جدلٌ ليس بالجديد، ولا يظهر أنه سيقف في يومٍ من الأيام، فريقٌ فيه يرى أن الحسين عليه السلام لم يُقتل لكي نبكي عليه وإنما هي العِبرة (بكسر العين)، بينما يرى الفريق الآخر أن العَبرة (بفتح العين) هي سر بقاء الثورة الحسينية ومبادئها.. يستشهد الفريق الأول بأن ثورة الحسين عليه السلام لم تكن واقعة وليدة كربلاء، بل كانت هذه الحادثة الأليمة هي نِتاج مسيرة بدأت بالمبادئ السامية، وليس يخلوا مشهدٌ من مشاهدها من تلك القيم والمبادئ والدروس والعِبر، فلا يصح مع هذه الحال أن نختزل الحسين في البكاء واللطم. وفي المقابل يستشهد الفريق الآخر، والذي لا يُنكر على الفريق الأول مسألة المبادئ والقيم والدروس، بأن ثورة الحسين إنما اتخذت هذا الطابع المأساوي والذي كان مرسوماً ومُقدَّراً لها لحكمةٍ إلهية، حيث بكى الرسول الأكرم وسيدة النساء وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين الحسين عليه السلام وأقاموا مآتم الندب والبكاء والنواح عليه منذ ولادته، فالعَبرة والدمعة أولى في إحياء ذكرى عاشوراء من أي أمر آخر.
لا ريب أن الرؤيتين تستندان على بعض الأسس الصحيحة، التي لا ينكرها العقل السليم، إلا أن الضرورة تقتضي الارتقاء بالنظرتين إلى نقطة توفيقية تأسيساً على قاعدة “لا إفراط ولا تفريط”. فكما أن البكاء أو التباكي دون تمثُّل المنهج القويم الذي استُشهد الإمام الحسين عليه السلام وخيرة أهل الأرض معه أمرٌ لا يستقيم مع منهج العترة الطاهرة، فإن ما يبدو تعقلاً من قبل الفريق الآخر بالإصرار على بُعد الدروس والعِبر لا يستقيم هو الآخر مع هذا المنهج. فاختزال الحسين في العِبرة، لا يقل تطرفاً ومجافاةً عن الصواب عن اختزال الحسين في العَبرة.
وكمقدمة للحديث نقول أن المقصود بالعَبرة (بفتح العين) الحزن والألم وكل ما يرتبط به من مظاهر، أما العِبرة (بكسر العين) فهي الاسم من الاعتبار على ما جاء في مجمع البحرين، والمتعبِر (بكسر الباء) هو المستدل بالشيء على الشيء، أي أنه في خصوص سيدنا ومولانا الحسين عليه السلام اتخاذ الحسين قدوة وأسوة يقتدي بها المؤمنون والأحرار ويتعلمون من نهضته وتضحياته معنى الإيمان وافتداء المبادئ والقيم بالغالي والنفيس.
لماذا نرفض الاقتصار على العِبرة (بكسر العين) في التعاطي مع واقعة الطف؟!
لكي نفهم أبعاد هذه الرأي، لابد وأن نتوقف عند مسألة الاعتبار، وهي مسألة أكدت عليها آيات الذكر الحكيم بصورة واضحة ومتكررة، وكذلك السيرة النبوية الشريفة وسيرة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، ومنها قوله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ)، (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ)، (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ)، وغيرها من الآيات التي تُوجِّه للاعتبار تارةً بالعبارات الصريحة، وتارةً باستخلاص العِبرة من جملة الأحداث وسياقها.
وبالنظر في آيات العِبرة نجدها مجردة من العاطفة، فهي إما أن تتحدث عن القدرة الإلهية كما في قوله تعالى “وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ” (النحل:66)، و “يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ” (النور:44)، أو أن تكون في مقام التوثيق كقوله تعالى “قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ” (النازعات:13)، و “هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ” (الحشر:2)، أو في مقام التذكير بهزيمة الباطل وأهله كما في قوله تعالى “لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ” (يوسف:111)، “فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى” (النازعات: 25-26)، و “قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ” (آل عمران: 137). فالهداية إنما تكون بالهدي المباشر من الله جل شأنه “هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ” (آل عمران: 138)، بينما جاء القَصص للتذكير والاعتبار والرؤية المجسِّدة لنصر الله الحق على الباطل.
