رغم فداحة الخطب، وعظيم المشاهد التي رأتها أمام عينيها، وعاشتها بكل جوارحها، وقفت عقيلة آل أبي طالب سيدتنا ومولاتنا العقيلة زينب صلوات الله وسلامه عليها، وقفة عزةٍ وكرامةٍ وأَنَفة، لم تترك لوقع المصاب في قلبها أن يَلجُم لسان الحق الذي تنطق به، شامخةً تناطح الطغاة والمجرمين، لتكمل مسيرة الإصلاح التي من أجلها أُريق دم أخيها الحسين عليه السلام ودم خيرة أهل الأرض.. بهذا الشموخ الذي لا تملك الكلمات قدرة التعبير عنه، وقفت عليها السلام أمام أهل الكوفة، خاطبةً فيهم خطبةً تجللها البلاغة وعمق القراءة الواقعية والمستقبلية للمشهد، لتُشخِّص هذه الجريمة النكراء التي ارتكبتها الأيدي الآثمة، تشخيصاً دقيقاً، بعد أن فضحت النفاق وأهله، وعَرَّت تلك الوجوه والأيادي الملطخة بدماء أطهر الخلق على الأرض. بهذا الشموخ، وهذه العزة والصلابة وقفت شبل أمير المؤمنين عليهما السلام قائلةً:
"الحمد لله، والصلاة على أبي رسول الله،
أما بعد يا أهل الكوفة، ويا أهل الختل والخذل، فلا رقأت العَبرة، ولا هدأت الرنة، فما مَثَلُكُم إلا "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم". ألا وهل فيكم إلا الصَلِفُ النَّطِف، والصدر الشنف؟ خوارون في اللقاء، عاجزون عن الأعداء، ناكثون للبيعة، مضيعون للذمة، فبئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون؟! إي والله فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا. فسليل خاتم الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، وأمارة محجتكم، ومدرجة حجتكم خذلتم، وله فتلتم؟! ألا ساء ما تزرون، فتعساً ونكسا، فلقد خاب السعي، وتَرِبَت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلة والمسكنة.
ويلكم أتدرون أيَّ كبد لمحمدٍ فريتم، وأيَّ دَمٍ له سفكتم، وأي كريمة له أصبتم؟ "لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا"، ولقد أتيتم بها صلعاء عنقاء، سوداء فقماء، خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض وملاء السماء.
أفعجبتم أن قطرت السماء دما؟! ولعذاب الآخرة أخزى، فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يحفزه البدار، ولا يُخاف عليه فوت الثار، كلا إن ربك لبالمرصاد".
(الأمالي، الشيخ المفيد، ص321-323، والملهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، المجلد الأول، ص192-193)
لو أردنا أن نقف عند كل كلمة وعبارة في هذه الخطبة التي خلدتها صفحات التأريخ، لاحتجنا حلقات من البيان والشرح والتحليل، لذا، نقصر الحديث وبعُجالة على مقطع واحدٍ من كلام السيدة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليها، والذي شخّصت فيه حجم هذه الجريمة وأبعادها، لكننا قبل ذلك لابد وأن نتوقف عند بعض الأمور المهمة في هذا الموقف.
الوقفة الأولى:
قال بشير بن خزيم الأسدي، راوي هذه الخطبة: "ونظرت إلى زينب ابنت علي يومئذ، فلم أرَ خَفِرَةً قَط أنطق منها، كأنها تفرغ من لسان أمير المؤمنين، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت"...
(الخَفِرَة) حسب ما جاء في لسان العرب هي المرأة التي اشتد حياؤها. و(الحياء) هو الاحتشام، وهو غير الخجل الذي هو الحيرة والاضطراب. وقد اختار الراوي وصف (الخَفِرة) لينقل لنا حال السيدة زينب صلوات الله عليها في وقوفها لأن الموقف الذي أراده أعداء الدين هو إذلال أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بينما لم تكن زينب كما أرادوا، وكأنها بهذا الوقوف الشامخ تقول لأعداء الله هيهات لكم أن تُلبسوا من أعزهم الله ثوب المذلة. كما تُعبِّر هذه المفردة (الخفرة) عن هيئة وقوفها عليها السلام، والتي رغم ما نالها من الأعداء إلا أنها تجللت بالحياء والوقار والاحتشام الذي هو سِمة أهل الإيمان، من غير أن يحول هذا الحياء دون نطقها بلسان الحق المبين، حيث لم يُخفِ الراوي تعجبه مما رأى من هذه السيدة الجليلة، فقال: "فلم أرَ خفرةً قط أنطق منها"..
