بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّدٍ وآله الطيبين الطاهري.
تنقيح المقدمات
في الاستدلال على وجوب الرجوع للأعلم عند العلم بالمخالفة
ناقش المُحقِّقُ الخوئي (قُدِّس سرُّه) استدلالات الأعلام على وجوب تقليد الأعلم، وانتهى إلى أنَّ "الصحيحَ في الحُكم بوجوب تقليد الأعلم، هو السيرة العقلائية الّتي استكشفنا -والكلام للسَّيد (قُدِّس سرُّه)- إمضاءَها من عدم الردع عنها في الشريعة المقدسة"، إذ أنَّه (قُدِّس سرُّه) قد أفاد بأنَّ السيرة العقلائية "غير جارية على الرجوع إلى غير الأعلم، بل قد جرت على الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالمخالفة كما هو المشاهد في غير الأحكام من الحِرف والعلوم، وحيث إنَّ تلك السيرة لم يُرْدَع عَنْها في الشريعة المُقَدَّسة فَنَسْتَكْشِفُ بِذَلِكَ أنَّها مُمْضَاة عِنْدَ الشَارع"[1].
دعوى المقالة: يتعين وجوب الرجوع إلى الأعلم بثبوت وجوب الرجوع إلى العالم.
قرَّر السَّيدُ الخوئيُّ (قُدِّس سرُّه) "إنَّ العقلَ بعد المقدمات قد استقَلَّ أنَّ الشَارِعَ نَصَبَ طريقًا للعامّي لا محالة، وليس ذلك هو الاحتياط لأنَّه غير ميسور في حقِّه، ولا أنَّه الظنُّ لأنَّه لا ظنَّ للمُقَلِّد أو لا أثَرَ له، فَيَتَعَيّن أنْ يكونَ الطريقُ فَتْوَى عَالِمٍ مَا، والقَدَرُ المُتَيَقَّنُ فَتْوَى الأعلم فَيَحْتَاجُ حُجِّيَة فَتْوَى غَير الأعلم إلى دليل". فظهر ما في القول بعدم وجود دليل على وجوب تقليد الأعلم؛ فهو مبني على عدم وجود نصٍّ يأمر بوجوب الرجوع إلى الأعلم دون العالم، والحال أنَّ ما بيَّنه السَّيد الخوئي (قُدِّس سرُّه) هو أنَّ أصل الرجوع فرع الانسداد مع بطلان القول بالاحتياط أو اعتماد الظن، فتعيَّن وجوب الرجوع إلى العالم. وكونه الأعلم محل اتِّفاق ضرورةً، على خلاف كونه عالمًا دون الأعلم. فتعيَّن التمسُّك بالقدر المتيقن.
ولكنَّه يُقال: لا نشكُّ في أفضلية الرجوع إلى الأعلم، ولكنَّنا لم نقف على طريق لفرضه شرعًا، فنقف عند حدِّ التفضيل، ونقل: لو أراد وجوب الرجوع إلى الأعلم لبيَّن، وها هو السَّيد الخوئي (قُدِّس سرُّه) يردُّ ما استُدِلَّ به مِنَ النصوصِ على تقليد الأعلم؛ إمَّا لضعف في السند أو لعدم تمامية الدلالة.
نقول: مطالبُ يتمُّ الكلام بها:
المطلبُ الأوَّل: الاستعداد التكويني في الإنسان لاستقبال الرسالات السماوية والقبول بها والعمل بما تجيء به:
يُخَاطَبُ الإنسانُ بالقانون، الأعم من الديني وغيره، بعد اطلاع صاحب القانون، على فرضه كونه حكيمًا أو متعقلًا، على سيرة الإنسان وتحديد احتياجاته وما نحو ذلك ممَّا يُقاس على غايات القانون وما من أجله أُنشئ. ولا يصحُّ أنْ يُخاطب بالقانون من هو مباين له في عقله وتعقلاته وفطرته وقابلياته، لا سيَّما فيما لو كان صاحب القانون هو نفسه من أوجد وخلق المُخاطب. فتأمَّل.
