رغم تحدث روايات أهل البيت عليهم السلام حول علم الأئمة ومايستظهر منها أنه علم من نوع خاص لا يقاربه أي علم آخر من علوم البشر، وهذا بيّنٌ في ألسنياتهم وخطبهم كمثل قول أمير المؤمنين عليه السلام سلوني قبل أن تفقدوني، إضافة لإخباراتهم المتكررة بالغيبيات، بل أن التاريخ ماذكر لنا قط أن أحدا من أهل البيت عليهم السلام سأل بسؤال فأخفق أو تأخر أو تلجلج يوما في الإجابة.
رغم كل ذلك فإننا بحاجة إلى أن نأصل حقيقة علم الإمام بالقرآن، خصوصا وأن البعض قد تلتبس عليهم المسألة حينما يجدون الروايات في كثير من الأحيان تشير إلى أن المعصوم قد يسأل ويستفهم من الناس عن أشياء كثيرة كمثل سؤال الحسين (ع) عن اسم أرض كربلاء وغير ذلك، في الوقت الذي يجد أن الروايات تصف الأئمة بأنهم علماء بالغيب وأنهم يعلمون بكل ماكان وما يكون إلى يوم القيامة.
كيف نُؤصِّلُ حقيقة علم الإمام بالدليل القرآني؟
من الآيات المهمة في هذا الشأن قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).. هذه الآية ساد فهمٌ سطحي لها عند كثير من عامة المسلمين، فقد فهموا أن معناها هو حرمة لمس القرآن إلا على طهارة، بل طبعت هذه الآية في كثير من أغلفة نسخ القرآن!
والحال أن معناها بعيد تماما عن هذا التصور. كيف؟
أولا: مفردة "الكتاب" ليس المقصود بها القرآن المعروف بين ايدينا، لإن القرآن نفسه يعبر في آية أخرى أن الكتاب يرادف في معناه اللوح المحفوظ في عالم الملكوت (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)، بل إعتبر هذا القرآن الموجود بين أيدينا تجلي لحقيقة الكتاب الذي هو في بواطن الملكوت (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ).
فهذا الكتاب الذي بين أيدينا هو كتاب تدويني في أدنى طبقات الكتاب الملكوتي الموجود في أم الكتاب.
ثانيا: هناك فرق واضح بين مفردتي اللمس والمس في القرآن، فاللمس تطلق على الإتصال الحسي المادي (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ)، بينما المس يعبر عن الاتصال اللاحسي (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ).
وإذا فهمنا هذا التفريق فإن الآية محل الكلام استخدمت المس لا اللمس (لا يمسه إلا المطهرون) ومعنى ذلك أن الكتاب غير محسوس والاتصال به بمعنى الإحاطة والإدراك.
وخلاصة الكلام: أن الله تعالى جعل حقيقة القرآن في عالم الملكوت وجعل لها طبقات نازلة أدناها القرآن التدويني الذي بين أيدينا، واشترط الطهارة للوصول إلى أسرار الكتاب الملكوتي.
وواضح من القرآن أن أهم مصادق للمطهرين هم أهل البيت (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) فثبت أنهم عليهم السلام لهم القدرة على الإحاطة بالكتاب الملكوتي.
سؤال: كيف أحاط أهل البيت (ع) بالكتاب الملكوتي وهم من موجودات عالم المادة؟ بعبارة أخرى، كيف يستطيع الجسم المادي وهو المحدود أن يستوعب ويحيط بالكتاب الملكوتي اللامحدود؟ أوليس من صفات الماديات المحدودية بخلاف موجودات عالم التجرد التي لا تحد؟
والجواب.. نقول أن الله تعالى زود النبي (ص) والأئمة (ع) من بعده بروح ثانية تمكنهم من الإحاطة بما في الكتاب وسميت بروح القدس (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، فبصريح عبارة القرآن أن النبي (ص) ماكان ليستطيع أن يحيط بالكتاب الملكوتي لولا إعانة روح القدس (وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ).. وقد ورد في روايات أهل البيت (ع) مايؤكد على هذا المعنى، فعن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالى: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الايمان" قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده.
ولذلك هذا هو السبب في كون الأئمة قرآن ناطق، لإن روح القدس تلبست في أبدانهم وفعلت فيهم كل ما ورد في الكتاب (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
سؤال: ماذا يحتوي هذا الكتاب الملكوتي وماهي نتائج الإحاطة به؟
القرآن اختصر الطريق وقال في وصفه لهذا الكتاب (مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ)، بل وأودع فيه أسرار الغيب كلها (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) فمن أحاط بهذا الكتاب علم الغيب (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ).
فأهل البيت (ع) يعلمون الغيب بواسطة تعليم الله تعالى لا بالإستقلال، وهذا ماورد في جواب أمير المؤمنين (ع) على رجل من بني كلب إعترض عليه لإخباره بالغيب قائلا: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك عليه السلام، وقال للرجل: يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب، وإنما هو تعلم من ذي علم.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآل محمد