توطئة لابد منها:

الحاج اسم فاعل والحج في اللغة القصد والقصد أحد معاني النية وهو من يقوم بفعل الحج أي القصد إلى مناسك ومشاعر حددها الشارع المقدس وبذلك يكون الحج لفظاً منقولاً كما نبه عليه اللغويون وقبله أعلام الفقه شأنه شأن بقية المنقولات كالصلاة و الزكاة .. والناس تتفاوت في قصودها و القصد المراد من المشرع هو القصد النزيه ابتداءً أي الخالص وإن شابه بعض الضمائم المباحة التي لا تضر بالعمل..

وأما ما عداها من الآفات كالعجب والرياء والسمعة فهي المحبطات أصلاً والجعل منه هباء منثورا. استغرقنا في المقدمة لما له مسيس الصلة بالعنوان ولنؤصل حقيقة أن للعمل ظاهراً وباطناً،وأن يسعى المرء للتطوير من معنوياته لا أن يراوح مكانه ويجدّ في الظاهر ويهمل الباطن وكما قيل فإن للعمل غايات أسمى من الوقوف عند حدَه ورسمه..

وها نحن نستعرض أهم ما ينبغي للحاج أن يتحلى به من أخلاق في هجرته إلى اله تعالى.

أولاً: أخلاقه مع المولى تبارك وتعالى.

• النية الخالصة: قال عز اسمه{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم}ولا شك أن المطلوب والمنظور إليه وقبوله هو العمل الخالص..

• العزم: وربما يأتي في الرتبة الأولى وقبل النية والمقصود به الالتفات إلى محبوبه الله عز وجل للمريد أنه توجه إليه قبل الموسم العبادي قال تعالى {فإذا عزمت فتوكل على الله}.

• تصفية الحسابات بينه وبين الله تبارك وتعالى: إذ المخالف في الشراكة هو العبد نفسه،والله تعالى سبحانه لا توجد بينه وبين عباده عداوة ألبتة "ولكن أكثر الناس أنفسهم يظلمون".

• تجديد التوبة: من صغائر الذنوب فضلاَ عن كبائرها واليقين بالإقالة منها،والنظر لشرافة الزمان والمكان دخل كبير كما لا يخفى لمن تدبّر في أسرار العبادات.

• الترقيَ في العبادة وطلب الكمال والقرب أي عبادة الله تعالى على جهة العشق والحب لا على جهة الرهبة والرغبة.
كما قال مولى الموحدين علي عليه صلوات وسلام الملك العلي:إلهي ما عبدتك إذ عبدتك طمعا في جنتك أو خوفا من نارك وإنما وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

• الهجرة إليه: الهجرة النهائية وكأنه أول لقاء به وطلاق المعاصي والذنوب وربما مات في رحلته إلى المحبوب وختم له بالسعادة وشيعته ملائكة الله الموكَلين به في سفره بحسب مضامين بعض الروايات..

• استئناف العمل وتجديد العهد في اللقاء بالمحبوب في أحب وأقدس البقاع إليه في كل عام بأن يسأله العود ثم العود ففي مضمون الخبر عن سادات البشر عليهم صلوات وسلام الله الى يوم المحشر:أن عدد حج الإنسان بقدر ما لبّى من نداء الله عز إسمه في عالم الذر.

• أطاعته كما يشاء والالتزام الحرفي بظاهر المناسك والمشاعر مع التوجه المعنوي الباطني وعدم تحكيم هوس العقل في جَل الأعمال فليس أبعد عن الله من عقلٍ يريد الإملاء على الله تبارك وتعالى في مجمل التكاليف أو أن يصيغ تخرّصات من قصور عقله فيشطّ به إلى ضفة الكفريات بينما الحج كله إيمان وتصديق بما جاء به النبي الأمي(ص) من عند ربه وهو من السنة الفعلية للمناسك والمشاعر التي يحرم مخالفتها.

• أن يعتقد بأن الحج حجتان حجٌ إليه بالأصالة وحج إلى رسوله وأهل بيته وأوليائه عليهم أفضل وأزكى السلام بالتبع لأن القصد إليهم عليهم السلام قصدٌ إليه وكذلك من جملة أوامره ومن أنهم هم الإدلاء إليه عز وجل.

السلام على محالّ معرفة الله كما ورد في الزيارة الجامعة.

ثانيا: أخلاقه العامة
• تصفية الحسابات مع النفس والخلق عموماً وخصوصاً فيبرأ من عيوبه بالتوبة النصوح ويستبرأ من غرمائه مديناً ودائناً من الجهة المالية إن كان هناك مخرجاً وسعة ويستبرأ منهم كذلك من الجهة الحقوقية في أعراضهم وأنفسهم ويبرئهم من حقوقه المالية والإعتبارية التي منحها إياه ربه تعالى ابتداءً ليدل على صفاء سريرته ومن أنها المدخل لصلاح ذاته وشعلة بداية الهداية على طول خط الإستقامة.

• أن يستيقن بغفران الذنوب وقبول الأعمال وأنه سوف يُغمس في بحر المغفرة وأنه سيكون كيوم ولدته أمه كما هو منطوق الخبر صحيفة بيضاء بشرط الندم الحقيقي على ما فرّط وضيع من سنين عمره في اللهو واللعب.