المطلب من جهة أخرى: لو كان الإنسانُ موافقًا تمامًا لما جاءت به شريعة الله تعالى، فهل كان ليحتاج إلى إنزالها وتبليغها إليه؟
والفرض الثاني: لو كان الإنسان مباينًا تمامًا لما في شريعة السماء، فهل يصحُّ أن يُخَاطَبَ بها؟
الفرضان منتفيان، بل ممنوعان على الحكيم، فتعيَّن أن يكون المُخاطب مستعدًّا لاستقبال الخطاب وقبوله والعمل بما فيه. وهذا واضح؛ فإنَّ الفعل من الفاعل عبثٌ عند عدم القابل. ويكفي مُؤيِّدًا لهذا المطلب قوله تعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)[2].
روى القميُّ في تفسيره، بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السَّلام)، قال: وقوله: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) قال: خَلَقَهَا وصَوَّرَهَا، وقوله: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) أي عَرَّفَهَا وألهَمَهَا ثُمَّ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ. (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) يعنى نَفْسهُ طَهَّرَهَا (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) أي أغواها"[3].
المطلب الثاني: ارتكازات العلم التكويني لدى الإنسان مأخوذة في خطاب السَّماء:
لا يصحُّ أن يكون الخطابُ أجنبيًّا عن عقل الإنسان وتعقلاته وسلوكه وطريقته الإجمالية في الحياة، بل المناسب أن يكون مهذِّبًا للإنسان وموجِّهًا ومرشدًا له بما يقرِّبه من المصالح ويبعده عن المفاسد. ولازم ذلك أن تكون ارتكازاتُ الإنسان بما هو إنسان ذي فِطْرَة ونظام تكويني مأخوذةً في موضوع الخطاب، وإلَّا للزم الإفصاح فيه عن كلِّ صغيرة ودقيقة، ولن ينتهي، والحال هكذا، إلى قيام السَّاعة.
أُقَرِّبُ بمثالِ فيما لو طلب شخصٌ الماء للشرب في جوٍّ قَائِضٍ، فإنَّه حينها لا يحتاج إلى ذكر قيد (بارد)؛ حيث إنَّه قيدٌ مأخوذٌ في الخطاب اعتمادًا على ارتكاز سابق عند أيِّ مُخَاطَبٍ مُلْتَفِتٍ. ولو قيل له: لا، لا أريده باردًا. فهذا لا ينقض صحَّة اعتماد القيد المستغني عن الذكر، بل عند عدم إرادته فإنَّ صاحب الخطاب مطالبٌ بنفيه تصريحًا.
ويكفي مُؤيِّدًا قوله تعالى (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)[4]، فمن جهة لا تُتصور التزكية دون أصل سابق عليها، ومن جهة أخرى فـ(الضلال) لا يُتصوَّر مع عدم الهدى؛ إذ إنَّ كلاهما ممَّا يُقال بالإضافة. ولا يُقال أنَّ القصد هو أنَّهم في (ضلال) عن هذا الخطاب؛ لأنَّه يُقال: هذا الخطاب قبل صدوره عدم، فتعيَّن أن يكون طريق الهدى حاضرٌ قبل الخطاب، وضلُّوا عنه.
المطلب الثالث: مِنَ العلم التكويني لدى الإنسان النظر في المِلاكات والتقديم والتأخير على وفق المهم والأهم:
استغنى الدرسان الفقهي والأصولي عن فتح الباب العلمي للنظر في بحوث المصالح والمفاسد، والأهم والمهم، وما نحوها ممَّا يرجع إلى المِلاكات وما تُعلَّق عليه أحكام الشرع الحنيف؛ فلم يكن التشكيكُ واردًا على جريان السيرة على بداهة مثل ذلك، بل من البداهة بمكان أنَّ حبسَ الإنسان عن إعمال نظره في المِلاكات حبسٌ له عن فطرته التي فطره الله تعالى عليها.
تقريب: قام الدليل على جواز التورية دون تقييد بظرف خاص، ولكنَّ العقل يُقدِّرُ انهدام الثقة بين الناس فيما لو كثُرَ استعمال التورية، وهذا مُقدَّر واضح قد أغنى عن أن يُصرَّح به.
دفع إشكال: ليس هذا من قاعدة سدِّ الذرائع؛ فهناك يُسدُّ البابُ مِنْ أصْلٍ بِمُجرَّد اعتبار التقدير، فتُحرَّم التورية من أصلها لتقدير كونها مُسبِّبًا لفقدان الثقة بين الناس في حال كثرة استعمالها.
