"قل لا أسألكم عليه أجراً" بهذا الخطاب أمر الله سبحانه وتعالى جميع أنبيائه ورسله صلوات الله عليهم أجمعين أن يخاطبوا أقوامهم. فجاءت الآيات الكريمة معبرةً عن لسان نوحٍ وهود وصالح ولوط وشعيب وغيرهم ممن اصطفى الله تعالى "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ"، مع بعض التفاوت في اللفظ، لا سيما في النفي تارةً بـ"ما" وتارةً بـ"لا"، لنستشف من ذلك أن تبليغ الأنبياء والرسل رسالات ربهم لم يكن مقابل ثمنٍ أو أجرٍ من الخلق، بل إنَّ الأجر عند الله تعالى وحده. بيد أننا عندما نتمعن في هذا المقطع أو المعنى في آيات الذكر الحكيم، نقف عند ملاحظة دقيقة هي أنه من بين تلك الخطابات جاء الخطاب ملحوقاً باستثناء يتعلق بمسألة عدم حصر الأجر في الخالق عز وجل وتفرعه في أجرين، الأجر من عند الله جل شأنه، والأجر من المخلوق. وبمزيد من التمعن نجد أن هذا الاستثناء جاء مخصوصاً في خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فلنتأمل في هاتين الآيتين:
الآية الأولى (الفرقان:57): قوله تعالى "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا"
نجد الاستثناء في هذه الآية الكريمة متعلقاً بالشخوص، أي بمن يجب عليه الأجر من الخلق. فالآية لم تقل كما قالت الآيات الأخرى “إن أجري إلا على الله” أو غير ذلك من التعبيرات القرآنية، وإنما أوردت الاستثناء للدلالة على وجود أجرٍ مُتعيِّنٍ على الخلق مقابل تبليغ الرسالة والهداية. أي أن الآية تقول يا محمد قل أن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً فعليه أن يؤدي الأجر المتعيِّن عليه "مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا" فإنني أطالبه بالأجر. فهناك إذن فئةٌ مطالبةٌ بدفع أجر الهداية والتبليغ وهي كل من أراد أن يتبع الرسالة الربانية التي جاء بها محمد صلى الله وعليه وآله وسلم.
الآية الثانية (الشورى:23): قوله تعالى "…قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى"...
بينما وضحت الآية السابقة الواجب عليهم سداد أجر النبي (ص)، توضح هذه الآية ماهية هذا الأجر، والذي قلنا في الآية السابقة أنه مستحق الدفع على من اتبع الرسالة الربانية. فالآية لا تقول أنني لا أسألكم عليه أجراً بالمطلق، بل هي مما يُوجِبُ الأجر ويُثبِّته، وكأنها تقول: قل يا محمد إنَّ أجري عليكم مقابل ما أقوم به من التبليغ والهداية هو المودة في القربى "…قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى…"، فالتبليغ والهداية من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليس مجاناً وإنما هناك أجرٌ واجب السداد من قبل المخلوق، بالإضافة إلى الأجر العظيم من الخالق، والذي أكدت عليه الآيات الأخرى كما هي الحال بالنسبة للسابقين من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.
ومحصلة القول أن من شاء أن يتبع الرسالة السماوية التي جاء بها محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الآية الأولى)، فإنه لابد وأن يؤدي أجر هذا الاتباع وهو المودة في القربى (الآية الثانية). وبمعنى آخر، أن عدم تحقق المودة في القربى إنما يعني عدم الوفاء بالأجر المستحق للنبي (ص)، وهذا يعني أن المودة في القربى باعتبارها أجراً مستحقاً للنبي تظل دَيناً متعلقاً في ذمة كل من اتبع الرسالة المحمدية يطالِبُ به الله جل شأنه عند الحساب، لأنه هو تعالى ذكره من فرضه وأوجبه.
فما معنى المودة؟!
