بحث حول دفع شبهة صحة
حديث:
نحن معاشر الأنبياء لا نورث ماتركناه صدقة[1]
الحمد لله رب العالمين خالق السماوات والأرضين والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين ـ محمد المصطفى ـ سيد الأولين والآخرين، وعلى أهل بيته الميامين الذين انتخبهم الله هداة للبشر أجمعين.
إن الدفاع عن أهل البيت ونهجهم وخطهم دفاعٌ عن الدين، لأن أهل البيت (عليهم السلام) هم القُوام عليه وهم حَفَظَته وبهم وبعلمهم تصل إلينا تعاليمه.
وإن من أهم الشخصيات التي يجب الدفاع عنها هي سيدتنا ومولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) لكونها حركة الوصل بين النبوة والإمامة وهي الطريق لهم (عليهم السلام)، فإن أي انتقاص لمقامها هو انتقاص لمقامهم(عليهما السلام).
وقد جرت العادة عند أعداء أهل البيت أن ينتقصوا من مقامات وفضائل الأئمة الطاهرين بين الفينة والأخرى، ونرى كما هو جلي وواضح أن أكثر مايصبون اهتمامهم عليه هو إنكار و إنقاص مقام سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فتراهم يرمون الشبه و الإفتراءات لتكذيب ماينسب إليها من فضائل ومناقب، وتقوية لما ادّعاه البعض من قبل في تكذيب مقولتها ودعوتها بمطالبتها بحقها في ميراثها وغيرها من الأمور.
وإن من الشبه الحديثة التي طرأت على الساحة العلمية هو صحة حديث "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة"[2] ويدّعون في شبهتهم أن مايقوي صحة هذه الرواية وجود أمثالها من الروايات في الكافي الشريف[3] وأن العلامة المجلسي قد صححها.
وفي الرد على هذه الشبهة أُورد مقدمة في معنى الشبهه لغة و اصطلاحاً، ثم أُجيب عليها بحيث أدفع عن مقام السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ما يدعيه الناصبون لها العِداء بأنها كاذبة ـــ حاشاها ـــ في مطالبتها بإرثها من رسول الله (صلى الله عليه و آله وسلم) و أُبين بطلان هذه الشبهه.
أولاًــ تعريف الشبهة:
إن الشبهه هي الالتباس كماجاء في المعجم وهي الشك، وقيل في شرحها هو ما ارتاب في أمره وما زال يدعوه لسوء ظن[4].
أما في الإصطلاح فهو ما التبس أمره فلا يدري أحلال هو أم حرام، وحق هو أم باطل[5].
وعليه فإن مايدعيه هؤلاء أمر التبس عليهم وشابهُ سوء ظن وباطل، فكان من اللازم علينا ــ ومن باب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، رفع الالتباس وبيان الحق بالجواب الشافي.
ثانياًــ الشبهة والرد عليها:
ــ الشبهة:
أن هناك في كتب الشيعة المعتبرة روايات تؤيد حديث"إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة"[6]، وعليه فإن هذا الحديث صحيح أو حسن لما يقويه من أحاديث أنتم تذكرونها في كتبكم.
وفي الجواب على شبهتهم أقول والله ولي التوفيق:
إن ماذكروه من ادعاء هُما روايتان في الكافي الشريف في هذا المعنى، إحداهما في باب صفة العلم وفضله، عن أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء وذاك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه؟ فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)[7].
والأُخرى في باب ثواب العلم والمتعلم، عن القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به وإنه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر)[8].
إن أصحاب هذه الشبهة لاذوا بهاتين الروايتين لتصحيح وتقويه حديث موضوع[9] أُستُدِلَ به في حرمان البضعة الطاهرة حقها وملكها الشرعي، وهو حديث"إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة"[10]، مع أن مفاد الروايتين الشريفتين مُغاير لمفاد الحديث، إذ ليس في الروايتين قوله "أن الأنبياء لايورثون درهماً ولا ديناراً، أو أن ماتركناه صدقة"، حتى يصح هذا الحديث، وإنما الذي فيهما قوله(عليه السلام): (إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما)[11]، والفرق بين العبارتين واضح جلي لذوي البصائر لا من يجهل الحق ولا يفهم من اللغة شيئا؛ إذ أن مفاد (لا) مغاير لمفاد (لم) ولو أنه قال:" إن الأنبياء لا يورثون درهما ولا دينارا " لكان فادهم ونفعهم لأنه يكون ظاهراً في الإنشاء الحكمي، بمعنى أن الأنبياء لايمكن أن يورثوا درهماً ولاديناراً، تماماً كما جاء في الرواية الموضوعة التي فيها حرف (لا) لكنه (عليه السلام) لم يقل ذلك، بل قال: (إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما)[12]، وبهذا يكون بمقام الإخبار، بمعنى أنه يخبر بسيرة الأنبياء (عليهم السلام) أنهم لم يكنزوا الدراهم والدنانير كما يفعل الناس فلم يُوَّرثوا شيئاً منها يعتد به، وإنما ما ورّثوه هو العلم، وبهذا الإعتبار يكون العلماء ورثة الأنبياء لأنهم أخذوا بميراثهم منهم.