ما نريده في هذا المطلب هو ما يُفيده قول الفقهاء (في نفسه) عند سؤالهم عن أمر فيقولون: هو جائز في نفسه، أو في حدِّ ذاته. ولكنَّه ليس كذلك عندما تترتب عليه أو عندما يلزم منه محذور شرعي.
ويكفي مُؤيِّدًا قوله تعالى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ)[5]، وفي حديث الإمام الكاظم (عليه السَّلام) لهشام بن الحكم، قال: "يَا هِشَامُ، ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ فَقَالَ: (وإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ الله قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْه آباءَنا أولَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ولا يَهْتَدُونَ)"[6]؛ والوجه فيه تقديمهم اتِّباع الآباء، وهو حسنٌ ما لم تترتب عليه مفسدة، وهذا أمر يدركه العاقل دون حاجة إلى بيان من الحكيم. فتأمَّل.
نعم، لا يصحُّ فتح باب النظر في المُهِمَّات مِنَ المِلاكات والمصالح والفاسد لغير العالِم الفقيه الذي سبر أغوار النصوص الشريفة، وخبر النظر العلمي بمناقشة الفقهاء وتداول آرائهم. فافهم واحذر الشطط.
المطلب الرابع: السِّيرةُ العقلائية وشرطُ عدم الردع:
الأصل في سيرة العقلاء موافقتها لمبادئ الدين الحنيف وأصوله، وإن رُدِعَ عنها فهذا كاشف عن عدم كونها من السِّيرة، بل أنَّ الردع غير مُتصوَّر؛ لمحل التباني وسعته بين العقلاء، والحال أنَّ المُتَصَوَّر في الردعِ وُرُودِهِ عِنْدَ بداية التباني، أي قبل حدوثه بحيثُ يصدق عليه عنوان التباني، وإلَّا فالسكوت إلى حين التباني مخالف للوظيفة ونقض لغرضها.
إنَّ مرجع السِّيرة العقلائية هو العقل الموافق لأوامر الله تعالى دون تردُّد، وإنَّما افتُرض الردع عند الزيغ لتركُّب العقل مع غيره في هذه النشأة.
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السَّلام)، قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَه، ثُمَّ قَالَ لَه أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَه أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: وعِزَّتِي وجَلَالِي؛ مَا خَلَقْتُ خَلْقًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، ولَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ، وإِيَّاكَ أَنْهَى، وإِيَّاكَ أُعَاقِبُ، وإِيَّاكَ أُثِيبُ"[7].
إنَّ جوهر الاعتبار العلمي لسيرة العقلاء هو ارتكازهم على ما يمكن للخطاب الاستغناء عنه في مقام البيان اللفظي.
فاتَّضح أنَّ الغايةَ مِن اشتراط التباني حِمَايةُ العقل الكامل من زيغ الفرد العاقل، وإرجاع الزائغ إلى حظيرة الكمال.
الفائدة:
رتبنا المطالب الأربعة وأثبتناها للتنبيه على أصالة الأدلة والقرائن اللبية في الخطاب والمحاورة، سواء كانت اتركازات أو تبانيات أو غير ذلك ممَّا يأخذه العقلاء في موضوع الخطاب.
إذا اتَّضحت تلك المطالب:
فإنَّ الدين الحنيف جاء من الله تعالى موافقًا لما فَطَرَ عليه الإنسان، فلا يفتقر مقام البيان إلى طَرْقِ كُلِّ كبيرةٍ وصغيرة، بل هو كذلك في كل ما يحتاج ابتداءً إلى بيان أو تأكيد، أو إلى ذلك بحسب ما يبدي الناس حاجتهم إليه بالسؤال وما في حكمه.
من الواضح استغناء الإنسان عن معلِّم يُعلِّمه الرجوع إلى المختصِّ، وإلى من هو أعلم منه في مختلف احتياجاته، فهذه ضرورة عقلية بالنظر إلى النقصان والباعث العقلائي على سد النقص وطلب الكمال. فتأمَّل جهة البرهان في المقام.
