تقريرات موجزة: درس (الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة) - الشيخ الحرُّ العاملي (قدِّس سرُّه) }15{.
الأستاذ: السيِّد محمَّد السيِّد علي العلوي.
المقرِّر: محمود أحمد سهلان العكراوي.
أبواب الكلِّيات المتعلقة بأصول الدين وما يناسبها - باب 26 - أنَّ الله سبحانه لا يتغير له ذاتٌ ولا صفةٌ ذاتيةٌ وأنَّه لا مجرَّد غيره:
}150{ الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن أحمد بن إدريس، عن محمَّد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن فُضيل بن عثمان، عن ابن أبي يَعفور، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قولِ الله: {هُوَ الأَوَّلُ والآخِرُ} [الحديد/ 3] فقُلتُ: أمَّا الأوَّل فقد عرفناه، وأمَّا الآخِر فبيِّن لنا تفسيره، فقال: إنَّه ليس شيءٌ إلا يَبيد أو يتغيَّر ويدخُلُه التغيير والزوال والانتقال من لونٍ إلى لونٍ، ومن هيئةٍ إلى هيئةٍ، ومن صفةٍ إلى صفةٍ، ومن زيادةٍ إلى نقصانٍ، ومن نقصانٍ إلى زيادةٍ، إلا ربَّ العالمين فإنَّه لم يزلْ ولا يزال بحالةٍ واحدةٍ، وهو الأوَّل قبل كلِّ شيءٍ والآخِر بعد كلِّ شيءٍ، عَلَى ما لم يزل، لا تختلف عليه الصفات والأسماء ... الحديث.
قاعدةٌ:
ليس شيءٌ إلا يبيد أو يتغيَّر ويدخُلُه التغيير إلَّا الله.
سبب الفناء هو الحُدوث، كما نفهم من القاعدة التي مرَّت في الرواية.
الأوَّل والآخِر لا واقعية لهما بلا خَلْق، فهُما من الأمور الانتزاعية، والانتزاع من شأن الإنسان، فهو يرى الله بالنسبة له الأوَّل، وبالنسبة إلى كلِّ شيءٍ الآخِر، والانتزاع راجعٌ في وصفه لصِفتين متضادتين، كقولنا الشيء فوقٌ لما تحته، وتحتٌ لما فوقه، وكذا الداخل والخارج، والعِلَّة والمعلول.
}151{ الرواية الثانية: وبالإسناد عن صفوان بن يحيى، عن الرضا (عليه السلام) في حديثٍ قال: كيف تجترئ أنْ تصفَ ربَّك بالتغيُّر من حالٍ إلى حالٍ وأنَّه يجري عليه ما يجري على المخلوقين؟ سبحانه لم يزلْ مع الزائلين، ولم يتغيَّر مع المتغيِّرين، ولم يتبدَّل مع المتبدِّلين.
مرَّ بيان مثله في رواياتٍ سابقة.
}152{ الرواية الثالثة: وعن عدَّةٍ من أصحابنا، عن أحمد بن محمَّد البَرْقي، عن محمَّد بن عيسى، عن المَشْرِقي حمزة بن المُرتَفِع، عن بعض أصحابنا، قال: كنتُ في مجلس أبي جعفرٍ (عليه السلام) إذ دخلَ عليه عمرُو بن عُبيد فقال له: جُعلتُ فداك، قولُ الله {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيهِ غَضَبِي فَقَد هَوَى} [طه/ 81] ما ذلك الغضب؟ فقال أبو جعفرٍ (عليه السلام): هو العقاب يا عمرُو، إنَّه مَن زَعَمَ أنَّ الله قد زالَ من شيءٍ إلى شيءٍ فَقَد وَصَفَه بصفةِ مخلوقٍ، وإنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يستفزُّه شيءٌ فيغيِّره.
أقول: عمرُو بن عُبيد: كذَّابٌ منافق، وقد جاء بالآية لا بحثًا عن الجواب، بل ليجرَّ الإمام (عليه السلام) لأمورٍ أخرى، لكنَّه لم يُفلِح.
في هذه المسألة إشكالٌ بديهيٌّ جدًّا، وهو في حال فَعلَ فردٌ فعلًا يُرضي الله وآخر فعلًا يُغضِبه في آنٍ واحدٍ، فإمَّا أنْ يكون الله تعالى راضيًا أو غاضبًا، فلا يمكن أنْ يكون راضيًا وغاضبًا في نفس الوقت، وفي عِدَّة دروسٍ في العقيدة كنَّا نُقدِّم بمفاد كلام الإمام في هذه الرواية.
}153{ الرواية الرابعة: وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عَمرو، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث الزنديق الذي سأله عن الله، له رضًا وسَخَطٌ؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): نعم، ولكنْ ليس على ما يوجد من المخلوقين، وذلك أنَّ الرضا حالٌ تدخُل عليه فتنقله من حالٍ إلى حالٍ؛ لأنَّ المخلوق أجوفُ معتمِلٌ مركَّبٌ، للأشياء فيه مَدخلٌ، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه، لأنَّه واحدٌ، أحديُّ الذات وأحديُّ المعنى، فرِضاه ثوابُه وسَخَطُه عِقابُه من غير شيءٍ يتداخله فيُهيِّجُه وينقله من حالٍ إلى حالٍ، لأنَّ ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين.
"أقول: وتقدَّم ما يدل على ذلك ويأتي ما يدل عليه والأحاديث والأدلة فيه كثيرةٌ.
وقد استدلَّ بعض علمائنا على نفي المُجرَّد سوى الله بوجوهٍ، منها قوله تعالى: {ليسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ} [الشورى/ 11] ولو وُجِد مجرَّدٌ سوى الله لكان شبيهًا به ومِثلًا له، ولذلك قال بعض من قلَّد الفلاسفة في إثبات المجرَّد بنوعٍ من التشبيه، وقد تواتر عن أهل البيت (عليهم السلام) نفي التشبيه.
ومنها قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حيٍّ} [الأنبياء/ 30] ومن قال بوجود المُجرَّدات من العقول ونحوها، قال بحياتها.
ومنها ما دلَّ من الأحاديث على أنَّ الله ليس له شبهٌ ولا مِثلٌ في الوحدانية والفردية وعدم التجزي، وأنَّه لا واحد غيره، ومنها الحديث الأخير المذكور هنا".
مُعتَمِل: أيْ تَعتَمِل فيه الأشياء، ويتأثَّر.
