في جواب لسماحة آية الله العظمى السيد محمد الهاشمي الشاهرودي على سؤال وُجه له قبل ثمانية أعوام تقريباً (سبتمبر 2013)، جاء فيه أنه ” يُنقل عن بعض الأشخاص أنّ الكثير من الموروث الروائي الشيعي هو مدسوس ومنقول عن كعب الأحبار ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية، فما هو رأيكم بذلك؟“، قال: “هذا الكلام لا يصدر إلاّ عن جاهل بتراث المذهب الإمامي، وقد سبق مثل هذا اللون من الاتهامات الزائفة من قبل آخرين مضلَّلين بتحريك أو احتضان قوى الاستكبار العالمي لضرب وحدة الاُمّة الإسلامية وإلقاء الفتنة بين طوائف المسلمين ومذاهبهم، وتحريض الجماعات التكفيرية المارقة عن الدين الحنيف والذين يمثلون اليوم خوارج هذا العصر والزمان لمزيد الفتك والقتل ونشر الموت والدمار في بلاد الإسلام والمسلمين.“، نعم هكذا كان جوابه، دون أدنى مواربة أو مجاملة أو تخفيف في المفردات والعبارات.
في ذات الجواب، يضيف سماحته: “والحقيقة الناصعة التي لا تقبل الشك لدى أهل العلم والصلاح أنّ التراث الشيعي الأصيل المتمثل في الموروث من مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) والمذهب الإمامي لهو أنقى موروث ديني في التاريخ الاسلامي وأبعده عن التحريف أو التأثر بأهواء ومطامح الحكّام الجائرين أو اندساس المنحرفين والاتجاهات الدخيلة على الإسلام فيه، لأنّه التراث الذي نشأ وترعرع بعيداً عن دوائر الحكومات والسلاطين وأهوائهم ومطامحهم الفاسدة وسعى في حفظه وضبطه وحراسته ونقله إلى الأجيال اللاحقة أتقى الناس ديناً وأورعهم نزاهة وأجلّهم قدراً وعلماً من أعلام الاُمّة وأصحاب أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وفقهاء مدرستهم العظام ممن شهد بجلالة قدرهم وعظمتهم كتب التاريخ والسير وعلماء الإسلام من المذاهب الاُخرى.”.
نعم، هناك مشكلة حقيقية لدى بعض مثقفي أو مدعي الثقافة في العقود الأخيرة في فهم التراث الثقافي والفكري لأهل البيت عليهم السلام، إما تأثراً بأطروحات الحداثة، وهي أطروحات سبق وأن أشرنا في مقالات عديدة بعيدة كل البعد عن حقيقة الفِكر لأنها ببساطة لا تتبنى فكراً محدداً ومؤطراً بأطر علمية، وإنما هي مجرد نقضٍ لفِكر، أو أنها نتيجة سطحيةٍ في فهم هذا التراث يوازيها ادِّعاءٌ بالعلم والمعرفة، وهي حالة من حالات الجهل المركب، حيث الجهل بالمعرفة والجهل بهذا الجهل.
لسنا هنا، وليس من عاقلٍ يزعم أن كل ما في كتب التأريخ والرواية والحديث، بما فيها أمهات الكتب وأقوال أعاظم الفقهاء، هو صحيحٌ لا يقبل الخطأ أو القصور، بيد أن هذا لا يعني مطلقاً نِسبة الخطأ والقصور حيثما وُجد وكيفما كان لذات الثقافة والفكر والتراث، حيث أن حدود هذا الخطأ أو القصور لا تتعدى القائل وقيلِهِ. ولو كلَّف بعض أصحاب هذه الدعاوى التجديدية أنفسهم بعض الجهد اليسير لوقفوا على حقيقية الأخذ والرد والتفنيد من بعض العلماء تجاه ما قال آخرون، دون القدح في شخص القائل أو النيل من التراث أو تسقيطه والادعاء باحتوائه على الأكاذيب أو ما شابه ذلك. بل لابد وأن يقف المتمحِّص على العديد من المشاهد التي ربما خالف فيها العالِمُ أستاذَه، فأوضحَ وبيَّن وفنَّد واستخلصَ النتائج، محافظاً في كل ذلك على مقام أستاذه من جهة وعلى حقيقة نقاء الموروث من الجهة الأخرى، وحاصراً موضع الخلل في حدود الطرح والتحليل والاستنتاج، لا في دحض الفكر والموروث الثقافي وتسفيهه.