الوقفة الثانية:
لبلاغة ما سِمع الراوي وجميع من حضر الموقف، قال الراوي في وصف منطقها وكلامها: "كأنها تفرُغ من لسان أمير المؤمنين". والمعلوم أن أمير المؤمنين عليه السلام هو سيد البلغاء والمتكلمين وإمام الخطباء والمتحدثين، والذي كان له أسلوبه الخاص في الكلام يجعل من غير العسير تمييز كلامه عن كلام الآخرين بما يمتاز به من الفصاحة والبلاغة ودقة التعبير واختيار الألفاظ وصياغة العبارات، كما كان يسترسل في الحديث دون توقف أو شرود أو تلكؤ، فتطاوعه الكلمات وتنصاع له المعاني التي تنبع من قلبه ولسانه دون تكلُّف أو استحضار. وكان له عليه السلام في خطابه نبرةً مميزة يعرفه بها كل من سمعه، فلا يملك السامع إلا أن يوجه كل انتباهه إلى ما ينطق به عليه السلام.
وحيث أن الراوي كان ممن رأى وسمع الإمام علي عليه السلام، فإن ما أورده من تشبيه بقوله "كأنها تفرغ من لسان أمير المؤمنين" لا يمكن أن يقاس على أنه مجرد تشبيه وإنما هو وصفٌ يُعبِّر به القائل عن ذهوله مما كان يشاهد ويسمع.
الوقفة الثالثة:
يقول الراوي: "وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس"!!
تنقل صفحات التأريخ كيف أن طرقات الكوفة وأزقتها كانت ممتلئة بالناس عن بكرة أبيها حين دخل ركب السبايا، وللمرء أن يتخيل حجم الضوضاء والجلبة مع هذا الجمع الغفير، بالإضافة إلى أصوات الأجراس والطبول التي كانت تُقرع لإعلان النصر على الحسين عليه السلام، لكن الراوي ينقل لنا المشهد عندما تقدمت الحوراء زينب عليها السلام بأنها "أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس". و(أومأ) أي أشار بيده، أو بعينه، أو بحاجبه، أو برأسه، أو بغير ذلك من الإشارات اليسيرة. فلو اعتبرنا أكثر تلك الإشارات وضوحاً هي الإشارة باليد لاسيما في وسط جمعٍ غفير، فإن الحاصل في هذا المشهد لابد وأن يُنبئ عن ولاية تكوينية للسيدة الحوراء عليها السلام، إذ أسكتت هذه الإيماءة منها جموعاً بالآلاف ربما لا يراها إلا من كان قريباً منها، بل وأسكنت الأجراس فخمدت أصواتها، إذ أن الواضح من تعبير الراوي أنه ليس مجرد تشبيه أو كناية أو صياغة بلاغية، بل هو وصفٌ لمشاهدة.
ننتقل من هذه الوقفات القصيرة للمقطع موضوع الحديث، والذي اختصرت فيه العقيلة زينب عليها السلام بأبلغ الكلمات تشخيص هذه الجريمة النكراء حيث قالت: "ولقد أتيتم بها صلعاء عنقاء، سوداء فقماء، خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض وملاء السماء…".
فـ(الصلعاء) هي الداهية الشديدة، وأصلها من الصَّلَع، وهو سقوط شعر مقدم الرأس وظهور جلدة الرأس، فيكون الرأس مكشوفاً ليس عليه ما يغطيه. أي أن الأمر الذي جئتم بها، هو أمرٌ شديدٌ ومهولٌ وهو جريمةٌ مكشوفة لا يمكن سترها بشيء.
و(العنقاء) من عُنُق، وعُنُق الشيء هي بدايته، كما يقال للطويلة المرتفعة عنقاء. أي أن جريمتكم هذه إنما هي بداية أمرٍ عظيم له من الامتداد ما له، فلا ينتهي بما اقترفت أيديكم من سفك دم الحسين وأهل بيت النبوة وخيرة الأصحاب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بل هي سلسلة الجرائم والويلات التي ستشهدها أمة محمد (ص).
و(السوداء) من السواد، وهو إما الظلام الذي يحل بكم وبالأمة جراء هذا الفعل الشنيع، أو العار الذي لحق بكم بقتلكم ابن بنت نبيكم (ص)، إذ يقال لمن ركبه العار اسْوَدَّ وجهه، أو أسود الوجه.
و(الفقماء) المِعوَجَّة المخالفة، فيقال لمن كانت ثناياه العليا غير مستقيمة ومعوجة إلى الخارج فلا تقع على السفلى (أفقم). أي أن جريمتكم هذه قد خرجت عن صراط الفطرة السليمة للإنسان السوي، وخالفتم بها دين الحق وانحرفتم عنه إلى الباطل.
