بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين

قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ (الحج-73)

ذكر في القرآن الكريم بعض آيات الإعجاز الكوني الدال على الخلق والإتقان فضرب أمثلة على عظم خلقه في السماوات والأرض والتي تعجز البشرية إلى اليوم أن تصل إلى منتهاها فهي كلما طلبت مدى أكبر كان أعجز من أن ينال أسراره الإنسان فهذا الكون بحر من المجهولات يستحيل على الإنسان أن يقف على تمام دقائقه مع إيمانه بالنظام المتناسق الشامل له.

هذا الكون الواسع ليس مورد التحدي من قبل الله عز وجل في الخلق بالنسبة لمن هو دون الباري عز وجل فكل ما دونه عز وجل عاجز قطعا عن خلق أقل القليل، ولكننا لو جئنا للإنسان الذي ادعى الربوبية والملكية المطلقة أو التدبير المطلق في الخلق فهو أعجز من أن يخترق منظومته الشمسية فكيف يُطلب منه أن يأتي بخلق شمس أو أصغر كوكب، ولكن حتى يظهر الله عجز هذا الإنسان المتجبر والمتكبر الذي قال ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ﴾ (النازعات-24) والذي ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ (البقرة-258) واتبعه في ادعاءاته خلق يسبحون له ويطيعونه ويعبدونه فما كان من الله أن تحدى المدعين للربوبية بتحد في خلق ضعيف ألا وهو خلق ذبابة، فهي حشرة حقيرة جدا ولكنها آية عظيمة في خلقها ويمكن معرفة عظم ودقة الباري في هذا الخلق بقراءة الأبحاث العلمية المتعلقة بهذا المخلوق الذي نعتبره حقيرا ومقززا.

الذبابة على صغرها قد تصرع أعتى العتاة كما حدث لنمرود الذي أراد حرق النبي إبراهيم عليه السلام.

هذه الحشرة وغيرها قد تكون من أعظم الأسلحة الفتاكة فهي تعيش أينما عاش الإنسان تنقل له الأمراض وصنوف الوباء ولا يستطيع مع كل جبروته أن يتخلص منها إذ يقول بعض العلماء المتخصصين أنه لو قدر لهذه الذبابة أن تتكاثر من دون أن يموت ولا أحد منها لبضعة أيام فقط لغطت تمام سطح الكرة الأرضية بأكثر من غطاء.

هذه الذبابة مع بقية الحشرات الحقيرة من بعوض وبق وغيرها جعلت جبروت الإنسان يمرغ في التراب.

في القديم لم يكن يعرف الإنسان الميكروبات والفيروسات وكانت الأوبئة تتعدد وتفتك به، ولكنه مع ذلك كلما انكشف عنهم الوباء رجع لغطرسته وجبروته.

وفي القرون المتأخرة لما اكتشف الإنسان هذه المخلوقات الأحقر من الذباب والبعوض وأنها علة لأمراض لا تنتهي أيضا يبقى بعد نهاية كل وباء على غطرسته وتجبره وتكبره.

اليوم مع انتشار وباء كرونا (كوفيد-19) نعاين جميعا ضعف هذا الإنسان فثلث العالم تمت محاصرته من فايروس لا تراه العين وبعض من هذا الثلث بالأمس القريب كان يجاهر بكل صنوف المعاصي فامتنع من معاصيه خوفا من يفتك به هذا المرض.

بالأمس القريب كانت هناك شركات تربح الملايين في أسواق البورصات العالمية واليوم بفايروس حقير تخسر قيمة أسهمها.

بالأمس القريب كانت هناك دولا تدعي القدرة العلمية والطبية في معالجة منتسبيها وإذا بها تظهر العجز عن اهتمامها بمرضى الوباء أو تقل حيلتها عن مساعدة المحتاجين لها.

بالأمس القريب هناك أناس ينكرون وجود الله ويتحدونه في ربوبيته واليوم لا يجدون من يفزعون له فلا عجرفتهم وزهوهم بأنفسهم قد فادهم ولا من كانوا يدعون به غير الله ينقذهم.

بالأمس القريب كان بعض الناس في فرح وسرور وعدم مبالاة بما تؤول له المصائر واليوم يحبس أنفاسه خوفاً من المجهول.

في سرعة البرق انقلب حال الدنيا رأسا على عقب فظهر ضعف الإنسان وعجزه وصدق برأي العين قوله تعالى ﴿وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعيفاً﴾ (النساء-28) والضعيف لا يرفع ضعفه إلا بالقوي لا بضعيف مثله وهنا تجد الفرق بين اطمئنان المؤمن مع أخذه بأسباب الاحتياط لأنه يلجأ ويفزع لله دائما في كل ملماته كما هو في حال حمد وشكر لله على أنعمه وفيوضاته، فحتى لو أصيب فإنه يصاب بلا جزع أو خوف لأنه يرى يد الغيب من خلفه مطمئنا لما سيؤول إليه من مصير سواء كان ذلك المصير حياة أو موت فهو ينظر عند الفراق إلى قوله تعالى ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ‏ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾ (الفجر- 28).

أما أولئك الذي يتعلقون بعجز إنسان آخر فهم في حالة خوف دائم لأنهم حريصون على الدنيا وما فيها وليس لهم أمل بالقوي العزيز قال تعالى ﴿إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً () إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً () وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً﴾ (المعارج-19-21) فهلوعا حريصا يجزع من الشر إذا مسه خوفا من ضياع ما معه من متاع الدنيا ومُتَعِها وفي حال تملك متاع الدنيا وأنس بلذائذها حلالها وحرامها فهو أكثر منعا من أن تخرج من يده لغيره وهذا الأمر عايناه في هذا العصر فظهرت حقيقة النظام الرأسمالي كيف تفسخ وانسلخ من إنسانيته في أبشع صورها بحيث أن الرأسمالية تولي اهتمامها إلى الاقتصاد أكثر من اهتمامها بالإنسان نفسه لا يهمها من يموت أو يمرض بل يهمها المال لا يضيع من أيدي أصحاب الشركات الاحتكارية الكبرى على مستوى العالم. فهم أيضا في هلع وخوف على متاعهم الدنيوي من أن يذهب أدراج الرياح.