هل نعني بهذا القول أنه لا أحاديث مكذوبة أو روايات غير مقبولة في تراثنا الثقافي؟ قطعاً لا نقول بذلك، وإنما نقول أن عملية التنقيح تستلزم عدة أمور، أهمها:
أولاً: أن يكون الناقد من أهل العلم والاختصاص لا من عوام الناس.
ثانياً: أن يكون النقد مبنياً على أسس علمية رصينة لا مجرد رأيٍ يقوم على أساس عدم استساغة فكرة ما أو رواية أو حديث.
ثالثاً: أن تكون حدود النقد، ومن ثم التنقيح واضحةً مُعرَّفةً لا عملية همجية أو عبثية كأنها نارٌ تسري في كل اتجاه.
رابعاً: أن يكون مقدار العمل التنقيحي هو مقدار الدواء للمرض، فالدواء مهما كان فعالاً في القضاء على المرض، لا يصح أن يأخذه المريض في كل حين ولكل عِلَّة.
أما قولنا أن يكون الناقد من أهل العلم والاختصاص، فلأن النظر في مسائل التاريخ والحديث، هي مسائل تخصصية لا يكفي للخوض فيها قراءة كتاب هنا أو مقالة هناك، أو حتى اجتهادٌ برأي. فالحكم على حديث أو رواية يستلزم معرفةً ودرايةً تامةً بجملةٍ من العلوم الحديثية، وقدرةً على استخدامها بشكلٍ صحيح، إذ لا تكفي المعرفة دون مهارة الاستخدام، مثلها مثل أدوات الجراحة، حيث لا يكفي أن يعرف الطبيب استخدامات المشرط مثلاً كمعرفة نظرية، بل يجب عليه أن يكون قادراً على استخدامه بالشكل الصحيح وفي الموقع الصحيح وإلا أضرَّ بالمريض وربما قتله، فكيف بمن لا يعرف المشرط أساساً ولا يعرف كيف يمسكه ومتى يستخدمه؟!
وأما قولنا أن يكون النقد مبنياً على أسس علمية رصينة لا مجرد رأيٍ مبعثه عدم استساغة حديث أو رواية أو فكرة، لأن مجرد عدم قبول أو استساغة الفكرة لا يعني بالضرورة خطأ الفكرة وإنما قد يعني أيضاً عدم فهمها. فمثلاً من يرفض فكرة كروية الأرض ودورانها حول نفسها ويسوق الدليل على هذا الرأي بأنه لو صح هذا القول لما أمكن الوصول إلى أي بقعة في الأرض إذا كانت الطائرة تطير في اتجاه دوران الأرض، لأن الطائرة تطير والأرض تتحرك في نفس الاتجاه وليست ثابتة، أو أن الطائرة لو توجهت إلى النصف السفلي من الكرة الأرضية (والقائل طبعاً لا يقول بهذه الكروية بل يرى أن الأرض مسطحة)، لوجب أن تكون الطائرة في وضع مقلوب!! فهل يمكن دحض كروية الأرض وحقيقة دورانها التي تحدث عنها القرآن الكريم وأثبتتها العلوم الحديثة، لمجرد أن هذا القائل لم يفهم قواعد الحركة وقوانين الجاذبية وغيرها من القواعد العلمية؟! إذن أي نقد غير مبني على أساس علمي ومعرفة مفصلة، لا يعدو كونه رأياً غير جدير بالتوقف عنده وإهدار الجهد والوقت للتجاوب معه، مهما ادعى صاحبه من مدعيات العلم والمعرفة والثقافة.