و(الخرقاء) هي التي لا تأبه بعواقب الأمور، ويقال ريحٌ خرقاء أي شديدة الهبوب لا تدوم على جهة هبوبها، والناقة الخرقاء التي لا تتعهد مواضع قوائمها، ويقال للأحمق أخرق لأنه لا يُعمل فكره ويفعل أموراً لا يحسب عواقبها. ويقال في المثل "لا تعدَم خرقاء عِلَّة" وهو مثلٌ يُضرب لمن لا يُحسن العمل فيختلق الأعذار الكاذبة. أي أنكم اقترفتم هذه الجريمة الحمقاء وسيكون وبالها عليكم شديداً لا تتمكنون من صده أو معالجته، وستجركم من إثمٍ إلى إثم، ومن مصيبة إلى مصيبة.
و(الشوهاء) القبيحة، فيقال شَوَّه وجهه أي أحدث فيه خدوشاً فصار قبيح المنظر. أي أن فعلكم هذا إنما قبَّح وجوهكم وألبسكم العار والشنار، والشنار هو الأمر المشهورُ بالشُّنْعَةِ والقُبْح.
و(طِلاع الأرض)، الطِلاع (بكسر الطاء) هو ما طلعت عليه الشمس، وطِلاع الشيء أي مِلؤُه.
و(ملاء السماء)، المِلاء (بكسر الميم) جمع ملآن، والمُلاء (بضم الميم) جمع ملاءة وهي والغطاء الذي يعم الشيء الذي يغطيه.
فالمعنى من قولها عليها السلام (كطلاع الأرض وملاء السماء) هو أن حجم هذه الجريمة التي جئتم بها أكبر من سعة الأرض والسماء، أي أنها جريمة أكبر مما تتصورون.
وبضم هذه المضامين مع بعضها، نجد أن تشخيصها عليها السلام لهذه الجريمة بأنها جريمة مكشوفة قبيحة لا يمكن سترها جئتم بها لانحرافكم عن الصراط المستقيم وعن دين محمد (ص) فقبُحت بها وجوهكم، ولم تحسبوا عواقبها فتصورتم بحماقتكم أنها تنتهي بقتل الحسين ومن معه، لكنكم بهذا الفعل قد أسستم لبلاء عظيم ليس يحدُّه حد ولا تتصور عقولكم مداه زماناً ومكاناً، يكون وباله عليكم وعلى من يلي بعدكم، فما تنتقلون به من إثم ومصيبة إلا ووقعتم في إثم غيره، لا تملكون صدَّه وتجنُّب أثره عليكم.
لذا، نجدها عليها السلام قبل هذا التشخيص الدقيق، والذي يؤكده الواقع الذي تعيشه الأمة إلى اليوم، بعد مضي قرابة ألف وأربعمائة سنة من هذه الجريمة التأريخية، قد قدَّمت له بالقول: "إي والله فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلا، فلقد فزتم بعارها وشنارها، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا"، وأعقبته بتحدِّيها لقاتل الحسين عليه السلام في مجلسه "…ثُمَّ كِدْ كَيْدَكَ وَاجْهَدْ جُهْدَكَ، فَوَ الَّذِي شَرَّفَنَا بِالْوَحْيِ وَالْكِتَابِ وَالنُّبُوَّةِ وَالِانْتِجَابِ لَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا وَلَا تَبْلُغُ غَايَتَنَا، وَلَا تَمْحُو ذِكْرَنَا وَلَا تَرْحَضُ عَنْكَ عَارُنَا…".
السلام عليك يا أبا عبدالله، وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائك، وأناخت برحلك، عليكم مني سلام الله أبداً ما بقيتُ وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم أهل البيت. السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
السلام عليكِ يا سيدتي ومولاتي يا زينب الكبرى، أيتها الصابرة المحتسبة، السلام عليكِ وعلى القلوب الحرَّى المفجوعة، والمتون المجلودة بالسياط، السلام على الأطفال العطشى والأحشاء المتلظية من العطش، السلام عليكِ وعلى أمِّك الصديقة الطاهرة، وأخيك المسموم، وأبنائك المستشهدين بين يدي الحسين، وأبيك المغصوب حقه.
السلام عليك يا مولاي يا رسول الله، يا من لم ترعَ أمَّتُه حرمته، ولم تفِ بعهده، ولم ترحم أهل بيته، وفَجعته في أحبائه، واعتلت كرسيه على أجسادهم الطاهرة المطهرة.
اللهم ثبتنا على ولاية الطاهرين، واهدنا سواء السبيل، وأحسن خواتيم أعمالنا إلى خير ما تحب وترضى، إنك أنت السميع المجيب، وصلي يا رب وزد وبارك على محمد وآله الطاهرين وارزقنا في الدنيا ولايتهم، وفي الآخرة شفاعتهم وتوفنا على هذا العهد برحمتك يا أرحم الراحمين.