إننا عندما ننظر في قصص قوم نوحٍ وعادٍ وثمود وصالح وإبراهيم وغيرهم من الأمم السابقة، رغم قساوة تلك المشاهد، إلا أن عاطفتنا لا تتحرك تجاه شخوص تلك الأحداث، لأن موردها هو مورد العِبرة لا غير. فهي من جهة شخوص الصالحين القدوة والأسوة الحسنة، ومن جهة شخوص أهل الضلال الدروس والعِظة، وكلا الأمرين لا تخلو منها مشاهد ووقائع مجزرة الطف الأليمة. فهل يمكن النظر إلى واقعة كربلاء بذات المنظار فحسب؟! قطعاً، هذه النظرة المجردة هي نظرة لا يمتلكها إنسان سليم البُنية العاطفية لأن تلك الوقائع كانت هي الأبشع في التأريخ الإسلامي إن لم يكن في تأريخ البشرية، لِمَا اشتملت عليه من بشائع القتل والسبي والضرب والترويع والنهب والسلب والامتهان والتشفي، والتي لم يشفع فيها للرضيع قماطه، ولا للمرأة خدرها وحجابها، ولا للشيخ الكبير هرمه وتقدم سنه، ولا للمريض عجزه، ولا لمقام الحسين وأهل بيته عليهم السلام قرابتهم من النبي، ولا لمقام صحابة رسول الله هذه الصحبة. يأتي كل ذلك من فئة تدعي الانتماء إلى دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قومٍ تثور ثائرتهم إذا انتقد أحدٌ فعلاً أو قولاً لصاحبي، فيُتَّهم الناقد بسب وشتم الصحابة، بينما لا يتحرك فيهم ساكنٌ لمن تم قتلهم من أصحاب النبي على أقل تقدير في يوم عاشوراء، كمسلم بن عوسجة وأنس بن الحرث الكاهلي وحبيب بن مظاهر الأسدي وهانئ بن عروة المرادي وعبدالله بن يقطر الحميَري!!
كما أن ما حل بالأقوام السابقة إنما كان بأيدي ملائكة الله المقربين عليهم السلام، بينما كان ذبح الحسين وما جرى عليه وعلى أهل بيت النبوة وأنصارهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، بأيدي فئة ضالة طامعة في مكاسب شخصية آنية، رغم علمهم بمقام من اجتمعوا لقتله وسلبه!!
فنظرة العِبرة المجردة إذن، نظرة قاصرة إذا ما تجردت من العَبرة في ما يتعلق بأحداث واقعة كربلاء، مهما كان التبرير ومهما كان الغرض، لأن الإنسان السليم لا يملك أن يحبس دموعه وأحزانه أمام هذا الانتهاك الصارخ لحرم الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى أهل بيته الطاهرين. لاسيما وأن نظرةً خاطفةً في سيرة أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم يظهر منها مقدار الحزن والألم لما جرى في كربلاء الحسين عليه السلام. فعن أبي عمارة المنشد قال: “ما ذُكر الحسين بن علي عند أبي عبد الله صلوات الله وسلامه عليه في يوم قط فرُئي أبو عبد الله صلوات الله وسلامه عليه متبسما في ذلك اليوم إلى الليل، وكان أبو عبد الله صلوات الله وسلامه عليه يقول: الحسين عَبرة كل مؤمن” (كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه، ص214 ــ 215 الباب 36). وعن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال الرضا صلوات الله وسلامه عليه: “إن المُحَرَّم شهر كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون فيه القتال، فاستُحِلت فيه دماؤنا، وهُتِكت فيه حرُمتنا، وسُبِي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهِب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرع لرسول الله صلى الله عليه وآله حُرمَةٌ في أمرنا، إن يوم الحسين صلوات الله وسلامه عليه أقرح جفوننا، وأسبل دموعنا، وأذل عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام. ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: كان أبي إذا دخل شهر المحرم لا يرى ضاحكا، وكانت الكآبة تغلب عليه حتى يمضي منه عشرة أيام، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين صلوات الله وسلامه عليه” (أمالي الصدوق، ص190). وعن علي بن الحسن بن فضال، عن أبيه، عن الرضا صلوات الله وسلامه عليه قال: “من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعل الله عز وجل يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرت بنا في الجنان عينه، ومن سمى يوم عاشوراء يوم بركة وادخر فيه لمنزله شيئا لم يبارك له فيما ادخر، وحشر يوم القيامة مع يزيد وعبيد الله بن زياد وعمر بن سعد لعنهم الله إلى أسفل درك من النار” (علل الشرائع للشيخ الصدوق، ج1 ص227 الباب 162). وورد عن صادق العترة عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قوله: “قال أبو عبد الله الحسين صلوات الله وسلامه عليه: أنا قتيل العَبرة لا يذكرني مؤمن إلا استعبر” (كامل الزيارات، ص215 الباب 36).