يقصد الشيخ الحرُّ بتقليد الفلاسفة قولهم أنَّ العقل مجردٌ، فانتهوا إلى أنَّ في كلِّ إنسانٍ وجودٌ إلهيٌّ، وهو هذا العقل المجرد، فشبَّهوه بالله سبحانه وتعالى، فوقعوا في المحذور الذي يُحذِّر منه المعصومون.
تنبيهٌ مهمٌ:
من أسباب الفساد النفسي والفساد في المجتمع الذي قد يقع من قِبَل طلبة العلم عدم أخذ كلِّ الحيثيات في الموضوع، كما لو نجح أحد طلبة العلم في تجربةٍ ما، فلا بدَّ أنْ نأخذه كحيثيَّةٍ من حيثيات نجاح هذه التجربة، فليس بالضرورة أنْ ينجحَ فيها غيرُه، هذا أوَّلًا.
ثانيًا: ترون أنَّ بعض الفضلاء في الحوزة يتحدَّثون عن طالبٍ يحضر بحث الخارج، ويكتب، ويُدرِّس، ودروسه متميَّزة، يقولون أنَّ مقدماته ضعيفةٌ. يحسن اختيار الطالب عندما تكون مقدماته قويةً، وهذا لا يعني أنْ يكونَ حافظًا للمتون، لكنَّ المراد هو فهم المسألة وإمكان بيانها وبيان الإشكالات التي تَرِدُ عليها، وهو عزيزٌ جدًّا، فالمقدمات القوية تجعل الطالب ثقيلًا بعيدًا عن الخِفَّة المذمومة.
عندما نأتي لدراسة العقيدة، مع كون المقدمات قويةً تضعف محاذير الانزلاق لكون الطالب فاهمًا، ومعرفته لأين هو متَّجِهٌ.
هنا نقول: عندما نَدرُس الفلسفة وتكون مقدماتنا قويةً لا نقع فيما وقع فيه هؤلاء الذين يُشير إليهم الشيخ الحرُّ العاملي، فأغلب هؤلاء ساروا في طريق الفلسفة والكلام وصاروا يقرأون الروايات بعيون الفلسفة والكلام، والقرآن كذلك، بل وحياتهم يعيشونها برؤيةٍ فلسفيةٍ، وللتخلُّص من هذا لا بدَّ أنْ يُمرحِل الطالب حياته، كأنْ يبدأ بتحديد مدةٍ معينةٍ لضبط المقدمات، مع وجود المُرشِد، فإنَّ الانزلاق بعد مرور السنوات يكون الرجوع منه صعبًا جدًّا.
}154{ الرواية الخامسة: ومنها ما رواه ابن بابويه في التوحيد، بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، في حديثٍ في صفة الله: داخلٌ في الأشياء لا كشيءٍ في شيءٍ داخلٌ، وخارجٌ من الأشياء لا كشيءٍ من شيءٍ خارجٌ، سبحان مَن هو هكذا ولا هكذا غيرُه، ولكلِّ شيءٍ مبتدأٌ.
لا يمكن أنْ تفهم قوله (عليه السلام): "داخلٌ في الأشياء" ما لم ترَ هذا في الخارج، فهو مفهومٌ انتزاعيٌ على هذا، لكنْ كيف "لا كشيءٍ في شيءٍ داخلٌ"؟ أيْ هو داخلٌ في الأشياء لكنْ ليس كما تراه في الخارج، فهناك مفهومٌ آخر للدخول في الأشياء، لا المفهوم المُنتزَع من الخارج، وهذا من فوائد التجريد في التفكُّر، ولا يهمُّ تسميته فلسفةً أو كلامًا أو غير ذلك، فالقصد هو تجريد مفاهيمك من المُنتزَعات في هذه الدنيا، والرجوع بها لأصلها.
في محاولاتنا لفهم وبيان الكثير من الأمور نحتاج لإعطاء مفاتيح الفهم فقط، لأنَّ تمام البيان فيها يؤدي للفساد والباطل والدخول في المحاذير، وهذا ممَّا وقع فيه الصوفية.
قال (عليه السلام): "ولكلِّ شيءٍ مبتدأٌ"، ومبتدأ كلِّ شيءٍ هو مفهومه العِلمي، وذكرها هنا لأنَّ الدخول والخروج مَظهران لمعنًى عالٍ، لا أنَّ واقعه هذه الظرفية التي نفهما، فهنا احتواءٌ وإحاطةٌ مختلفةٌ، فلكلِّ هذه المُنتزَعات مبتدأٌ، وهو المفهوم العلمي لها، وهذا ما سمَّاه أفلاطون (عَالَم المُثُل)، فقال أنَّ كلَّ شيءٍ في هذا الوجود له مِثالٌ كاملٌ تامٌّ.
للأسف؛ قد يأتي من يقول أنَّك متأثرٌ بأفلاطون، وفي الواقع لا داعي لهذا أبدًا، فلو افترضنا أنَّ كلَّ كلامه غيرُ صحيحٍ لكنَّه أصاب هنا، فما المانع أنْ نقول بصحَّة ما قال؟ والحال أنَّنا نتوافق حتى مع الهندوس والبوذيين وغيرهم في بعض ما يقولون، ولا إشكال في هذا، بل هو تشابهٌ طبيعيٌّ جدًّا بين البشر، والفرق أنَّنا طلبنا الفِطرة ودلَّنا الرسول (صلَّى الله عليه وآله) على الطريق دُونَهم.
"وعلى قولِ مَن أثبت العقول المجردة لا يختصُّ هذا الوصف بالله، بل يشاركه فيه العقول، وأيضًا ليس لها ابتداءٌ عند القائلين بوجودها".
بالإضافة إلى الفلاسفة وغيرهم تميَّز الإسماعيلية من طوائف المسلمين بمسألة العقول المجرَّدة، وهم أوَّل من تحدَّث عن العقول العشرة والأفلاك، ومجرد وجودها عندهم لا يجعلنا نحكم بخطئها مباشرةً، وهذا ما نريد أنْ ننبِّه عليه، فقد أعمَلوا فِكرَهم ووصلوا لهذه النتيجة، وإنْ كان مخالِفًا لروايات أهل البيت (عليهم السلام) فهو باطلٌ قطعًا، وإنْ لم يكن مخالفًا فنتعاطى معه بكلِّ أريحية.
