يتعلق معظم المُتصدِّين لنقد السيرة العاشورائية للإمام الحسين عليه السلام، مع التحفظ على مفردة النقد في وصف الأطروحات المقصودة، والداعين لتنقيح الموروث التأريخي بدعوى عدم منطقية بعض الأحداث المشهورة في هذه الواقعة. ورغم ما يبدو في هذا الطرح من عقلانية وقبول لدى شريحة واسعة ممن يصنفون أنفسهم تحت عنوان المثقفين، إلا أن واقع الحال هو أن هؤلاء علاوةً على بُعدهم عن القراءة التفصيلية للتأريخ من جهة، وتصديهم لتقييم الروايات والأحداث دون أن يكونوا على دراية وافرة في هذا الاختصاص من الجهة الأخرى، يصرون إصراراً غريباً على النظرة التجريدية لما جرى من أحداث بدعوى العقلنة والمنطق. فعلى سبيل المثال، يرفض هؤلاء جملةً وتفصيلاً مسألة تلاوة الرأس الشريف للقرآن الكريم وهو مرفوع على الرمح، كما يرفضون مسألة منع معسكر الحسين عليه السلام من الماء لثلاثة أيام بدعوى عدم قدرة الإنسان على مقاومة العطش لهذه الفترة الطويلة نسبياً، فضلاً عن البسالة والشجاعة في القتال والتي لا تُعد مشاهدها ولا تُحصى. كذلك يرفضون مسألة دم الرضيع الذي رمى به الحسين عليه السلام إلى السماء شاكياً لله فلم تنزل منه قطرة. كل ذلك وغيره بذات الدعوى: هذا أمرٌ غير منطقي!! فإلى أي مدى يمكن إعمال العقل والمنطق في تقييم هذه الأحداث وغيرها؟ وهل هذه الدعوى صائبة؟ وهل حقاً أن هذه الأحداث هي أباطيل الشيعة ومغالاتهم في نقل أحداث كربلاء؟!
كمقدمة للحديث في هذا الشأن، لابد وأن نتوقف عند مسألة مهمة، هي مسألة الإعجاز. فالمعجزة متى ما تماشت مع العقل والمنطق لم تعد معجزة، ذلك أن المعجزة هي أمرٌ خارقٌ لقوانين الطبيعة. فالجبل لا يمكن أن يلد ناقةً بينما خرجت ناقة صالح من الجبل، والعصى التي يحملها راعي أغنام لا يمكن أن تفلق بحراً فيكون (كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ)، ولا يفقه الإنسان حديث الحيوان بينما سمع سليمان عليه السلام نملةً تحذر قومها (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، وهو على رأس جيش يضج الأفق فيه بصوت حوافر الخيل وقعقعة اللجوم (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا..(.. والسؤال هنا، وهو أحد موارد اعتراض أصحاب هذا الطرح السقيم: هل كان الحسين عليه السلام نبياً حتى تحدثونا عن المعاجز؟! والجواب المباشر لهذا الاعتراض هو قطعاً أنه لا يقول أحدٌ بنبوة أي مخلوق كان بعد خاتم الأنبياء محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، لكننا نتساءل في المقابل: هل أن المعاجز مختصة بالأنبياء والرسل دون بقية الخلق؟! فها هو القرآن الكريم يُحدثنا في قصة العذراء مريم عليها السلام قائلاً:.. "كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ" (آل عمران:37)، ولنلحظ هنا أن السائل هو نبيٌ من أنبياء الله المصطفين الأخيار وليس من عامة الناس، أي أنه الناقل عن الله عز وجل، فهل أنكر زكريا عليه السلام على مريم هذا القول، فقال مثلاً إنني أعلم أن كل رزق من عند الله ولكن من أحضر لك هذا الرزق؟ أم أنه سلَّم للإعجاز الإلهي رغم أن مريم لم تكن نبيةً، ولم تَدَّعِ هي أو غيرها النبوة يوماً، بل واستحضر هذه القدرة الإلهية، فناجى ربه القادر على كل شيء نتيجة ما رأى من الإعجاز وأقر به "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء" (آل عمران:38).
وعلى الرغم من أن مريم عليها السلام ليست بنبي، إلا أن الملائكة كلمتها تكليماً "إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ" (آل عمران:53)، كما كانت عليها السلام الحاضن لمعجزة ولادة سيدنا المسيح عليه السلام الذي حملت به دون زوج "قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (آل عمران:47(.
قد يقول القائل أن هذه معجزة السيد المسيح، فنقول إن معجزة السيد المسيح قد عبَّر عنها بنفسه المقدسة حيث وُلد دون أب وتكلم في المهد وشفى الأبرص والأكمه وأحيا الموتى، أما الحمل دون أب، فلا يمكن أن يكون معجزة المسيح، بل هو معجزة من حملت به..
