصلاة يهيئُ لإقامة ما يجبُ على الإخوان لبعضهم البعض.
الحكم الشرعي الثالث: إنّ صلاة الجماعة تُهيئ للالتقاء بالمتشرِّعة في مجمعٍ شرعيٍّ خالصٍ للشرع (المسجد)، وهو موطنٌ لتعلِّم ما يجب على الإنسان اعتقادًا وعملاً.
الحكم الشرعي الرابع: إنّها تهيئ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويمكنُ استقصاء غير ذلك من التشريعات، فإنّ دلالة ما ورد في ذيل الحديث الذي ذكرناه عامّة، وهو قول الإمام (ع) في الغاية من جعل صلاة الجماعة: "مع ما فيه من المساعدة على البر والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي الله عز وجل".
ولا يخفى على المتأمّل ما في صلاة الجماعة من مصالح وحفاظ على الدين ومحافظة على مجتمع المسلمين وقوةٍ لهم، ومن خلال ما عرضنا تبين شيء من ذلك، وما ورد في الأحاديث من التأكيد أكثر مما ذكرنا، فمن جملة هذه الطوائف المؤكدة الطائفة الثانية التي نذكرها.
الطائفة الثانية:
وهي الأحاديث التي أفادت أنّه لا صلاة لمن لا يصلي في جماعة، فقد روى الشيخ محمد بن يعقوب الكليني بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) – في حديث – قال: "قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من سمع النداء فلم يجبه من غير علة فلا صلاة له".
وروى الشيخ الصدوق بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: "لا صلاة لمن لا يشهد الصلاة من جيران المسجد إلا مريض أو مشغول".
وورد في الحديث الشريف عن أبي جعفر (عليه السلام) – في حديث – قال: "من ترك الجماعة رغبة عنها وعن جماعة المسلمين من غير علة فلا صلاة له".
وقد احتمل الفقهاء عدة احتمالات فيما قاله الرسول (ص) والأئمة (ع) من أنّ تارك صلاة الجماعة لا صلاة له، وبعض تلك المعاني تصدق في مورد ولا تصدق في الآخر، فحديث العلل عن أبي عبدالله (ع) الذي مر ذكره محمولٌ على – ما يظهر منه – على أنّ تارك الجماعة لا صلاة له بمعنى أنّه لا صلاة له مع المسلمين يُعرف بها، وفي ذلك مترتب شرعي هو عدم الحكم بعدالته إلا أن يعلم بطريق آخر أنه من المصلين، وذلك يوجب العقوبة التي حكم بها الرسول (ص) وأمير المؤمنين (ع) من حرق الدار، والامتناع عن بيعه وشرائه ومناكحته، ومجاورته من المسلمين وغير ذلك مما نصت عليه الأحاديث التي مرّت.
وفي غير الحديث الذي ذكرنا هناك عدة محتملات:
منها: أّنه لا صلاة كاملة له، فيكون تركه لصلاة الجماعة موجبٌ لنقصان صلاته.
ويُحتمل أنّ المراد هو كون الصلاة مجزية عن الواجب إلا أنّها غير مقبولة عند الله سبحانه فلا يؤجر عليها، أو لا تكتب في صحيفة أعماله، فلا وجود لها فيها.
والفقهاء يرون أنّ الحمل الصحيح هو الأول أي لا صلاة كاملة له، لوجود الشاهد عليه، وكونه هو المتعارف في لسان الشارع دون غيره الذي يحتاج إلى قرينة.
خاتمة القول:
إنّ ترك صلاة الجماعة من الناس فيه مفاسد كثيرة كما اتضح، فتركها من المهددات للصالح العام للمسلمين، ويوجب الإخلال بالأصول التي يقوم عليها المجتمع المؤمن، ويؤثر سلبًا في تطبيق الشرع في المجتمع، وقد يُخلُّ بعدالة المؤمن، فتارك الجماعات مذمومٌ شرعًا، وليس له عذرٌ مقبول في التخلف عنها إلا من علة، وهي حالات محددة يحكم العقلاء فيها بمعذورية التارك لها، فالأعمى غير معذور كما ورد في الخبر، فعليه الحضور ولو بشدِّ بحبلٍ إلى المسجد، بل إنّ التارك لصلاة الجماعة رغبةً عنها أو استخفافًا بها مأثومٌ مأزور.
نعم، إنّ صلاة الجماعة سُنّة وليست بفريضة، لكن التهاون فيها غير مقبولٌ شرعًا، يقول الشيخ يوسف البحراني (عليه الرحمة) في الحدائق الناضرة: "لا يخفى على مَنْ أحاط خبرًا بالأخبار الواردة عنهم عليهم السلام في أمثال هذا المضمار أنّهم كثيرًا ما يُبالغون في الحث على المندوبات بما يكاد يلحقها بالواجبات، والزجر عن المكروهات بما يكاد يدخلها في حيز المحرمات تأديبًا لرعيتهم لئلا يتهاونوا ويتكاسلوا عن القيام بالمستحبات ويتهاونوا بالانهماك في المكروهات".
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يحافظ على الصلوات ويلتزم بالجماعات، وهو وليُّ التوفيق، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمدٍ وعلى آله الطاهرين.
مهدي صالح آل جواد الجمري
غرَّة صفر 1440 للهجرة