والجواب على كلام الشيخ الحرِّ العاملي هو: أنَّ الاشتراك في التجرد لا يقتضي الوِحدة والتشابه، وذلك لأنَّني أذهب إلى الاشتراك اللفظي في الوجود لا الاشتراك المعنوي، فلو أثبتنا وجود العقول المجردة فهذا ليس من سِنخ وجود الواجب سبحانه وتعالى.
}155{ الرواية السادسة: ومنها ما رواه فيه بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، في حديثٍ قال: ما من شيءٍ إلا يَبيدُ أو يتغيَّر أو ينتقِل من لونٍ إلى لونٍ أو من صفةٍ إلى صفةٍ أو من زيادةٍ إلى نقصانٍ ومن نقصانٍ إلى زيادةٍ، إلا اللهَ ربَّ العالمين.
"والقائلون بالعقول المجردة، لا يجوِّزون عليها التغيير".
فكلُّ شيءٍ تطرأ عليه هذه العوارض المذكورة في الرواية إلا الله سبحانه وتعالى، ويذكر الإمام (عليه السلام) مِثل هذا الكلام ليُرشدنا لأنْ لا نقيسَ الخالق تعالى على المخلوقين، ولا أنْ نفهمه من خلال هذه الدنيا، بل يُفهَم تعالى من خلال التنزيه عن ملابسات هذه الدنيا، بل هو المقابل المُطلَق لكلِّ شيءٍ غيره.
}156{ الشاهد السابع: ومنها ما دلَّ من الآية والأحاديث أنَّ الله مُختصٌّ بالأسماء الحسنى لا تَصدُق على غيره، ومن قال بالعقول المجردة يلزمه أنْ تصدُقَ الأسماء الحسنى عليها، بل هي أولى منه لأنَّه على قولهم لم يصدر عنه إلا فعلٌ واحدٌ وهو العقل الأول. [هذه ليست برواية، وقد نقلتُ النصَّ كما هو من الكتاب، ويأتي مِثلها].
وهذه مقولة الإسماعيلية.
نلاحظ اهتمام الشيخ الحرِّ العاملي بنفي مسألة العقول المجردة في روايات هذا الباب، والذي بلور ونظَّر لهذه المسألة من الطوائف الإسلامية هم الإسماعيليون، وتبدأ هذه المسألة من سؤال: كيف بدأ الله الخلق؟ وهذه النقطة إمَّا أنْ تُبحث بدقةٍ ويتحرَّز فيها الباحث بعِدَّة قيودٍ، وإلا فالنتائج قد تكون باطلةً، وقد لا يترتب على هذا البطلان شيءٌ، وقد يترتب عليه بعض المحاذير. الله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ، وبمجرد أنْ تسأل عن كيفية أول خلقٍ وقعتَ في المحاذير، لأنَّك تدخل في مسألة فرض الزمن.
يقولون أنَّ الله خلق العقل الأول، ويشترك هذا مع الله تعالى في التنزيه، ولا يقصدون التنزيه المطلق، أمَّا الافتراق يكمن في أنَّ الله لا جهات له والعقل الأول له جهات، ومن هذه الجهات صدرتِ الأفلاك، وكلُّ جهةٍ لها فلك، وكلُّ فلكٍ له خلقه، ثمَّ من العقل الأول صدر العقل الثاني، وما نفعله واقعًا هو الفرار من محذور صدور الكثير عن الواحد، ونلتزم بصدور الواحد عن الواحد، وهذا من أهمِّ المحاذير التي أرادوا الفرار منها في هذه النظرية، وبتعبيرٍ آخر كلُّ خلقٍ يصدر من جهةٍ، ولكلِّ جهةٍ فلكٌ ونظامٌ، ومخلوقات العقل الأول مستقلةٌ عن مخلوقات العقل الثاني في أفلاكها، وهكذا العقول الباقية، حتى نصل للعقل العاشر وهو الفعَّال. يأتي مِثل الشيخ الحرِّ العاملي ويتساءل كيف انتهيتم إلى هذه الصياغة، وينظر في أدلتهم.
مع ذلك، عندما نأتي لمثل هذه النظريات لا يصحُّ أنْ نسخر منها، ولا ينبغي استصغار عقليات أصحابها، ومثل نظرية العقول العشرة أثبتها بعض علماء الشيعة، وإنْ لم تثبت عندي فينبغي أنْ أكتفي برفضها والاستدلال على خطئها، دون اللجوء إلى تسخيفها والسخرية من أصحابها. كطالب علمٍ لا ينبغي أنْ أُربِّي نفسي سلوكيًا على السخرية.
}157{ الرواية الثامنة: ومنها ما رواه في كتاب التوحيد، عن الرضا (عليه السلام) في حديثٍ قال: ولا معرفةَ إلا بالإخلاص، ولا إخلاصَ مع التشبيه، فكلُّ ما في الخَلقِ لا يُوجَد في خالقه، وكلُّ ما يُمكِن فيه يمتنع من صانعه ... الحديث.
"ومن قال بالعقول المجرَّدة لا يُبقي هذا العام على عمومه، لأنَّ فيها الوحدة والتجرد".
والطرف الآخر يردُّ على كلام الشيخ الحرِّ فيقول في الأعدام لا يوجد لدينا مُشابهةٌ، وهذا من وَصفِ الأمور العدمية وهي قضايا مبحوثةٌ في المعقول، وليستْ من النصوص، وهذا لا يعترف به الشيخ الحرُّ العاملي.
والمقصود بالإخلاص هنا إخلاص التوحيد لا إخلاص النية، أيْ أنَّنا لا نتمكن من معرفته تعالى إلا بالتنزيه، أيْ بتخليص ما في أذهاننا ممَّا يُشابِه الخلق، ودليله ما في ذيل الكلام.
قاعدتان:
الأولى: كلُّ ما في الخَلقِ لا يوجد في خالقه.
الثانية: كلُّ ما يمكن في المخلوق يمتنع من صانعه.
}158{ الشاهد التاسع: ومنها ما دلَّ من الآية والرواية على أنَّ الملائكة لا تعلم شيئًا إلا بأنْ يُعلِّمها الله. ومن قال بالعقول المجردة قال إنَّها تعلم كلَّ شيءٍ بغير تعليم.
هم يقولون تعلم لأنَّها من فلك العقل الأول، فهي تعلم دون أنْ تُعلَّم، لأنَّها صادرةٌ عن جهة علمٍ، فيكون العلم مثلًا من ذاتيات الملائكة، ويرى الشيخ الحرُّ أنَّ هذا مخالفٌ للنصوص كقوله تعالى: {لَا عِلْمَ لَنَا إلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة/ 32]، فيجيبون هناك أنَّ كلامنا في العلم الأولي لا التفصيلي، وفي الواقع يتحوَّل الكلام إلى جدلٍ مُتعِبٍ جدًّا.