وما هذه الروايات إلا قطرة من بحر ما نُقل عن أهل بيت العصمة، فهل يجهل -حاشاهم- هؤلاء الأئمة الطاهرين، وهم امتداد خط النبوة، مسألة العِبرة في مأساة كربلاء وأهميتها للناس؟! فلماذا إذن كان ديدنهم الحزن والبكاء، وتوجيه أتباعهم لتعظيم هذه الذكرى، حتى ورد في الروايات الشريفة أن “كل البكاء والجزع مكروهٌ ما خلا البكاء والجزع على الحسين”!!
لماذا إذن نرفض الاقتصار على العَبرة (بفتح العين) في التعاطي مع واقعة الطف؟!
إذا كان القول بحصر مجزرة كربلاء في العِبرة تفريطاً، فإن القول بحصرها في العَبرة إفراطٌ لا يقل ضرره عن ذلك التفريط.. فاختزال الحسين عليه السلام في البكاء والنحيب والرثاء، كما صار الحال في أعقاب سقوط الدولة الفاطمية واستمر حتى القرن الرابع عشر الهجري، وهو ما سبقت الإشارة إليه في حلقة سابقة من هذه الرسائل، إنما يعني تجريد ثورة الحسين عليه السلام من المبادئ والقيم الربانية التي ضحى من أجلها، والتي من أجلها تعرض أهل بيت النبوة لكل ما تعرضوا له من الأذى. فالبكاء الذي لا يترك في سلوك الباكي أثراً إنما هو تباكٍ لم ينهض الحسين عليه السلام من أجله، واللطم والندب دون تمثل معاني المعاناة التي عاشها الحسين وأنصاره وأهل بيته، ودون أن يكون باعثاً على النهضة في وجه الظلم والاستبداد هو جلدٌ للذات لا يحافظ على مبادئ الثورة الحسينية، والتفنن في ألوان الرثاء دون إدراك قيم الثورة الحسينية إنما هو تفريط في تلك القيم، واستبدالها بمضامين وهمية وشعارات لا تبرح لسان من ينظمها ومن يرددها. ومع كل هذه المظاهر غير النابعة من التمسك بخط الحسين عليه السلام فإن ما ضحى الحسين من أجله من قيم ومبادئ ربانية لن يكون مصيره إلا كتب التأريخ.
فالصواب إذن هو أن نعيش مبادئ الثورة الحسينية وآلامها، وأن نتمثل خط الحسين عليه السلام في تمسكه بما جاء به سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه من قيمٍ ومبادئ مستذكرين في جميع الأحوال ما حل به وبأهل بيت النبوة وبخيرة أهل الأرض من ويلات وأذى لأن العاطفة الجياشة إن لم تجد قيماً ومبادئ أمامها لتبعث فيها الحياة وتحركها في اتجاه طاعة الله جل شأنه فإنها لابد وأن تحرك ما تجده أمامها من غرائز ومطامع لا تمت لمنهج العترة الطاهرة بصلة. فالعَبرة والعِبرة في إحياء ذكرى عاشوراء الحسين لابد وأن تجتمعان بواوٍ دون تخيير بينهما بأو، وإلا كنَّا في إفراطٍ مَقيت أو تفريط مُميت.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.