إلَّا أنَّ البحث بين الأعلام وقع في الرجوع إلى الأعلم، أمَّا الرجوع إلى العالم فهو محلُّ اتِّفاق كما هو واضح، بل ذهب البعض إلى أنَّه ظاهر النصوص الشريفة، ومن لا يعتني بتحرِّي الأفضل أو الأعلم فقد يُعاتب فيما لو أخذ عنه ما لم يكن فيه صائبًا، أو فيما لو ظهر رأي الأفضل أو الأعلم وكان أصوب من الرأي الذي أخذه عن المفضول، غير أنَّ هذا العتاب لا يتوجَّه، في الغالب، إلَّا بعد ظهور العيب أو ظهور الأفضل، أمَّا قبل ذلك فربَّما كان من باب النصيحة، ولا يلام إن لم يأخذ بها؛ حيث إنَّ رجوعه للعالم كافٍ لإعذاره.
في المقام أمران:
الأوَّل: قياسُ الرجوع إلى العالم الفقيه في أمور الدين على الرجوع إلى أهل الحِرف والعلوم قياسٌ مع الفارق؛ لأخصيَّة الفرع عن الأصل؛ وذلك من جهتين:
الأولى: يرتبطُ طَلَبُ الفتوى في الدين بطلب رضا الله تعالى والحذر من سخطه، وهذا أمر لا يُقْبَلُ التساهل فيه كما قد يكون في حاجة رجوع العاميِّ إلى العالم في مختلف الحِرَف والعلوم.
الثانية: طلب العامِّي للفتوى طلبٌ لِمَا يكشف عن الواقع؛ وهو المأمور به، وإنَّما الإشكال في فقدان الطرق الموصلة إليه عينًا بعد وقوع أمر الله تعالى بغيبة خليفته بالحق (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).
الثاني: إنَّ في عدم رجوع العامِّي إلى الفقيه الأعلم عند الاختلاف ظلمًا للنفس، وهو قبيح.
يتحصَّلُ أنَّه لا مُحَصِّل من الاستدلالَ بِتَبَانِي العُقْلَاءِ؛ إذ إنَّ الموضوع فيه هو الرجوع إلى الأعلم في سائر العلوم والحِرف، وهو رجوع لا يقبح تركه، وإنْ عُوتِبَ تاركه، أمَّا ترك الرجوع إلى الفقيه الأعلم في خصوص المسائل المختلف فيها فقبيح لمحلِّ الظلم. فالدليل عليه عقليٌّ، ولا يحتاج إلى مزيد نظر، وهذا ما يثبته سؤال الأصحاب عمَّن يرجعون إليه عند بُعد الشقة عن الإمام المعصوم (عليه السَّلام)، ولو كان في الرجوع إلى العالم كفاية لما سألوا. فتنبَّه رعاك اللهُ تعالى.
ولا يُردُّ بأنَّ الدليل العقلي لا يُخَصَّص؛ لأنَّه ردٌّ مردودٌ بأنَّ الدليل العقلي فيما نحن فيه مُتَخَصِّصٌ في الخطير لا مُخَصَّصٌ.
ثُمَّ إنَّ إحراز المُعذريَّة إنَّما هو بالتزام فتوى الأعلم، وإلَّا فلا مُعذريَّة، والبحث في المبادئ التصديقية، ولا يناسبه المقام.
ولن نغفل في المقام عن الوجدان؛ فإنَّ من يرجع إلى العالِم لا يجد نفسه راضية عند علمه بوجود الأعلم وإحرازه له.
مشكلة إحراز الأعلم:
أجاد الشَّيخ أحمد الماحوزي (حفظه الله تعالى) عندما قال في بحث تحديد المجتهد الأعلم: "وليس بالضرورة أن يكون الأعلم والأفقه (شخصًا)[8] بعينه، بل قد يكون على شكل مجموعة من الفقهاء في طبقة واحدة، بلحاظ أنَّ الفقهاء من حيث العلم والفقاهة والإحاطة بمدارك الأدلة – كما هو الواقع الخارجي – على طبقات ودرجات متفاوتة، ففي هذه الحالة لا يجوز ترك تقليد من هو في الطبقة الأولى وتقليد من هو في الطبقة الثانية، فضلًا عن الثالثة وما بعدها من رُتَب.