نرى أنَّ حلَّ مشكلة الخلق الأول وجود جهةٍ غير معلومةٍ لنا في الجهة المتوسطة، فنعلم بجانبٍ منها وما تحته، ولا نعلم بالجهة الغيبية فيه ولسنا مكلَّفين بمعرفتها.
}159{ الرواية العاشرة: ومنها ما رواه الكليني، والصدوق، وغيرهما، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة/ 255] قال: الكُرسيُّ وَسِعَ السماوات والأرض، والعرشُ وكلُّ شيءٍ في الكرسي.
من إشكالات الملحدين ومَنْ يستقلُّون بعقولهم لفهم القرآن أنَّ الأرض لا تساوي شيئًا من الكون فكيف يتحدَّث قرآنكم عن الأرض بمثل هذه الطريقة، فنُجيب بأنَّ الأرض ليستْ هي هذه الكُرة، بل كلُّ ما استقرَّ عليه شيءٌ وفارَقَ العلو فهو أرضٌ، فأين ما تذهب في هذا الوجود فهناك جهةٌ عليا بالنسبة لك، فالحديث عن السماء حديثٌ عن امتدادٍ يقابله امتدادٌ آخر وهو الأرض، فقوله {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ} يعني وَسع كرسيه كلَّ هذا الوجود، وهذا التعبير حقيقيٌّ وليس بمجاز، وذلك أنَّ الله تعالى يخاطبنا بألفاظنا التي نفهمها.
قوله (عليه السلام): "والعرش وكلُّ شيءٍ في الكرسي" يعني أنَّ كلَّ الخلقِ في الكرسي.
أما الكرسي فيفسره أهل البيت (عليهم السلام) بأنَّه سَلطنة الله سبحانه وتعالى ومُلكه، والعرش دون الكرسي، ويمكن لنا لتقريب الصورة أنْ نشبِّهه بمكان إدارة الأمور.
}160{ الرواية الحادية عشر: ومنها ما رواه في التوحيد، بسنده عن أبي جعفرٍ (عليه السلام) وقد سُئِل عن أوَّل ما خلق الله؟ فقال: إنَّ الله كان خالقًا ولا مخلوق، فأوَّل ما خَلَقَهُ مِن خَلقِهِ الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء ... الحديث.
مرَّ الكلام فيها.
}161{ الرواية الثانية عشر: وروى عليُّ بن إبراهيم في تفسيره، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول إبليس: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف/ 12] فقال: كَذَبَ إبليس، ما خَلْقٌ خَلَقَهُ الله إلا من طينٍ، قال الله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا} [يس/ 80] خَلَقَ الله النارَ من الشجر، والشجرُ أصلُهُ من طينٍ.
}162{ الشاهد الثالث عشر: ومنها ما رُوي: أنَّ الروحَ جِسمٌ، وكذا العقل، وأنَّ كلَّ شيءٍ يَفْنَى عند النفخة الأولى فلا يبقى إلَّا الله، وأنَّ الله يخلقها بعد فنائها.
لازم وجود الجسم في هذه النشأة ما يشغل حيِّزًا من الفراغ، أمَّا حقيقته أنَّه الشيء الذي له مادة؛ أيْ له شيءٌ يَمُدُّه، لذلك قالوا جِسمٌ وجِسمِّيٌّ للتفريق، والجِسميُّ هو مادة الجسم، لذلك الروح والعقل أجسام، وهذا لا يعني بالضرورة أنَّ لها أبعادًا ثلاثة، ولكنْ بالضرورة لها جهة إمدادٍ، وهذا ما نقصده في العقيدة وعلم الكلام من المادة، وقوله: "يفنى" دليلٌ قاطعٌ على أنَّ المُراد بالجسم ليس المادة التي في علم الفيزياء لأنَّ الأجسام المقصودة في الفيزياء لا تفنى، فالمراد أمرٌ آخر لأنَّ الفناء هنا بمعنى أنَّها تكون عدمًا.
أبواب الكلِّيات المتعلقة بأصول الدين وما يناسبها - باب 27 - أنَّ أسماء الله سبحانه كلُّها مُحدَثةٌ مخلوقةٌ وهي غيره:
}163{ الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن أحمد بن إدريس، عن الحسين بن عبد الله، عن محمَّد بن عبد الله وموسى بن عُمَر، والحسن بن عليِّ بن عثمان، كلُّهم عن محمَّد بن سنان، قال: سألته -يعني الرضا (عليه السلام)- عن الاسم؟ فقال: صِفةٌ لموصوفٍ.
محمَّد بن سنان يسأل في هذه الرواية عن المقصود من الأسماء والمعاني، لا أنَّه يسأل عن الدال، سواء كان الدالُّ لفظيًّا أو كتبيًّا أو غير ذلك، فهو يريد ما يدلُّ عليه الاسم، فصفة القدرة مثلًا هي التي يسأل عنها لا عن الدالِّ عليها، فيكون سؤاله عن علاقة القدرة بالذات، فأجابه الإمام (عليه السلام) بأنَّها: "صفةٌ لموصوفٍ"، ونحن نريد الحقيقة فقال له هذه صفة، ومقام التوصيف هو مقام التشخيص، وما لم يكن هناك محلٌّ لظهور الصفة لا نقول بوجود صفةٍ لموصوفٍ، وهذا لا يعني عدم وجودها، لكنَّها تحتاج لِما يُظهرها، فتظهر إذا احتجنا للوصف.
}164{ الرواية الثانية: وعن محمَّد بن أبي عبد الله، عن محمَّد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن بكر بن صالح، عن عليِّ بن صالح، عن الحسن بن محمَّد بن خالد، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: اسم الله غيرُ الله، وكلُّ شيءٍ وقع عليه اسم شيءٍ فهو مخلوقٌ ما خلا الله، فأمَّا ما عبَّرَته الألسن وعَمِلَته الأيدي فهو مخلوقٌ، إلى أنْ قال: الله خالق الأشياء لا من شيءٍ كان، والله يُسمَّى بأسمائه وهو غيرُ أسمائه والأسماء غيرُه.