• إظهار المروءة في السفر مع النفس والخلق، يقيل عثرة المخطيء من الناس كي يقيل الله عز وجل عثراته،وأن يوسع صدره لأنه في رحلة إيمانية تربوية من الأصل وأن يبذل ويبسط خوانه للإخوان إن كان من أهل البسط.

• حسن الخلق ومراعاة آداب العشرة التي نصت عليها الآيات ونطقت بها ألسنة الروايات والتي من أهمها: التواضع للصغير والكبير و كظم الغيظ والتخلق بأخلاق المتحلمين وإغاثة الملهوف المحتاج من الإخوان وتوطئة النفس وعدم التعالي على الآخرين، فإن جميع الإعتبارات ملغية في هذه الهجرة الشريفة.

وليتأسى بسيد الساجدين عليه صلوات وسلام رب العالمين في ما سطرته سيرته العملية في تعامله مع قافلة وفد الله تعالى بالرغم من مقام إمامته وعصمته ودوحة نسبه الشريف.

• ترك ماعدا الله تبارك وتعالى من الأغيار كالأهل والوالدان والأموال والجاه والمنصب والرئاسات والتجرد لله وحده سبحانه وتعالى طوال مدة هجرته فليس أضر على عبادة الناسك من معيتهم وتعلق القلب بهم منهم.

• ملاحظة معية الله عز اسمه في جميع أحواله من حركاته وسكناته من حين أن يضع قدميه على راحلته مروراً بالميقات والتلبس بالإحرام والامتثال لأحكامه الخاصة وانتهاء بآخر نسك. وذلك لإن ذكر المحبوب ومراعاة سنن الآداب في حضرته دليل على التقوى والخشية والورع.

• تنزيه العمل عن الأغراض المباحة مهما أمكن وإن كانت الضمائم المباحة لا تنافي القربة كما هو مقرر في الفقه.
وفرق كبير بين حليب ناصع البياض وحليب مضاف إليه ماء.

فرق بين الدعاء بالفوز بمليون دينار للتوسعة وبين الدعاء بطلب الأنس واللذة في العبادة والمناجاة.

• التأمل في المعاني الدقيقة للنيات والتدبَر في حالات النفس وأطوارها في البقاع المقدسة والاعتراف بالعجز أمام قدرة لله سبحانه وتعالى والقصور عن إدراك كنه معرفته، والجعل من الحديث الذي ورد بلفظين:

* من عرف نفسه فقد عرف ربه.
*من عرف ربه فقد عرف نفسه.

منطلقا للصحوة المفاهيمية. وترميم مجمل الخلل السائد في العلاقة مع الله جلت أسماؤه والخلل المهيمن المطبق مع النفس.

• جبر ما انقضى من العمر وجبران ما تبقى منه بصالح الأعمال في أشرف البقاع وخصوصاً (عرفات) فقد ورد عن الصادقين عليهم السلام {بأن الحج عرفة}، وما أدراك ما عرفة همزة الوصل بين ليلة قدر العارفين ففي مضمون منطوق الخبر عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين:بأن من لم يغفر له في شهر رمضان غفر له في عرفات فليستأنف العمل، ومن لم يغفر له في عرفات فلا خير فيه.

عرصة عرفة التي تقاطرت فوق ثراها حبات لؤلو دموع سيدنا الحسين المنضود صلوات الله وسلامه عليه وهو يترنّم بصوته الملائكي العجيب بالدعاء المنسوب له كم نحن غافلون عن مجد وعلو مضامينه الراقية في تلاوينه جميعا.

في الثناء على الله عز وجل.

في بيان اسمائه وصفاته وأفعاله.

في تعداد نعمه وأفضاله.

في عجائب خلقه وبديع صنعه.

في بيان كيفية آداب التوسل إليه.

في بيان التذلل والشوق إلى لقائه والأنس به.

في الإستغراق في حبه وانمحاء صور الأغيار من قلبه.

آهً...آهٍ:كم حججنا وكم حج غيرنا من مرات ولكن:

هل تطور بُعدنا المعنوي؟!

وهل شممنا من قنينة طيب عطر عرفات روحانية تضفي على أرواحنا نسيم التغيير الجذري؟!

أم بات حجنا حجاً روتينيا لا نكهة فيه سوى التباهي بالعدد والبحث عن القافلة الأرقى وغيرها من الكماليات التي هي من أكبر عوائق نمط التفكير المعنوي للرقي للافضل؟!

• وإذا أراد اغتراف المزيد من معنويات وآداب الحج فينبغي عليه قراءة رسالة مولانا سيد الساجدين عليه السلام للشبلي بتأنٍ ودقة لكي تكون له رافدا ً وشوقاً إلى الله عز وجل.. وما سطرته أقلام الأساطين من العلماء قدست أسرارهم.. كالنراقي في جامع سعاداته والإمام الخميني في جملة من كلماته بشأن مواسم الحج والملكي التبريزي في مراقباته، والمولى الفيض الكاشاني في حقائقه.

والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله الغر الميامين.

وفرغ القلم من ركوعه وسجوده في الثلث الثاني من سحر ليلة الثالث والعشرين من ذي القعدة الحرام. عام١٤٤١هجري.
٢٠٢٠/٧/١٣ميلادي