وهل كان أصحاب الكهف أنبياء أو رسل؟! قال تعالى "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا" (الكهف:9)، "فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا" (الكهف: 11-12)، "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا" (الكهف:25)، فهل من الطبيعي أن ينام إنسان 309 سنوات ثم يستيقظ ويمارس حياته بشكل طبيعي لدرجة أنه يحدث نفسه بأنه لبث يوماً أو بعض يوم؟! هذا مع التذكير بأنه ليس من بين أصحاب الكهف نبي إطلاقاً وإنما هم ... "فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" (الكهف:10)..
وفي قصة موسى الكليم عليه السلام، يُحدِّثنا القرآن الكريم عن العبد الصالح، وهو بإجماع أهل الاختصاص وبالحديث والرواية لم يكن نبياً، حيث قال تعالى "فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا" (الكهف:65-66)، فصحب موسى هذا العبد الصالح ورأى من الإعجاز على يده ما فقد معه صبره.
وغير هذه الشواهد القرآنية الكثير، إلا أننا نكتفي بهذا القدر لدحض الادعاء باختصاص المعاجز بالأنبياء دون غيرهم، ثم نتساءل هل أن سيد شباب أهل الجنة بحسب منطوق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، أقل في إيمانه عن هؤلاء؟! أيكون سيد الجنة أقل شأناً ممن يسودهم؟! فأين هو العقل وأين هو المنطق المزعوم؟!
أما ما يتعلق بالأحداث التي تندرج تحت هذا العنوان، أي عنوان المعجزة، وهي لا ريب كثيرة في مرويات واقعة الطف العظيمة، إلا أننا نقصر الإشارة على تلاوة الرأس الشريف للقرآن الكريم وهو مقطوع ومحمول على الرمح، لنرى هل هي من منقولات الشيعة فقط؟ وهل هي مغالاة من أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام في نقلهم وتعظيمهم للحسين عليه السلام؟!
نعم، وردت الروايات الصحيحة بحسب أهل الاختصاص في كتب الفريقين، فنقلها مثلاً ابن شهرآشوب في المناقب، ونقلها الشيخ المفيد في الإرشاد، ونقلها المجلسي في البحار وغيرها من كتب الحديث المعتبرة لدى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام، ومنها ما جاء في كتاب دلائل الإمامة، قال: “وأخبرني أبو الحسين محمّد بن هارون عن أبيه عن أبي عليّ محمّد بن همام قال أخبرني جعفر بن محمّد بن مالك قال حدّثنا أحمد بن الحسين الهاشمي -قدم علينا مِن مصر- قال حدّثني القاسم بن منصور الهمداني بدمشق عن عبد الله بن محمّد التميمي عن سعد بن أبي خيزران عن الحرث بن وكيدة قال: كنتُ فيمَن حمل رأس الحسين (ع) فسمعتُه يقرأ (أم حسبتَ أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مِن آياتنا عجبًا) إلى قوله: (إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى..) وقرأ (وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون). فجعلتُ أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبد الله (ع) فقال لي (أي الرأس الشريف): "يا ابن وكيدة أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّنا؟!"
كما نقلها من علماء أهل السنة والجماعة على سبيل المثال جلال الدين السيوطي، وابن عساكر، والشافعي الشبلنجي الذي روى عن ابن خالويه عن الأعمش عن منهال الأسدي قال: "والله رأيتُ رأس الحسين رضي الله عنه حين حُمل وأنا بدمشق وبين يديه رجل يقرأ سورة الكهف، حتى إذا بلغ الرجل (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا)، فنطق الرأس وقال: "قتلي لأعجب من ذلك" (نور الأبصار في مناقب آل بيت المختار، تأليف مؤمن بن حسن الشبلنجي الشافعي، مِن أعلام القرن الثالث عشر الهجري، وكتاب الخصائص للسيوطي، ج2، ص127). فنلحظ في روايات الفريقين أن الأمر لم يكن منحصراً في التلاوة فقط، وإنما كان يُحدِّثُ ويتكلم، كما تقدم في نقل الشبلنجي "قتلي لأعجب من ذلك“، وفي نقل ابن عساكر، قال الرأس الشريف: “أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي.."
ومثل هذا الأمر الكثير من الأحاديث والنقولات التأريخية والحديثية، والتي لم تُهملها يد التمحيص والتنقيح المختصة، سَنَداً ومتناً.. وقد تقدم في حديثنا بيان زيف لباس العقل والمنطق في رد القول بالإعجاز بدعوى أن الحسين لم يكن نبياً، وحيث أن مبنى هذه الادعاءات متأسسٌ على ما ثبت بطلانه، فهي لا محالة باطلة. فالمسألة أساساً، ومثلها المسائل الأخرى المشابهة، لا يمكن إخضاعها لحسابات العقل والمنطق لأنها ببساطة تأتي تحت باب الإعجاز الإلهي، وقلنا أن الإعجاز متى ما تماشى مع العقل والمنطق لم يعُد إعجازاً.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.