نتكلم عن الدوالِّ لكنَّنا نريد المدلول، وعندما نتكلم عن الله فإمَّا أنْ نقصد المُطلَق أو جهةً منه، ولا يمكن أنْ يكون المُطلَق لأنَّنا لا نحيط به تعالى، فنلحظ بعض جوانبه وهي مسائل منفصلة، لا أنَّها الذات، فهي ظواهر تدل على الذات المقدسة، ومُظهِراتٌ لعظمته سبحانه وتعالى، وإلا فالذات لا يمكن أنْ نسميها، لأنَّ الوضع يكون حينها خاصًّا والموضوع له عامًّا، وهذا غير ممكن، فإذا أردنا وضع لفظٍ لمعنى لا يمكن أنْ يكون عن طريق الصورة الرابعة من صور الوضع، لأنَّ التصور التامَّ فيها غير ممكن.
قال (عليه السلام): "فأمَّا ما عبَّرَته الألسن وعَمِلَته الأيدي فهو مخلوقٌ"، فنحن لا يمكن أنْ نتحدث عن كُنه الله تعالى، لأنَّنا لا يمكن أنْ نحيط به.
تنبيهٌ:
كلُّ علمٍ نَدْرُسه فهو مأخوذٌ من الواقع، فلا بدَّ أنْ نأخذه من الواقع ثمَّ نُعيد انتاجه في حياتنا، فإذا جئنا لدرس الأصول مثلًا، فقِوام الفهم فيه هو تصور المسائل، وليس كلُّ من ادعى تصور المسألة فهو متصوِّرٌ لها بشكلٍ صحيحٍ، فإذا لم تكن قادرًا على أخذ المسألة من الخارج وتصورها وإعادة انتاجها في فهمك وواقعك، فأنت غير متصوِّرٍ للمسألة لأنَّك تتصور أنَّ استعمالها فقط في استنباط الأحكام الشرعية، والمحذور يكون بأنَّك أخذت علم الأصول من نفس عملية الاستنباط، والحال أنَّك جاهلٌ بعملية الاستنباط عندما جئت لدراسة علم الأصول، وهو دورٌ محال.
فإذا كُنت تريد أنْ تتكلم عن ربِّ العالمين فينبغي أنْ تكون متصورًا له، وهذا غير ممكنٍ، فلا يمكن أنْ تتحدث إلا من جهة الإجمال لا من جهة التفصيل، وذلك للعجز عن التصور، ولذلك عبَّر (عليه السلام): "وأمَّا ما عبَّرَته ... فهو مخلوقٌ"، لأنَّنا قاصرون لا نتمكن من الإحاطة بالله تعالى، فكانت هذه الأسماء والصفات للمخلوق كي يتمكن من الوصول إلى الله تعالى.
قال (عليه السلام): "والله يُسمَّى بأسمائه وهو غيرُ أسمائه والأسماء غيرُه"، والمراد بالأسماء المعاني التي تدل عليها لا نفس الدوال والألفاظ، ولا يوجد من يقول بأنَّ الألفاظ نفسها هي الله تعالى، بل حتى الجمادات مثل الكتاب، لا يوجد من يقول بأنَّ الكتاب هو هذا اللفظ، فهو شيءٌ والدال عليه شيءٌّ آخر، فيدل اللفظ عليه بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام.
}165{ الرواية الثالثة: وعن عليِّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النَّضر بن سُويد، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، في حديثٍ قال: لله تسعةٌ وتسعون اسمًا، فلو كان الاسم هو المسمَّى لكان لكلِّ اسمٍ منها إلهًا، ولكنَّ الله معنًى يُدَلُّ عليه بهذه الأسماء وهي غيرُه.
الاسم هو الصفة، والمسمَّى هو الموصوف، فهل صفة القدرة مثلًا هي الله تعالى أم هي غيره.
وهناك من وَقَع في هذه المسألة، فعَبَدَ القدرة أو غيرها من الصفات، كمن جمع الصفات وجعلها للنور وعَبَدَ النور، لذلك أراد الإمام (عليه السلام) أنْ يقول: أنَّه لو كانت هذه الصفات هي الله تعالى لكانت كلُّ صفةٍ إلهًا.
}166{ الرواية الرابعة: وعن محمَّد بن أبي عبد الله، رَفَعَهُ عن أبي هاشمٍ الجعفري، عن أبي جعفرٍ الثاني (عليه السلام)، في حديثٍ أنَّه سُئِل عن أسماء الله وصفاته؟ فقال: إنْ كُنتَ تقول: لم تزلْ في عِلْمِه وهو مُستَحِقُّها فنعم، وإنْ كُنتَ تقول: لم يزلْ تصويرها وهِجاؤُها وتقطيع حروفِها، فمعاذَ الله أنْ يكون معه شيءٌ غيرُه، بل كان الله ولا خَلْق، ثمَّ خَلَقَها وسيلةً بينه وبين خَلْقِه يتضرَّعون بها إليه ويَعْبُدُونه.
قوله (عليه السلام): "لم تزلْ في عِلْمِه"، أيْ لم تزلْ هذه الصفات والأسماء في عِلْمِه تعالى، ولكنَّها لم تظهر، وهي تنطبق عليه من جهة الوصف، والذي يحتاجه هو الإنسان.
قال (عليه السلام): "وإنْ كُنتَ تقول: لم يزلْ تصويرها وهِجاؤُها وتقطيع حروفِها"، أيْ هذه الألفاظ.
ثمَّ قال (عليه السلام): "ثمَّ خَلَقَهَا وسيلةً بينه وبين خلقه ..."، أراد أنْ يبيَّن له أنَّ الإنسان لا يستطيع الوصول إليه تعالى إلا عن طريق هذه الصفات، ولولا وجود الإنسان لا نقول أنَّ هذه الصفات غيرُ موجودةٍ، لكنَّ هذه المظاهر لا تكون، لأنَّها ممَّا يحتاجه الإنسان، فالغاية من وجودها الخارجي تكون مُنتفيةٌ فتعود في عِلم الله تعالى، لا أنَّ المُحقِّق لها هي هذه الألفاظ.
استطرادٌ:
ما معنى لا مشاحَّة في الألفاظ والمصطلحات؟
معناه أنَّنا متفقون على المعنى ويكون الجدال في نفس اللفظ، فهذه العبارة صحيحةٌ إذا كنَّا متفقين في المعنى، أمَّا إذا لم نكن متفقين على المعنى فتكون المشاحَّة صحيحةً، وينبغي أنْ ننتبه إلى أنَّنا إذا طال نقاشنا فإنَّه لا ينبغي أنْ يكون في الألفاظ وإنَّما في المفاهيم المُختَلَف فيها، فلا نقول دائمًا: (لا مشاحَّة في الألفاظ).
