لقد أثار بعض خصوم أهل بيت العصمة عليهم السلام، جملةً من الإشكالات أو الشبهات، والتي تم تفنيدها من قبل أهل الاختصاص، بل وعامة أهل المطالعة. وقد تبنى معظم هذه الإشكالات المزعومة عددٌ من مدَّعي الثقافة والفهم ودعاة العقلنة وإعمال الفكر من أبناء اليوم، رغم كثرة الردود الواردة فيها، لكن هي هذه مشكلة هؤلاء الذين بات كل مصدر ثقافتهم ومطالعتهم صفحات قوقل ورسائل الواتساب. ولسنا هنا بصدد استعراض تلك الشبهات والرد عليها، ويمكن لمن أراد الاطلاع على ما كنا تناولناه من تلك الشبهات في دورات سابقة من هذه السلسة، حيث خصصنا الدورة الرابعة منها (مقالات السنة الرابعة: رسائل عاشوراء4) لعرض ومناقشة الشبهات والردود المتعلقة بواقعة الطف، إلا أننا نتوقف عند أغبى شبهة، والتي تعكس ضعف الثقافة التأريخية عموماً، والثقافة القرآنية على وجه الخصوص. هذه الشبهة هي انتحار الحسين عليه السلام، وخلاصتها على النحو الآتي:
أنتم (أي الشيعة) تزعمون أن الحسين معصوم ويعلم أنه سيُقتل في كربلاء، فإن كان زعمكم صحيحاً فإن الحسين يكون قد خرج منتحراً، وإن قلتم أنه لم يكن يعلم فهذا يكفي للرد على زعمكم أن أئمتكم يعلمون الغيب وأن الحسين وكذلك بقية الأئمة معصومون عن الخطأ، وبالتالي فإن خروج الحسين على خليفة المسلمين كان خطأ ارتكبه الحسين ويتحمل فيه ما تم سفكه من دماء في هذه الواقعة.
فالخيار إذن في هذه الشبهة محصور بين أمرين، فإما أن يكون الحسين عالماً بما يجري عليه فيكون منتحراً، أو غير عالمٍ بذلك وبالتالي فهو مخطئ وهو المسؤول عن سفك دمه ودماء أهل بيت النبوة ومن حضر لنصرتهم.
وصفُنا هذه الشبهة بأنها أغبى الشبهات ليس من باب العبث أو الشتم، بل لأنها بالفعل تتصف بهذه الصفة، لأنها في جميع الأحوال تنتهي بنتيجة واحدة هي أن الحسين عليه السلام –حاشاه وحاشى ربنا- هو من أهل النار!! فهو إما أن يكون منتحراً، أو سبباً في سفك دماء المسلمين، ويكون في مقابل ذلك قتلى معسكر يزيد بن معاوية شهداء، والشهداء مكانهم الجنة!!
لنتأمل في هذا الطرح رغم ما فيه من سذاجة:
أولاً: لم يزعم أحدٌ أن الأئمة أو حتى الأنبياء صلوات الله عليهم يعلمون الغيب، فإن علم الغيب من اختصاصات الله عز وجل. قال تعالى “قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ” (الأنعام:50)، و “قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” (الأعراف:188). فما يُخبِر عنه الأنبياء والمعصومون إنما هو من المغيَّبات التي يطلعهم الله عليها لحكمة يريدها جل شأنه، ولا يعني هذا المقدار من العلم أن من أنعم الله عليه بذلك صار عالماً بالغيب. فمن بين كرامات ومعجزات السيد المسيح عليه السلام مثلاً أنه كان على مقدرة بأن يُخبر الناس بما يدَّخرون في بيوتهم “… وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (آل عمران:49)، وكذا كان آدم عليه السلام لمَّا علَّمه الله ما لم يُعلمه الملائكة، ثم قال لهم “قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ” (البقرة:33). كما كان النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وآله يُخبر أصحابه ببعض ما يجري قبل حدوثه، وذلك ثابتٌ في الكثير من الأحاديث الشريفة الصحيحة. ومن بين ذلك مثلاً إخباره بما يجري على الحسين وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم، ولعل ما ورد في مصادر أهل السنة في هذا الأمر أكثر مما ورد في مصادر الشيعة، وليس هذا مجال إيراد الاستشهادات والتي لا يشق على الباحث الوصول إليها.
ثانياً: في مسألة العصمة، نكتفي بالتذكير بالحديث المتفق عليه والوارد في مصادر الفريقين “الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة“، والحديث الشريف: “الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا“، والدلالة في هذين الحديثين ليست بخافية إلا على سقيم العقل والقلب. أما ما يتعلق بدليل العصمة في كتاب الله المجيد، ففي آية التطهير الكفاية، حتى لو قال القائل أن المراد بأهل البيت في قوله تعالى “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا” يشمل زوجات النبي (ص)، فإن هذا الشمول لا يعني إخراج الحسنين من دائرة أهل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه. هذا فضلاً عن التفصيل في أقوال أئمة وعلماء جميع المذاهب في كون أهل البيت المقصودين في الآية الكريمة هم أصحاب الكساء، والحسين أحدهم دون أدنى خلاف.
