دلت الروايات الواردة من كتب الفريقين على السر من وراء إيجاد الوجود، وهي أن الكون بما فيه من أفلاك وسكان ظهر من العدم بسبب وجود الحقائق المحمدية للنبي الأعظم محمد وآله صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا هو المشار له في الروايات "لولاك لما خلقت الأفلاك".
ولأن المعرفة غاية وجودهم وغرض خلقهم كما بينتها سورة الذاريات في قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، والعبودية هنا تعني معرفة الله، وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (ع) في قوله: {إلاّ لِيَعْبُدُونِ} أي: إلاّ ليعرفون.
ولا تتحقق المعرفة التامة بالله تعالى إلا عبر واسطتهم (ع) كما أكدت الروايات منها صحيحة بريد العجلي قال: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: بنا عُبِد الله، وبنا عُرِف الله، وبنا وحِدَ الله تبارك وتعالى، ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى. وقد ورد في زياراتهم عليهم السلام: "من عرفهم فقد عرف الله ومن جهلهم فقد جهل الله".
إذا فالوصول لغاية العبودية على المستوى الفردي والإجتماعي لا يتم إلا بأن يمكن آل محمد من عالمي التكوين والتشريع، وهذا ما يميز زمان حاكمية المهدي المنتظر (عج) (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ) وحينها تفتح الحجب المعرفية بين الخلق والخالق.
قصة آدم (ع) نظرة تقريبية للحاكمية المهدوية:
حينما أسكن الله آدمَ وزوجته حواء في الجنة الدنيوية المصغرة ليتصرف فيها حيث يشاء، كان الهدف إبراز وتجسيد مُلك آل محمد الذي وصفه القرآن بالعظيم (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا)، فعن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (ع) في هذه الآية قال: نحن والله الناس الذين قال الله تعالى، ونحن والله المحسودون، ونحن أهل هذ الملك الذي يعود إلينا.
المهم هنا في القضية الآدمية، أن إبليس أغوى آدم (ع) (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ) فكان من المفترض على آدم أن يقاطع إبليس ويقول له إني لا أعلم ملكا لا يبلى غير ملك مهدي آل محمد. ولكن سكوت آدم وإن كان جائزا في نظرنا إلا أن القرآن عبر عنه بالمعصية (وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)، وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام أن الله تبارك وتعالى حينما عرض مقامات أهل البيت على أنبيائه وأن المهدي أنتصر به لديني واظهر به دولتي وأنتقم به من أعدائي واعبد به طوعا وكرها قالوا: أقررنا يا رب وشهدنا، ولم يجحد آدم ولم يقر فثبتت العزيمة لهؤلاء الخسمة في المهدي ولم يكن لآدم عزم على الاقرار به وهو قوله عز وجل: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما".
ولسائل أن يسأل: ما الدليل على أن الجنة التي سكنها آدم (ع) كانت تحت ملك آل محمد؟
الروايات الكثيرة صرحت بذلك، منها ماروي عن الإمام الرضا (ع) مخبرا الهروي عن قصة آدم:(.. يا آدم هؤلاء ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري. فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها..).
وعليه.. إذا كانت دولة المهدي (عج) دولة على غرار جنة آدم (ع)، فنسأل ماهي قوانينها وسماتها؟
لعل أبرز مظهر من مظاهر الجنة الآدمية التي هي صورة مصغرة لجنة المهدي المرتقبة، أنها عالم واحد متداخل بين الملك والملكوت، بين المادة والتجرد وذلك قبل الهبوط الذي حصل بعد نكسة آدم (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ)، فماذا حصل؟
يقول تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)، كانت عوالم الملكوت منفتحة على الدنيا كرتق واحد ففتقتا وفصلتا، هذا الفتق جعل المخلوقات في مرحلة حرجة لولا وصول الماء إليها الذي جدد لها الحياة وإن كانت أقل بكثير من الحياة السابقة. ولذلك ورد في الروايات تفسير الماء بالإمام في قوله تعالى (وجعلنا من الماء كل شيء حي) مثلما نقرأ في زيارة المهدي (السلام عليك ياعين الحياة). هذه العين وإن كانت معطلة الآن كما يعبر القرآن (وبئر معطلة وقصر مشيد) إلا أن هذه العين غزيرة العطاء تغدق بنعيمها وفيضها حتى على من لم يطلبها (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ).
وخلاصة القول، أن كلما تميزت به جنة آدم من صبغة ملكوتية مترفعة عن المادة ستظهر في دولة القائم (ع).. من أمثلة ذلك يقول تعالى (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ)، فإن اللباس فيها لم يكن لباسا ماديا من حرير وريش وما إلى ذلك وإنما كان لباسا معنويا يسميه القرآن لباس التقوى (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ). في تلك الجنة لا مكان للسوءة والقبح (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا).
نسأل الله أن يبلغنا الطلعة الرشيدة والغرة الحميدة أنه سميع مجيب الدعاء وصلى الله على محمد وآل محمد