هذا اللفظ لا قيمة له لولا المعاني، فلو جِئنا وجلسنا مع بعضنا واستطعنا أنْ نفهم بعضنا دون ألفاظٍ ومصطلحاتٍ، ثمَّ عبَّرتُ عمَّا فهمناه بلفظٍ، يكون تعبيري لغوًا لأنَّ المراد من اللفظ تَحقَّق، وهو إيصال المعنى.
لماذا نهتَّم بالإعراب وبنْيَةِ الكلمة؟
للوصول للمعنى لا أكثر، فهذه أدواتٌ نصل من خلالها لمراد المتكلم، وشرطه أنْ يكون المتكلم ملتزمًا بهذه القواعد التي تَفرِضُها.
تنبيهٌ:
كلام الأئمة (صلوات الله عليهم) قد يكون في أعلى مستويات البلاغة أحيانًا، وقد يكون أدون من ذلك أحيانًا أخرى، وهذا لا يقدح فيهم بشيءٍ، فإنَّ الكلام لا يكون دائمًا بأعلى مستويات البلاغة، ولا هو المطلوب، بل الكلام يكون بحسب ما يُناسب المقام، وإلا فلا يُوجَد من هو أبلغ من أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما يتحدث بهذا المستوى من البلاغة، وبالتالي لا يصح محاسبة كلامهم (عليهم السلام) وفق المستويات البلاغية العالية، لكنَّنا نقول أنَّهم لا يخرجون في ذات الوقت عن قواعد اللغة العربية فتنبَّه، وإنْ خرجوا قليلًا فلا بدَّ من وجود داعٍ دعاهم إلى ذلك، وبالتالي نعرف متى نُطبِّق القواعد اللغوية على كلامهم ومتى لا نُطبِّقها، ومن المؤسف أنَّ هناك من حكَّم اللغة على النصوص لدرجة رفض بعض النصوص الشريفة.
أبواب الكلِّيات المتعلقة بأصول الدين وما يناسبها - باب 28 - أنَّ معاني أسماء الله سبحانه لا تُشبِه شيئًا من معاني أسماء الخَلْق:
}167{ الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن عليِّ بن إبراهيم، عن المُختار بن محمَّد بن المُختار الهَمْدَاني، وعن محمَّد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي، جميعًا عن الفتح بن يزيد الجُرْجاني، عن أبي الحسن (عليه السلام)، في حديثٍ قال في صفة الله: لا يُشبِهُهُ شيءٌ ولا يُشبِه هو شيئًا، إلى أنْ قال: إنَّما التشبيه في المعاني، فأمَّا الأسماء فهي واحدةٌ وهي دالَّةٌ على المُسمَّى، وذلك أنَّ الإنسان وإنْ قِيلَ إنَّه واحدٌ، فإنَّه يُخْبَرُ أنَّه جُثَّةٌ واحدةٌ وليس باثنين، والإنسان نفسه ليس بواحدٍ، لأنَّ أعضاءه مُختلِفةٌ وألوانه مُختلِفةٌ، ومَنْ ألوانه مُختلِفةٌ غيرُ واحدٍ وهو أجزاءٌ مُجزًّى ليس بسواءٍ، دمُه غيرُ لحمه، ولحمُه غيرُ دمه، وعَصَبُه غيرُ عروقه، وشَعرُه غيرُ بَشَرِه، وسوادُه غيرُ بَياضه، وكذلك سائر جميع الخَلْق، فالإنسان واحدٌ في الاسم ولا واحدٌ في المعنى، والله سبحانه هو واحدٌ ولا وَاحِدَ غيرُه، إلى أنْ قال: وإنَّما قُلنا اللطيف للخَلْقِ اللطيف، ولِعِلْمِه بالشيء اللطيف، أَوَلَا ترى إلى أثر صُنعِه في النبات اللطيف وغيرِ اللطيف، ومن الخَلْق اللطيف، ومن الحيوان الصغار، إلى أنْ قال: وإنَّ كلَّ صانع شيءٍ فمن شيءٍ صنع، والله الخالق اللطيف خَلَقَ وصَنَعَ لا من شيء.
قال (عليه السلام): "لا يُشبهه" والضمير عائدٌ على الله تعالى، ولم يقل (لا يشبهها).
ومن هنا نعود لقصة تعليم آدم (عليه السلام) الأسماء، عَلَّمَ الله سبحانه آدمَ (عليه السلام) الأسماء، ثمَّ قال: {ثمَّ عَرَضَهُم}، ولا يمكن -أوَّلًا- أنْ يكون عَلَّمه الأسماء دون المُسمَّيات لأنَّ الأسماء لا اعتبار لها في نفسها، ثمَّ عَرَضَ على الملائكة المُسمَّيات، وطلب منهم أنْ يخبروه بالأسماء، وهذا يعني أنَّ الله تعالى أَحضَرَ هذه الذوات وعلَّم آدمَ (عليه السلام) أسماءها، ثمَّ جاء بها للملائكة وطلب منهم ما علَّمه آدمَ (عليه السلام)، فمعرفة الاسم معناه التصور، وهذا يعني عَلَّمَه بالأشياء ثمَّ عُلِّم ما يُعبِّر به عنها.
قال (عليه السلام): "وذلك أنَّ الإنسان وإنْ قيلَ إنَّه واحدٌ، فإنَّه يُخْبَرُ أنَّه جُثَّةٌ واحدةٌ وليس باثنين، والإنسان نفسه ليس بواحدٍ"، فالعِبرة في المعنى لا في الاسم، ثمَّ ذكر المركَّبات التي يتركب منها الإنسان، ويريد أنْ يقول أنَّ الإنسان واحدٌ في الاسم، لكنَّه ليس بواحدٍ في المعنى، بخلاف الله تعالى.
ثمَّ تحدث عن صفة اللطيف، وأراد أنْ يقول أنَّ ليس كلُّ واحدٍ من المخلوقات راجعًا لصفةٍ خاصةٍ من صفات الله سبحانه وتعالى، ولكنْ لأنَّ هذا المخلوق لطيفٌ نقول خَلَقَه اللطيف، ولأنَّ ذاك المخلوق مُعقَّدٌ مثلًا نقول خَلَقَه القادر، وهكذا.