يخلط معظم الناس بين المودة والمحبة، وهما قطعاً أمران مختلفان، وليست المودة مرادفاً لفظياً أو معنوياً للمحبة. المحبة (مُؤثِّر) والمودة (أثر)، والأثر ناتجٌ عن حدوث المؤثِّر، والمؤثِّر سببٌ لحدوث الأثر. مثال ذلك الفرق بين الخشوع والخضوع. قال تعالى "قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ" (المؤمنون:1-2)، أي أن الخضوع الذي هو مدخل الفلاح يتحقق من مدخل الخشوع، فالخشوع (مُؤثِّر) والخضوع (أثر)، وهذا المعنى يتضح بصورة أكثر جلاءً في قول الرسول الأكرم (ص) عندما نظر إلى رجل يصلي وهو يعبث في لحيته: "أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" (دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي، ج1 ص174)، وقد ورد ذات الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام مع تفاوت يسير في بعض الألفاظ، وخشوع الجوارح هو الخضوع كما في قوله تعالى "إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ" (الشعراء:4)، فنسب المولى عز وجل الخضوع إلى الأعناق لأن أول الخضوع هو طأطأة الرأس، وقوله تعالى "يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا" (الأحزاب:32). وهذا يعني أن خشوع البدن (الخضوع) وهو الأثر، إن لم يكن نابعاً من الخشوع الحقيقي للقلب وهو المؤثِّر، فإنه لا يكون حقيقياً، فالمنافق مثلاً يمكن أن يتظاهر بالخضوع، بينما بما هو منافق فإن قلبه غير خاشع بالضرورة، وبذلك لا يكون خضوعه حقيقياً. كذلك هي العلاقة بين المحبة والمودة، فالمودة غير النابعة من المحبة الحقيقية، إنما هي ظاهرٌ غير صادقٍ لباطنٍ معدوم، ولا تنبعث المودة بما هي أثرٌ دون وجود المؤثِّر الدافع لحدوثها.
وبمعنى آخر فإن المحبة صفةٌ قلبية، أما المودة فصفةٌ عملية. أي أن المحبة (صفة نفسية عاطفية) أما المودة فهي) أثرٌ سلوكي وحالة عملية تنبعث من الحب. (وعليه، فإن الأجر الذي فرضه الله تعالى مقابل أداء نبيه الكريم في تبليغ رسالته تعالى وهو (المودة في القربى) لا يكون قد تم أداؤه فعلاً من قبل من اتبع هَدي النبي (ص) دون أن تكون المحبة القلبية صادقة لأن المحبة غير الصادقة لا تؤثر في السلوك، أي لا تتحول إلى مودة. والمحبة الصادقة لا تكون بلقلقة اللسان، أي لا يكفي أن يقول إنسانٌ أنني أحب أهل البيت عليهم السلام (وهم قربى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما يترحم ويترضى على من آذاهم، أو حتى يغض الطرف عن استنكار هذه الأفعال وتجريمها، سواء بدافع موروث عقائدي أو تبني منهجٍ فكري معين، أو مجاملة أو ما شابه ذلك. كما لا تكفي المحبة القلبية ما لم تصل حد التأثير في السلوك، ذلك أنها تظل محبةً غير صادقة لعجزها عن تحقيق المودة، وإنما الأجر المطلوب هو المودة لا المحبة فحسب، حتى لو افترضنا صدقها.
بمراجعة السيرة الحسينية في عاشوراء الحسين عليه السلام، نجد الإمام صلوات الله وسلامه عليه في خطبته الأولى يوم العاشر من المحرم قد بالغ في إظهار هذا المعنى لإلقاء الحجة على القوم "أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين. أيها الناس: انسبوني من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي، وانتهاك حرمتي؟! ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوليس حمزة سيّد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيار عمّي؟ أولم يبلغكم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: (هذان سيّدا شباب أهل الجنّة)، فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني، فإنّ فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟"...
كاذبٌ من يدَّعي حب أهل بيت النبي وسلوكه لا يعكس هذا الحب.. كاذبٌ من يدعي المودة في القربى ويفرح في يوم مقتل الحسين عليه السلام أياً كان سبب هذا الفرح، ويتخذ هذا اليوم العظيم عند الله تعالى يوم شُكرٍ لأسباب واهية مختلقة.. كاذبٌ من يدَّعي حب العترة الطاهرة ومودتهم وهو يتخذ من الأدوات والوسائل المحرمة من طرب وموسيقى وتشبُّهٍ بأهل الفجور واتخاذ عبارات المغالاة التي تَنسِبُ لأهل البيت عليهم السلام صفات الخالق لأن نهج أهل البيت عليهم السلام هو الإقرار بالعبودية لله تعالى ورفض الطاعة بوسائل وأدوات المعصية. كاذبٌ من يدَّعي هذه المودة التي هي أجر النبي خالصاً ويؤذيه شعارٌ من شعارات ثورة الحسين في ذكرى استشهاده.. كاذبٌ من يدَّعي حب أهل البيت عليهم السلام ويمتعض عند سماعه ذكرهم، ومن تمتد يده لتمزق أو تمحو آثار إحياء مصائبهم"... وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.." كاذبٌ من يدَّعي انتماءه لدين محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتخذ إحياء ذكراهم مساحةً لتحقيق ذاته وذيوع صيته بين الناس، وهم أصحاب منهج "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا". غارقٌ في ديونه لله تعالى من لم يوفِّ أجر النبي (ص) الذي فرضه الله تعالى بأن يعمر قلبه بالحب الذي يبعث المودة التي تدفعه للسير على صراط الله المستقيم "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.."
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.