من الشبهات التي تطرح أمام مراسيم التعزية في مصائب أهل البيت (ع) أن ما جرى عليهم هو من تقدير الله تعالى، ولأن قدر الله لا يجوز الاعتراض عليه فإن إقامة هذه المراسيم أمر غير سائغ لأن في ذلك اعتراضا على التقدير الإلهي.

والجواب عن هذه الشبهة يقع على نحوين:-
الأول: وهو جواب نقضي يرد فيه الإشكال على المستشكل فيقال في ذلك: إذا كانت ندبة الفقيد والتفجع عليه اعتراضا على قدر الله فإن هذا الاعتراض يصدر منك أيضا عندما تبكي وتتحسر لفقدان أحد من لهم حظوة في نفسك كأبيك مثلا، فإن كان ما أشكلت به في محله فإنه يعم كل حالة تفجع وبكاء لا خصوص ما يرتبط بعزاء أهل البيت (ع).

الثاني: ليس في القدر الإلهي سلب لاختيار الإنسان فيما يفعل أو لا يفعل لكي يقال بأن البكاء في مصائب أهل البيت (ع) هو اعتراض على الله لأنه -تعالى عن ذلك- هو من أقدم على إيقاع المكروه بهم (عليهم الصلاة والسلام) إذ قدر حصول مصارعهم، وبتعبير آخر: إن تقدير الله لا يعني بحال أنه هو من أوقع القتل على أهل البيت (ع) حتى يقال بأن البكاء اعتراض على صنيعه، بل الذي أوقع ذلك بهم هم قتلتهم، وتفصيل الكلام في هذا المقام أن نقول: إن التقدير الإلهي في علم الكلام على أقسام ثلاثة أحدها لا خيار فيه للإنسان والثاني حالة برزخية بين الاختيار وعدمه والثالث له فيه الاختيار التام في أن يفعل أو لا يفعل وهو أوسع هذه الأقسام إذ يرتبط بعامة ما يصدر عن الإنسان من أفعال في عالم الدنيا:-

١- التقدير التنجيزي: وهو القسم الذي يضم ما لا قدرة ولا خيار للإنسان فيه، ومثاله البارز عند المتكلمين قدوم الإنسان إلى الدنيا من الأبوين الفلانيين المعينين، فليس هو من شاء أن يولد من هذين الأبوين دون غيرهما من الآباء والأمهات.

٢- التقدير الإعدادي: ومثاله الصفات الوراثية التي يولد الإنسان حاملا لها من كرم أو بخل أو غضب أو حلم، فهذه الصفات ليست شيئا حتميا مفروضا بل هي محض استعداد يحمله الإنسان مع قدومه للدنيا، فإذا ما أراد استبدال هذا الاستعداد بما يقابله أمكنه ذلك من خلال التطبع وممارسة الرياضات الروحية، وهذا ما أكده الأخلاقيون من علمائنا تبعا لما جاء في النصوص كتابا وسنة، قال تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا))، وذلك بتقريب أن التزكية لو لم تكن في متناول الإنسان لما ندب إليها القرآن الكريم، ومعنى هذا أن من يولد وعنده الاستعداد لصفة الغضب -مثلا- لكون أبويه يحملانها يمكنه هو أن يجعل نفسه متسما بصفة الحلم، وهذا ما يشير إليه إمامنا الحسن المجتبى (ع) حيث جاء عنه: ((إن لم تكن حليما فتحلم)).

٣- التقدير التعليقي: وهو القسم الذي يضم سائر الأفعال الاختيارية التي تقع تحت قدرة الإنسان، كالزواج والعمل والكتابة والنوم والمطالعة والبيع والشراء والعبادة والمعصية، فهذه أفعال تقديرها عند الله معلق على إرادة الإنسان واختياره لها، فهو باختياره من يعبد أو يعصي، وهو باختياره من يتعلم أو يبقى جاهلا، فما لم يرد الإنسان الإقدام على عمل ما لا يقدر الله هذا العمل، قال تعالى: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)) وقال: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) وقال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)).

وهذا القسم من أقسام التقدير هو ما عناه الأئمة الأطهار (ع) عند طرحهم لنظرية الأمر بين الأمرين في الفترة التي أثيرت فيها في الأوساط العلمية مسألة المؤثر في الفعل الإنساني، فقد جاء عن الإمام الصادق (ع) في غير واحد من المصادر قوله: ((لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين)).

ومعنى هذه النظرية المعصومة -بشكل مختصر- أن كل فعل إنساني خيرا كان أم شرا يفتقر في مقام التحقق الخارجي إلى عاملين هما المقتضي والشرط، فإن عُدم أحدهما عُدم الفعل خارجا، فلكي يتحقق فعل المشي من الإنسان خارجا لابد من وجود الطاقة عنده وهي المقضي، ولابد كذلك من وجود الشرط وهي إرادته للمشي، ومصدر المقتضي -الطاقة- وإن كان هو الله تعالى المفيض على كل إنسان قدرة من عنده، إلا أن مصدر الشرط -الإرادة- هو ذات الإنسان، إذ لو لم يرد الإنسان أن يوظف ما أعطاه الله له من طاقة في المشي لما وجد المشي في الخارج.

مما تقدم يتبين وهن دعوى أن مراسيم العزاء في مصائب أهل البيت (ع) تمثل حالة اعتراض على الله عز وجل، لأن التقدير فيما حل بساحتهم (ع) تقدير تعليقي لا تنجيزي، فالقتلة من بني أمية وبني العباس هم من أوقعوا على أهل بيت العصمة (ع) ما وقع باختيارهم وجرأتهم.