في ضوء ما تقدم، وما يرتبط به من استدلالات لا مجال لإيرادها هنا، فإن الواضح أن الحسين عليه السلام معصومٌ لا ريب، وأنه لا تعارض بين عصمته عليه السلام ومعرفته ببعض الأمور الغيبية والتي من بينها مسألة قتله. وقد نقل الفريقان في سيرة الحسين عليه السلام قوله في خروجه وقبل وصوله أرض كربلاء: “وخِير لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عُسُلان الفلاة بين النواويس وكربلاء…“، كما أوردت مصادر الفريقين ما فيه الكفاية من الأحاديث الشريفة من لسان رسول الله (ص) المُخبِرة عن كل ما يجري على الحسين عليه السلام.
وهنا ننتقل إلى مسألة الانتحار التي ترتكز عليها هذه الشبهة، وهي النقطة الأكثر سذاجةً في هذا الطرح، حيث أنه بموجب فحوى الشبهة، فإنه إذا قلنا أن الحسين يعلم بما يجري عليه فإنه يكون منتحراً. ولنبدأ بهذا التساؤل:
قال تعالى في سرده لقصص إبراهيم عليه السلام: “فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ” (الصافات:102). شخوص هذا الحدث هما إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل صلوات الله عليهما ونبينا الكريم وآله الطاهرين. فأما القائل (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فهو إبراهيم عليه السلام، وأما صاحب الجواب (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فهو إسماعيل عليه السلام، وكلاهما نبي دون أدنى شك. المسألة لم تقف طبعاً عن سرد حُلُمٍ رآه إبراهيم ولم يعارضه فيه إسماعيل، وإنما تبعته أحداثٌ على سبيل تطبيق هذه الرؤيا، قال تعالى “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” (الصافات:103-105)، فهل كان إسماعيل عليه السلام بقوله (افعل ما تؤمر) ثم استسلامه للأمر (فلما أسلما وتله للجبين) منتحراً؟! وهل كان إبراهيم عليه السلام قاتلاً للنفس بغير نفس؟!
قد يقول القائل: لكنه لم يقتله!! والجواب البديهي: نعم لم يقتله، لكنهما عندما أقدما على هذا الأمر لم يكونا يعلمان بأنه لن يكون هناك قتل (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)، قال صاحب الميزان: قوله تعالى: «فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ» الإسلام الرضا والاستسلام: والتل الصرع والجبين أحد جانبي الجبهة“. وبمقياس أصحاب هذه الشبهة، نقول: إن كان إبراهيم وإسماعيل أو أحدهما على علمٍ بأنه لا يكون قتل في نهاية هذا المشهد، وأن الله تعالى سيفتدي إسماعيل بذبحٍ عظيم، فذلك تمثيلٌ سمجٌ لا يليق بمقام الربوبية والرسالة والنبوة، وليس لإشادة المولى عز وجل بهذا الموقف في كتابه الكريم أية قيمة، وحاشى ربنا العبث. وفي المقابل، إذا كانا لا يعلمان سوى الظاهر وهو ذبح إبراهيم ابنه إسماعيل تنفيذاً للرؤيا الصادقة التي رآها إبراهيم، فالمسألة إذن انتحارٌ من جانب إسماعيل، وقتلٌ بغير نفس من جانب إبراهيم، وحاشهما ذلك. ويزيد الأمر وقعاً في هذه الفرضية الساذجة أن الله جل شأنه امتدح في كتابه منتحراً وقاتلاً وكتب لهما جزاء المحسنين حيث قال “قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” (الصافات:105)، فسبحان الله وتعالى عما يصفون علواً كبيرا.
إن العِلمَ بما يكون هو أمرٌ بيد الله يلهمه من أراد من عباده لحكمة يريدها جل شأنه، وهذا العلم لا يعني قُدرة المخلوق على تغيير ما أراد الخالق من جهة، ويزيد أجر الصابر على البلاء من الجهة الأخرى لما فيه من توطين النفس وقبولها بما كتب الله عليها دون أدنى تعلقٍ بماديات هذه الحياة، فالمرجو هو رضى الله وحده. لذا كان الحسين عليه السلام كلما اشتد عليه البلاء بفقد عزيز في كربلاء، حتى بلغ الأمر به هو عليه السلام، كان مقاله: “إن كان هذا يرضيك، فخذ حتى ترضى“..
نعم، لقد كان الحسين عليه السلام عالماً بما يجري عليه، بل وأخبر أهل بيته وأصحابه بما يجري عليهم، فكانوا نِعم الصابرين والمحتسبين الأجر والثواب عند الله تعالى، إذ ليس فيهم جاهلٌ أو سفيه. فأّنْ تسير إلى الجهاد في سبيل الله فتقتِل أو تُقتَل فذلك إيمانٌ بالله وسعياً لنيل رضاه، فكيف وأنت تعلم أنك تنال الشهادة بأعلى مراتبها في هذا الخروج وأنك مقتولٌ لا محالة وحائزٌ رضى الله تعالى؟" (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ) الصافات:106
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.