}168{ الرواية الثانية: وعن عليِّ بن محمَّد، مُرسلًا عن الرضا (عليه السلام)، في حديثٍ قال في الفَرق بين أسماء الله وأسماء الخَلْق: إنَّ الله ألزمَ العباد أسماءً من أسمائه على اختلاف المعاني، وذلك كما يَجمَعُ الاسمُ الواحدُ معنيين مُختلِفين، إلى أنْ قال: فقد يُقال للرجل: كلبٌ وحمارٌ وثورٌ وسُكَّرَةٌ وعَلقمةٌ وأسدٌ، كلُّ ذلك على خلافه، وإنَّما سُمِّيَ الله بالعِلْم لغير عِلْمٍ حادثٍ، عَلِمَ به الأشياء كما أنَّا لو رأينا عُلماء الخَلْقِ إنَّما سُمُّوا بالعلم لِعِلْمٍ حادثٍ إذ كانوا فيه جَهَلَةً، وربَّما فَارَقَهُم العِلْمُ بالأشياء، فعادوا إلى الجهل، وإنَّما سُمِّيَ الله عالمًا لأنَّه لا يجهل شيئًا، فقد جَمَعَ الخالق والمخلوق اسم العالم واختلف المعنى.
ثمَّ ذَكَرَ (عليه السلام) نحو ذلك في السميع، والبصير، والقائم، واللطيف، والخبير، والظاهر، والباطن، والقاهر، ثمَّ قال: فقد جَمَعَنَا الاسم واختلف المعنى، وهكذا جميع الأسماء وإنْ كنَّا لم نستجمعها كلَّها، فقد يُكتَفى بالاعتبار فيما ألقينا إليك.
والكلام في هذه الرواية كما مرَّ في سابقتها.
أبواب الكلِّيات المتعلِّقة بأصول الدين وما يناسبها – ب 29 - أنَّ الله سبحانه لا يُوصَف بحركةٍ ولا انتقال:
}169{ الرواية الأولى: محمَّد بن يعقوب، عن محمَّد بن أبي عبد الله، عن محمَّد بن إسماعيل البَرْمَكِي، عن عليِّ بن عباس الجَرَاذيني، عن الحسن بن راشد، عن يعقوب بن جعفرٍ الجعفري، عن أبي إبراهيم (عليه السلام)، قال: ذُكِرَ عنده قومٌ يزعُمُون أنَّ الله سبحانه ينزِلُ إلى السماء الدنيا، فقال: إنَّ الله لا ينزِلُ ولا يحتاج إلى أنْ ينزِل، إنَّما مَنْظَرُهُ في القُرْبِ والبُعْدِ سواءٌ، لم يَبعدْ منه قريبٌ ولم يَقربْ منه بعيدٌ، ولم يحتجْ إلى شيءٍ، بل يُحتَاج إليه وهو ذو الطَّولِ لا إله إلا هو العزيز الحكيم. أمَّا قول الواصفين: إنَّه ينزِلُ تبارك وتعالى، فإنَّما يقول ذلك من يَنسِبه إلى نقصٍ أو زيادةٍ، وكلُّ مُتحرِّكٍ يحتاج إلى مَن يُحرِّكُه أو يَتَحَرَّك به، فمن ظنَّ بالله الظنون هَلَكَ، فاحذروا في صفاته من أنْ تقفوا له على حدٍّ تحُدُّونه بنقصٍ أو زيادةٍ أو تحريكٍ أو تحرُّكٍ أو زوالٍ أو استنزالٍ أو نهوضٍ أو قعودٍ، فإنَّ الله جلَّ وعزَّ عن صِفةِ الواصفين ونَعتِ الناعتين وتوهُّمِ المتوهِّمين، الحديث.
محور الكلام في أمرين: أنَّه غير محتاجٍ ليقترب أو يبتعد، وأنَّه لا يُحيط به زمانٌ أو مكانٌ، بل هو المحيط بكلِّ شيء.
تنبيهٌ:
نحن كبشرٍ نُفكِّر ونتعقل بحسبنا، ومن أعظم المخاطر أنْ نعتمد المقاييس التي نستعملها في تفكيرنا كأساسٍ في فهم مسألة الخالق، والذي لا يتمكن من تجاوز هذه المنطقة لن يصل لعقيدةٍ سليمةٍ، قد يحاول هذا الفرد أنْ يضبط نفسه لكنَّه قد يزل في لحظة ضعفٍ واحدةٍ فتجره أفكار الإلحاد والزندقة.
في مسألة: أين الله؟ كيف نتصور أنه لا يؤيَّن بأين؟
من أهم مناشئ التوحيد التنزيه، ولا يمكن التنزيه إلا بالمقابلة، فكي تفهم الإطلاق في الخالق -مثلًا- تقوم بهذه المقابلة بين الإطلاق والتقييد، وكي تفهم الإطلاق في الخالق تقارن بين هذه الحالة وما يقابلها تمامًا، فتبدأ بالتنزيه.
روايات نزوله تعالى ليست مرفوضة، لكنْ لا بدَّ أنْ نفهم معناها بما يوافق التنزيه.
قال (عليه السلام): "إنَّما مَنْظَرُه في القُرْبِ والبُعْدِ سواءٌ، لم يَبعدْ منه قريبٌ ولم يَقربْ منه بعيدٌ"، وقد نُقِل عن الحرِّ العامليِّ أنَّه قال: "منظرُه" أيْ رحمته، وهو ما ينتظره الإنسان منه تعالى.
والضمائر في (منظره - منه - منه) تعود على الله تعالى.
هذا القرب والبُعد من ماذا؟ فإنَّنا نثبتهما من جهةٍ وننفيهما من جهةٍ أخرى.
نقول طويل لمن له قابلية القصر، ونقول يطير لمن له قابلية الهبوط، والبعد والقرب في هذه العبارة يختلف معنى كلٍّ منهما عن الآخر، فأمَّا الذي يَبعد إذا قَرُب هو الذي يكون قُربه حركيًّا، فله قابلية البُعد، وكذا الكلام في البُعد، فالذي يَقرُب إذا بَعُد هو الذي يكون بُعده حركيًّا؛ أيْ الذي يكون قُربه بالخطوات تكون له قابلية البُعد، والذي يكون بُعده بالخطوات تكون له قابلية القُرب، فإذا نفينا إمكان البُعد -بالإمكان العقلي- عن المتقرِّب فلازمه إمكان القُرب المكاني أيضًا، فالقُرب والبُعد من الله تعالى ليس بمعنى القُرب والبُعد المكاني. فعندما ننفي القُرب والبُعد المكانيين ننظر في قرب الأجلاء كسلمان المحمدي (رضي الله عنه) فنقول هذا القُرب من رحمة الله تعالى، وشاهده نفي البُعد المكاني في الشطر الأول، وكذا في البُعد.