القرآن الكريم والروايات الشريفة تركز على مركزية الإنسان في الحياة الدنيا والاهتمام بشأنه كقيمة تعلوا على المال وكل متع الحياة الدنيوية، فالدين الإسلامي كنظام يقوم في تنظيمه لحياة الإنسان على أساس التوازن بينه وبين والطبيعة المحيطة به بلا إفراط ولا تفريط.

فكما يرى أن الإنسان له قيمة فردية في خصائصه التي أودها الله عز وجل فيه من عقل وروح ونفس وجسد أهتم كذلك بالبعد في التنظيم العام بين الأفراد القائم على العدل والإنصاف بحيث لا يكون أحدهم أفضل من الآخر على أساس ما متع به من متاع الدنيا.

فلنأتي لبعض هذه النصوص ونرى الفرق الكبير بين البعد الديني من المنظور الإسلامي والبعد المادي القائم على الرأس مالية البغيضة.

قال الله في محكم كتابه العزيز ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات-13) هنا خطاب قرآني عام لتمام الناس من أي ملة كانوا وعلى أي أرض عاشوا وفي أي زمان كانوا أنتم متساوون في أصل الخلقة فالله هو خالقكم وقدر لكم أن يكون بعضكم إناثا وبعضكم ذكرانا وهذا التوزيع لكي تنبثق منكم الأمم والشعوب لا لكي تتفاضلوا في أصل الخلقة بل لتتكاملوا بين بعضكم البعض وهذا هو التعارف الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان.

فالتكامل أن يسند بعضكم البعض ويسد هذا القوم نقص ذلك القوم ويستفيد ذلك الشعب من خبرات هذا الشعب ويرفع بهذا الشعب ما احتاجه ذلك الشعب.

ليس لحق أي شعب أو إنسان أن يقول أنا أفضل من ذلك الإنسان كلكم متساوون فعن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله أنه قال‏: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَبِّكُمْ وَاحِدٌ وَ إِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ‏ عَلَى‏ عَجَمِيٍّ وَ لَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَ لَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَ لَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ[1] "‏ إذا مقاييس التفاضل البشري في الإسلام ملغية تماما في منظارها المادي بحسب ما يراه الدين.

نعم عنده مقياس تفاضل واحد وهو التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ولا يوجد مقياس آخر عنده ولكن هذا لحاظه أخروي يكون ناظرا إلى بواطن القلوب التي هي منكشفة عند الله عز وجل قال تعالى ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ (الأنعام-3).

أما عندما ننظر للإنسان بما هو فعهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأشتر حين ولاه مصر أعطاه قيمة الإنسان بالنظر لأعلى سلطة إذ جاء فيه " فَإِنَّهُمْ (أي الناس) صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ‏ فِي‏ الْخَلْقِ[2]".

القرآن ينظر إلى أن كل ما في الأرض مسخر لهذا الإنسان لأنها أنعم يشترك فيها الجميع ولا يحق لإنسان فرد ان يحتكر رزق الله على نفسه دون الآخرين.

﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الجاثية13) هذا التسخير لا يعني أن الناس ستكون متساوية الغنى والفقر بل سيكون هناك تفاوت تفرضه طبيعة الحياة من أجل استمرارية معيشة الناس ولذا بعضهم يكون رئيسا وبغضهم مرؤوسا، بعضهم عمالا وبعضم مدراء وستجد طبيبا ومهندسا وزراعا وخبازا وغيرهم يتقلبون في رزق الله بما ينظم الحياة الإنسانية، وكل واحد من هؤلاء هو مسخر من جهته لأخيه الإنسان الآخر قال تعالى ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف-32).

هذا التوزيع للأرزاق لا يعني أن الغني يتملك ما في يده بالشكل المطلق بل أن الآخرين شركاْء معه في هذا الغنى بفلسفة التسخير، وعليه هذا المال فيه حق للغير بحسب النظرية الإسلامية قال تعالى ﴿وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (الذاريات-19) وقال تعالى ﴿وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ﴾ (معارج 24-25) وعن أمير المؤمنين في نهج البلاغة أنه قال " إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَضَ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ أَقْوَاتَ الْفُقَرَاءِ فَمَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ‏ بِهِ‏ غَنِيٌ‏ وَ اللَّهُ تَعَالَى [جَدُّهُ‏] سَائِلُهُمْ عَنْ ذَلِك‏ [3]".

وهذا ما لا تؤمن به الرأسمالية البغيضة القائمة على اعدام حق الآخرين في مال الأغنياء ولذلك يتجبر الغني ويطغى بما يراه من فردية في التملك الأقصى ولذلك لا تكون لبقية أفراد المجتمع قيمة عنده عندما يتنازع الأمر بين بقاء ماله وبين أرواح الناس قال تعالى ﴿ كلا إن الإنسان ليطغى () أن رآه استغنى﴾ (سورة العلق 6-7).

اللهم آمن أوطاننا وأبعد عنا الأسقام والأمراض واشف جميع المرضى والمصابين وارحم موتى المؤمنين والمؤمنات بحق محمد وآله أجمعين صلواتك عليهم أجمعين.

والحمد لله رب العالمين.