وعليه: إنَّما يتعيَّن تقليد الأعلم فيما إذا كان التفاوت بينه وبين غيره واضحًا بيِّنًا لدى أهل الخبرة والتخصُّص، أمَّا إذا كان التفاوت في الأعلمية ضئيلًا أو يختلف باختلاف الوجوه والجوانب والأبعاد والحيثيات فلا يُشتَرَطُ تقليد الأعلم دقَّةً حينئذٍ"[9].
وفي بيانه (حفظه الله تعالى) كفاية.
ثُمَّ إنَّ النصوص الشريفة الواردة في الاحتياط في الدين والعناية بأحكام ربِّ العالمين موافقةٌ لقول العقل.
روى الشَّيخ المفيد في الأمالي عن الإمام الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، قال: "إنَّ أميرَ المؤمنين (صلوات الله عليه) قال لكميل بن زياد فيما قال: يا كُميل، أخُوكَ دِينُكَ، فاحْتَطْ لِدِينِكَ بِمَا شِئْتَ"[10]، ولا شكَّ في أنَّ التزام الأعلم الجامع لشرائط الفتوى والتقليد موافقٌ للاحتياط في الدين.
نخلص إلى وجوب الرجوع إلى الأعلم من الفقهاء؛ بدليل وجوب الرجوع إلى العالم المستغني عن التصريح اعتمادًا على وجدانية تقديم الأعلم، وهي وجدانيةٌ راجعة إلى حكم العقل.
وإلَّا؛ فالأصل عند الدوران بين التخيير والتعيين فيما هو المجعول له الحجيَّة، فلا شكَّ في تحقُّقها في الأعلم، ولا يردُ إشكال مقاصد الشرعية في التيسير؛ إذ إنَّنا قد أجبنا ببيان الشَّيخ أحمد الماحوزي.
تنبيه:
ينبعث البعض في رفضهم أو إشكالهم على القول بوجوب الرجوع للأعلم مِنَ الإعضال في تشخيصه خارجًا، ولا نفع في اللجوء لأهل الخبرة؛ إذ، في الغالب، يُقدِّم كلُّ واحدٍ منهم أستاذَه أو من تربَّى تحت منبر درسه، فضلًا عن فيما لو كان للحزبية أو التيَّار أو ما شابه حضورٌ في المقام!
والجواب:
أوَّلًا: تقدَّم ما أفاده الشَّيخ الماحوزي، وهو صائب.
ثانيًا: إن تعذَّر الأمر فالاطمئنان كاف، و(لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)[11].
إبطال تَضعيفٍ مُحتَمل:
قد يُقال: لا اعتبار لما تقولون، ويكفي في ردِّ دعوى وجوب الرجوع إلى الأعلم عدم الدليل النصِّي عليه، وإن ذهب بعضٌ لتوجيه النصوص الواردة في باب الرجوع إلى العالم فها هو السَّيد الخوئي (قُدِّس سرُّه) يردُّها تارةً لعلَّة في السند وأخرى لقصور في الدلالة، وثالثة لكلا الأمرين.
نُبطِلُ هذا التضعيف؛ فنقول: لم يَرِدْ نهيٌ عن الرجوع إلى الأعلم، لا ولا إبعاد لكراهة، فيبقى الأمرُ دائرًا بين التخيير والاستحباب والوجوب، وعلى عدم النصِّ اللفظي على الوجوب، دار بين التخيير والاستحباب، وليس التخيير بين المتساويين؛ حيث إنَّ الكلام في العالم والأعلم، فوافق الرجوعُ إلى الأعلمِ الاحتياطَ، وهو أقل ما يمكن أن يُقال في المقام.
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمَّد وآله الطيبين الطاهرين.
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
25 صفر 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
...............................................
[1] - التنقيح في شرح العروة الوثقى – السَّيد الخوئي – ج1 التقليد ص113 - 120
[2] - الآيات من 7 إلى 10 من سورة الشمس
[3] - تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ج 2 - ص 424
[4] - الآية 2 من سورة الجمعة
[5] - الآية 170 من سورة البقرة
[6] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 14
[7] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 1 - ص 10
[8] - في النسخة (شخص)، والصحيح ما أثبتناه.
[9] - كيفية تحديد المجتهد العلم – الشَّيخ أحمد الماحوزي – ص3-4 ( https://www.ketabat.org/writings/264 )
[10] - الأمالي - الشيخ المفيد - ص 283
[11] - الآية 286 من سورة البقرة