بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله الطاهرين.
إذا كان الغيب هو ما غاب عن الإنسان سواء في الماضي أوالمستقبل أو انحصر في المستقبل، فإنه ليس من شك أن الله تعالى أودع علم ما كان وما يكون عند نبيه المصطفى (ص) وأهل بيته الطاهرين (ع)، فهم عيبة علم الله وسرّ حكمته وتراجمة كتابه الكريم الذي فيه تبيان كل شيء وأحصى فيه كل شيء.
ولكي لا يقع الاشتباه في فهم علم الغيب عند أهل البيت (ع) بحجة ما جاء في آيات القرآن الكريم، فلا بدّ أن نشير اختصاراً إلى الأصول المُحكَمة في القرآن الكريم لخارطة علم الغيب، ثم نشير إلى الروايات الدالة على ثبوت علم الغيب لأهل البيت (ع).
الأصول القرآنية تثبت أمرين بخصوص علم الغيب، وهما:
الأول: أن الله تعالى عنده مفاتح الغيب وله الغيب حصراً، كما في قوله تعالى:
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}. (سورة الأَنعام 59)
{فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ}. (سورة يونس 20)
الثاني: أن الله تعالى أفاض بمشيئته من علم الغيب على أوليائه، وهو قوله عز وجل:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}. (سورة الجن 26 - 27)
{وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}. (سورة آل عمران 179)
ومن ذلك علمنا أن علم الغيب الإلهي الذاتي هو مختص بالله، وما عند الرسل هو علم غيب بتعليم الله تعالى، وهو الذي اطلعهم عليه وكرّمهم به، فعندهم علم ما كان وما يكون، ولذا قد أخبر النبي (ص) بإخبارات كثيرة بالغيب، فمنها ما أثبته القرآن ومنها ما أثبته الحديث.
مع هذا التأسيس المهم في فهم علم الغيب، فإنه لا غرابة في أن الله تعالى يُكرم أهل البيت (ع) بعلم الغيب، أو أنهم يورثونه من النبي (ص)، لأنهم ورثة النبي بحسب معتقداتنا الثابتة ولهم ما له (ص) إلا فيما ثبت اختصاصه (ص) به، وبذلك جاءت روايات عديدة.
وتأكيداً على ذلك نسوق بعض الرّوايات التي تدلّ صراحة بعلم أهل البيت (ع) بعلم الغيب، بما يناسب هذا المختصر:
1 _ جاء في الخرائج عندما اجتمع أهل اللغات والأديان في مجلس عند الإمام الرضا (ع) وبعد أن كلم كل واحد بلغته بأفصح منه، وأبدو تعجباً كبيراً، قال بعد أن "نظر الرضا (ع) إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنك ستبتلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك، أكنت مصدقاً لي؟ قال: لا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
قال (ع): أو ليس الله يقول (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول)، فرسول الله عند الله مرتضى ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما شاء من غيبه، فعلمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وإن الذي أخبرتك به يا ابن هذاب لكائن إلى خمسة أيام، فإن لم يصح ما قلت لك في هذه المدة فإني كذاب مفتر، وإن صح فتعلم أنك الراد على الله وعلى رسوله، ولك دلالة أخرى، أما إنك ستصاب ببصرك وتصير مكفوفاً فلا تبصر سهلاً ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى: أنك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص. قال محمد بن الفضل: فو الله لقد نزل ذلك كله بابن هذاب [هداب]، فقيل له أصدق الرضا أم كذب؟ قال: لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنه كائن ولكني كنت أتجلد. (الخرائج، ج1، ص343).
فالإمام الرضا (ع) أثبت ابن هذاب أنه يعلم الغيب بالآية الكريمة بعد أن أكّد له أنه وارث علم النبي (ص)، ثم صدّق ذلك بإخبارات عملية وقد تحقّقت.
2 – في احتجاج أمير المؤمنين (ع) على الزنديق مما جاء فيه إثباته أن الله تعالى أكرمهم باقتدارهم على علم الغيب، جاء فيه:
"بأن له أولياء تجري أفعالهم وأحكامهم مجرى فعله، فهم العباد المكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، هو الذي أيدّهم بروح منه وعرف الخلق اقتدارهم على علم الغيب بقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً. إلا من ارتضى من رسول).
ومن ذلك يتّضح أيضاً شمول الآية للأئمة (ع) لأنهم ورثة النبي (ص)، وقد قال علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره في تفسير هذه الآية ذلك، وقال: (يعني عليٌّ المرتضى من الرسول (ص) وهو منه). تفسير القمي، ج2، ص390).
3 – ويؤكّد ذلك ما نقله العلامة المجلسي في البحار وغيره عن أمير المؤمنين (ع) قوله: (أنا ذلك المرتضى من الرسول الذي أظهره الله عز وجل على غيبه). (ج42،ص53).
4 – وقد جاء في كتاب المناقب لابن شهراشوب، عن الإمام الصادق (ع) قال: والله لقد أعطينا علم الأولين والآخرين. فقال له رجل من أصحابه: جعلت فداك، أعندكم علم الغيب؟ فقال له: ويحك، إني لأعلم ما في أصلاب الرجال وأرحام النساء. (ج4، ص250).
وغير ذلك من الروايات الشبيهة.
بل ويُستدل على علم أهل البيت (ع) بعلم الغيب بأدلة متعدّدة نشير إليها إشارة، مثل (إثبات أنهم يحيطون بعلم الكتاب كله)، ومثل (ما ثبت من إحصاء كل شيء في إمام مبين يعني الإمام علي)، ومثل (الروايات الكثيرة التي دلت على علمهم بما يكون)، (وما دل على إخباراتهم بالمغيبات في سيرتهم العملية)، (ما ثبت من أن عندهم الاسم الأعظم) وما ثبت في شأن علمهم وكيفيته، بأخبار كثيرة يمكنها أن تصبح كتاباً ضخماً.
أما ما جاء في بعض الروايات ما يظهر منها نفي علم الغيب عنهم، فهي إما صادرة تقية، أو أنها تحاكي ظروفًا خاصة كما في مواجهة الإمام الصادق (ع) للخطابية، أو هي تقصد نفي علم الغيب الذاتي الذي هو من مختصات الله عز وجلّ، وليس علم الغيب الذي أطلعهم عليه.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.