وقولنا أن تكون حدود النقد والتنقيح محدَّدة ومعرَّفة، فلأن الخطأ أو القصور واردٌ في مواضع محددة، ولا يوجد موروث كله خطأ، فليس من العقل نسف كل ما يحيط بنقطة الخطأ، بافتراض الوجود الفعلي للخطأ وتشخيصه تشخيصاً دقيقاً، بدعوى المعالجة. فالطبيب إذا ما أراد معالجة ورم سرطاني مثلاً بحرق الخلايا السرطانية دون أن يحدد إطار الضرر، فإنه حتماً سيحرق الخلايا والأنسجة السليمة ويتسبب للمريض بضرر ربما يفوق ضرر ذلك الورم، هذا إذا لم يحرق الجسد بأكمله لأنه بالأساس لا حدود يقف عندها في ما يقوم به من عبث باسم العلاج.
أما قولنا أن يكون مقدار العمل التنقيحي هو مقدار الدواء للمرض، فلأن كلَّ ما زاد عن الحدِّ انقلب إلى الضد، حتى في العبادة، حيث نجد في توجيهات النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الكثير الكثير من نبذ الرهبنة والتصومع بدعوى العبادة. فالأجدر في المعالجة أن لا يتجاوز المعالِج مقدار الحاجة للتخلص من العلة، وأن لا يقل مقدار ذلك العلاج لما قد ينجم عن العلاج الناقص من ضرر.
إن نظرة عابرة في صفحات التواصل الاجتماعي على سبيل المثال، لاسيما في مثل هذه الفترة من العام، تكفي لمشاهدة الواقع المؤسف الذي يعيشه المتثاقفون اليوم، حيث تمتلئ صفحاتهم أو مداخلاتهم هنا وهناك بالأطروحات السطحية والأفكار العامة التي تنم عن جهلٍ ليس بخافٍ ليس فقط في أدوات النقد ومتعلقاته، بل حتى في الموضوع الذي يتصدى هؤلاء لطرحه والاجتهاد في إثبات صواب رأيهم فيه عنوةً بغير دليل، وباعتماد سبل الجدل العقيم، حتى إذا ما استيقن الطرف المقابل من جهل هذا الطرح وعدم جدوى الجدل فيه، فانسحب، رفع صاحب الطرح راية النصر على خصمه والانتصار لفكرته، التي لم تكن بالأساس سوى رأياً على غير هدى.
وخلاصة القول أن النقد القائم على أصول النقد المعتبرة أمرٌ مقبول، بل هو أمرٌ محمود، كما أنه ليس بالجديد ولا المبتكر لا من العلماء ولا الفقهاء ولا غيرهم، بل هو سنة أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث كان ديدنهم تفنيد المكذوب من الحديث وبيان الصواب في المنقول عن الرسول (ص) والأئمة السابقين لهم، وفضح القائلين بأسمائهم لا بمجرد فضح الكذب في ما قالوا. كما كان ديدنهم مراجعة ما كان يُكتب وإمضائه أو تصحيحه أو رفضه، ومثال ذلك كتاب (يوم وليلة) ليونس ابن عبدالرحمن النجاشي الذي عُرض على الإمام العسكري عليه السلام فأمضاه ودعا لكاتبه قائلاً: “أعطاه الله بكل حرف نوراً يوم القيامة“، وكتاب الحلبي عبيدالله ابن علي ابن شعبة والذي عُرض على الإمام الصادق عليه السلام فصححه وأمضاه، وغيرهم الكثير. فالنقد والتنقيح إذن ليس مسألة وليدة العصر الحاضر، ولا هي من مبتدعات مناهج الحداثة والتمدن وغيرها من المسميات، وإنما هي عملٌ تاريخه تاريخ مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.