ثم إن ليس معنى كلامه (عليه السلام) نفي حكم أن الأنبياء يورثون غير المال، كيف والإجماع قائم على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورّث سيفه ودرعه وعمامته وثيابه، وقد تسلمها أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي ليست من العلم في شيء.
كما أن سليمان قد ورث من أبيه داوود (عليهما السلام) كل ما كان تحت سلطانه في مملكته من أراضٍ ودور بل و أموال، نعم؛ لم يكن ذلك مما كنزه داوود (عليه السلام) لأجل الثراء و إنما كان تحته ليستعين به على إقامة حكم الله تعالى في الأرض، فينتقل تالياً إلى خليفته الشرعي نبي الله سليمان (عليه السلام) مصداقاً لقوله تعالى {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ}[13]، وهكذا كان ما تحت يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من فدك وغيرها إنما كان يستعين به في إقامة حكم الله تعالى في الأرض، فينتقل تالياً إلى خلفائه الشرعيين من أهل بيته (عليهم السلام) ليستعينوا به على إقامة حكم الله في الأرض.
ثم إن فدك والعوالي، كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أنحلها وأقبضها ابنته الزهراء (عليها السلام) في حياته[14]، فتكون مالكه لها، فعلى فرض أن النبي لا يجوز له أن يوَرّث كما زعم المخالفون، فإن فدك والعوالي مِلك خاص للزهراء (عليها السلام) لايجوز انتزاعه منها، مع قطع النظر في دعوى الإرث.
وكذلك كما يروي أهل الخلاف أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقطع الزبير وبلال وغيرهما أراضيٍ في حياته ولم تسلب منها إلا أرض فدك!!
مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقطع فدك وأعطاها فاطمة الزهراء (عليها السلام) وذلك ثابت في كتب الفريقين ـــ كما ذكرت في الهامش فانظر.
والحاصل أن الروايتين في الكافي الشريف لا تنفعان الطرف الآخرفي تصحيح ادعاء أن النبي لا يورث؛ لأنهما لا تنفيان الحكم و إنما تخبران عن السيره وتنفيان اهتمام الأنبياء بكنز الأموال لتوريث أبنائهم، ولا تنفيان انتقال مافي أيدي الأنبياء لورثتهم الشرعيين وخلفائهم، كما لا تنفيان انتقال غير العلم من الدور والأراضي والحبوة وغيرها لورثتهم على حكم الشريعة في الإرث.
وختاماً نأمل من الله أن نكون قد وُفقنا للرد على هذه الشبهة، ونحمده أن جعلنا من المتمسكين بولايتهم والمدافعين عنهم، والله ولي التوفيق.
.............................................
3) الكافي من مصادر الحديث لدى الشيعة وأكثر الكتب الأربعة اعتبارا، وهو من تأليف محمد بن يعقوب بن إسحاق المشهور بثقة الإسلام الكليني. ويشتمل الكتاب على ثلاثة أقسام: أصول الكافي، وفروع الكافي، وروضة الكافي، ويعد من أهم المصادر لدى العلماء. وكان الضابط لدی الكليني في جمع الأحاديث عدم معارضتها للقرآن و موافقتها للإجماع.
4) المعجم الوسيط / ج1 / ص471 / مؤسسة الصادق للنشر والطباعة / طهران
7) أصول الكافي / الكليني / ج1 / ص32 / ح2 / باب صفة العلم وفضله / دار المرتضى/ بيروت.
8) المصدر السابق/ ج1 / ص34 / ح1 / باب ثواب العلم والمتعلم.
9) أنظر تاريخ الإسلام -الذهبي- ج3 / ص21، الاحتجاج -الشيخ الطبرسي- ج1 / ص138، شرح الأخبار -القاضي النعمان المغربي- ج3 / ص33، دلائل الامامة -محمد بن جرير الطبري (الشيعي)- ص117، بحار الأنوار-العلامة المجلسي- ج29 / ص215.
11) أصول الكافي / الكليني / ج1 / ص32 / ح2 / باب صفة العلم وفضله / دار المرتضى/ بيروت.
14) ورد في وسائل الشيعة للحر العاملي ج 6 / ص 366 :عن أبي الحسن موسى عليه السلام (في حديث) قال: (إن الله لما فتح على نبيه فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله على نبيه: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وآله من هم فراجع في ذلك جبرئيل، وراجع جبرئيل ربه، فأوحى الله إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة (إلى أن قال:) حد منها جبل أحد وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل، قيل له: كل هذا؟ قال: نعم إن هذا كله مما لم يوجف أهله على رسول الله صلى الله عليه وآله بخيل ولا ركاب).
وورد في الكافي ج1 / ص٥٤٣ / ح ٥ :عن موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال للمهدي العبّاسي بخصوص فدك لما كان يردّ المظالم : (فدعاها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال لها : يا فاطمة إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك ، فقالت : قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك).
و إن اعطاء فدك لفاطمة عليها السلام رواه كلّ من أبي يعلى في مسنده ٢ : ٣٣٤ ، والحسكاني في شواهد التنزيل ١ : ٤٣٨ بطرق متعدّدة ، والسيوطي في الدر المنثور عن البزار وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مروديه ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣ : ٧٦٧ ح ٨٦٩٦ ، والقندوزي في ينابيع المودة ١ : ٣٥٩ وغيرهم.