من هنا نفهم خصوصية بعض الأماكن المقدسة في تحقُّق القرب الإلهي، فعند زيارة الكعبة المشرفة -مثلًا- لا يعني أنَّني اقتربت من الله تعالى، لكنَّ هذا المكان بأمرٍ من الله تعالى صار مهبطًا لرحمة الله تعالى، فحدثت هذه الخصوصية، وهذه الأمور لا يمكن أنْ نفهمها إلا من النصوص الشريفة.
تنبيهٌ:
مسألة معرفة الأشياء بالأضداد مهمةٌ جدًّا للفهم، فإذا صِيغت طريقة التفكير على وفق هذه المناشئ تكون الكثير من الأمور التي تبدو غامضةً أسهل في الفهم، والسبب هو الرجوع للمناشئ، فلا بدَّ من خلق مؤالفةٍ بين القواعد والمناشئ الفطرية لدى الإنسان، كي يعرف أسس تفكيره.
قال (عليه السلام): "فاحذروا في صفاته من أنْ تقفوا له على حدٍّ تحُدُّونه"، فالإنسان العاقل عادةً يريد أنْ تكون الأشياء واضحةً، أيْ تكون مُعرَّفةً، فيبحث عن الحدود، سواء كانت بالحدِّ التامِّ أو الناقص، أو بالرسم التامِّ أو الناقص، فطريقة الإنسان في التفكير قائمةٌ على تحديد العناوين، لذلك هنا يُحذِّر الإمام (عليه السلام) من تحديد صفاته تعالى، ويدعو لتنزيهه تعالى عن الصفات التي ذكرها، مع الحذر من بلوغ حدِّ التعطيل.
قال (عليه السلام): "أمَّا قول الواصفين: إنَّه ينزِلُ تبارك وتعالى، فإنَّما يقول ذلك من يَنسِبه إلى نقصٍ أو زيادةٍ"، والمُراد بالواصفين مَن يصفون الله تعالى بصفات المخلوق، وهم غير الشيعة الإمامية على أيِّ حال، أمَّا جمهور العامَّة اليوم فَهُم في حَيرة، فلا يستطيعون التجسيد، ولا يستطيعون ترك ونفي رواياتهم التي تحتوي على القول بالتجسيد، ونكتفي بهذا الحد.
لماذا من وَصَفَهُ تعالى بذلك من الحركة وما شابه ينسبه إلى نقصٍ أو زيادةٍ؟
نرجع في الجواب إلى كبرى معلومةٍ، هي: عندما أتحرَّك إنَّما أُريد أنْ أسدَّ نقصًا أو أنْ أتخلَّص من زائدٍ، فكلُّ حركةٍ فهي ناتجةٌ عن انفعالٍ، تُدرِك أو تشعُر بأمرٍ معينٍ فتحتاج للحركة، فالإشكال الأصل هو الداعي للحركة، وهذا النزول مُظهِرٌ لوجود هذا الداعي، وهو ممتنعٌ عليه تعالى، فهو لا ينفعل بأمرٍ خارجيٍّ، والانفعال والداعي لا يُقال إلا في المحتاج إلى الحركة.
قال (عليه السلام): "وكلُّ متحرِّكٍ يحتاج ... فاحذروا في صفاته من أنْ تقفوا له على حدٍّ تحُدُّونه"، والحدُّ مقولٌ للعقل، فهو تعريفٌ، وبالتالي يحتاج إلى تحليل.
تنبيهٌ:
بعض الروايات ليست لعامَّة الناس، بل كانت لخواصِّهم، وهي في هذا الزمن لطلبة العلم، ومحاولة فهم الرواية يُعينك على صياغة شخصيتك العلمية، وليس المطلوب أنْ تنقلها وتبيِّنها للناس دائمًا.
قد يقول قائلٌ أنَّ الإمام (عليه السلام) قال ما قاله في جمعٍ من الناس فهي للجميع، فنقول أنَّ بعض الحاضرين له القدرة على فهم كلام الإمام (عليه السلام) وكان الخطاب موجَّهًا لهؤلاء، وغير المتحصِّل على المقدمات التي يفهم من خلالها الكلام يفهم ذلك من نفسه ولم يكن الكلام موجَّهًا إليه.
والحذر في صفاته، لأنَّ صفةَ الصفةِ أنَّها تَعرُض على جهةٍ من جهات الجوهر فتُبرِز هذه الجهة، وهذا أمرٌ نتعلَّمه في مسائلٍ علميةٍ، تُسمى اليوم بعلم الكلام، فلفهم الصفة لا بدَّ أنْ أحدَّها، وأحدُّها بالرجوع إلى معروضها، والنظر في الحدود التي عرضت عليها هذه الصفة، وفي حال الكلام في صفات الله بهذه الكيفية ندخل في محذور التحديد لجهات الله سبحانه وتعالى، ولكنْ هل نفهم هذا الكلام من نفس النص أم لا؟ في الواقع هذا الفهم متوقفٌ على مقدماتٍ من خارج النص، فعندما يأتي الإمام (عليه السلام) ليبيِّن لي نتائج ما ينبغي أنْ يكون في النفس، فهذا ما يحتاج إلى تحصيلٍ من خلال الرجوع بكلامه (عليه السلام) إلى أصوله الفكرية، حتى أنتهي إلى ما يريده، فهو يصرِّح ببعض الأمور وبعضها لا يصرِّح بها.
في مسألة مِلاكات الأحكام -على سبيل المثال-: هناك أحكامٌ يصرِّح المعصوم بها، وأخرى يصرِّح ببعضها، وغيرها لا يذكرها مطلقًا، وفي بعضها نستطيع الوصول لمِلاك الحكم الذي لم يصرِّح به الإمام، ومنها ما لا نتمكن من ذلك، أمَّا المنصوص عليه لا نواجه مشكلةً فيه، وأمَّا غير المنصوص فننظر إنْ كانت هناك رواياتٍ مانعةً من البحث في المِلاكات أو لا، أو أنَّ هناك رواياتٌ تُجيز لك البحث، أو أنَّ الأمر مسكوتٌ عنه.
في مثل هذه الأمور لا بدَّ أنْ نعرفَ ما هي حدودنا في الحوزة، وما هي حدود غير أهل الحوزة.