بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، لا دافع لحكمه وقضائه، ولا رادّ لإيجاده وتقديره وإمضائه، وله الشكر على نعمائه وآلائه فيما له ابتدائه إلى انتهائه، والصلاة والسلام على من جعلهم شهودًا على خلقه في أرضه وسمائه، وجعل لهم مواريث رسله وأنبيائه؛ محمد وآله زبدة أصفيائه.
لقد كثر الكلام بين الأعلام في المراد من قطعية الكتب الأربعة عند بعض الأخبارية رضوان الله تعالى عليهم، فقال بعض الأصوليين: أن دعوى كل ما ورد في الكتب الأربعة مقطوع الصدور عن المعصوم دعوى من غير دليل ولا يمكن أن نقول ذلك.
والسؤال هنا: ما المراد بالقطعية في نظر هؤلاء الأعلم كالاسترابادي كما نقل في الفوائد المدنية، والحر العملي كما ذكر في تحرير الوسائل، أو كالمحقق البحراني؟ وهل معنى القطعية هو العلم الجازم المطابق للواقع؛ أي العلم المنطقي، أو لا؟
ويقع بيان ذلك في مقدمة نشرح فيها معنى العلم، ونذكر بعد ذلك ما ذكره الشيخ عبد علي بن الشيخ خلف بن الشيخ عبد علي بن الشيخ حسين العصفور أعلى الله في الفردوس مقامة، وكلام السيد نعمة الله الجزائري، وقول ملا ميرزا الشيرواني وهو أحد أعلام الأخبارية وتلميذ محمد تقي المجلسي.
وبيان ذلك: أنَّ العلم في اللغة- تارة يطلق ويُراد به الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع؛ كعلمنا بوجود العَالَم، ويقال له اليقين-، وعلوم الأنبياء والأوصياء من هذا القبيل، وهذا لا تناقض فيه، وتارة يراد به ما تصدق بصحّته النفس، وتطمئنّ به عادةً بحيث لا يكون لها تردد. وإنْ جوّز العقل له النقيض بالنظر إلى الإمكان الذاتي.
ويحصل هذا العلم: أمّا بتواتر، أو بقرائن جليّة منها خبر الثقة الضابط المتحرز عن الكذب، بل وغير الثقة إذا علم صدقه بقرائن خارجة، إذا علم من حالة أنَّه لا يكذب، كما لو أخبر إنسانًا خادمٌ له عَرَفَه بالصدق بموت أحد أحبَّته، فإنَّه لا ريب أنَّه يذعن إلى خبره ويتأثر منه، خصوصًا إذا انضم إلى خبره أمارات الموت العاديَّة من الصراخ، وخروج المخدرات من نسائه، فلا شك أنَّه يحصل عنده من خبره حالة توجب بالجزم والقطع، حتّى أنَّه يعتريه الحزن ويفاجئه البكاء، وليس له ضابط يحصره، بل مداره على ما يحصل به التصديق للنفس والجزم، فربما أفاد اليقين عند قومٍ، وما يقرب من الظن الغالب عند آخرين، ولا ينافي هذا الجزم تجويز العقل خلافه بحسب إمكانه، إذ لو غير في حقيقة العلم عدم تجويز النقيض لم يتحقق لنا علم قط وهذا ما يسمى بالعلم المنطقي.
وقال العالم الفقيه الورع الشيخ عبد علي بن خلف العصفور: "اعلم أنَّ للعلم إطلاقات؛ فتارة يطلق ويراد به الصورة الحاصلة في الذهن، ثُمَّ إنْ كان إذعانًا وقبولًا لنسبة يسمى تصديقًا، وإلا فالتصور والتصديق. إنْ كانا مع تجويز نقيضه سمَّيناه ظنًا، وإلا جزمًا واعتقادًا، والجزم إنْ لم يكن مطابقًا للواقع سمي جهلًا مركبًا، وإنْ كان مطابقًا له فإن كان ثابتاً ممتنع الزوال بالتشكيك سمي يقيناً، وإلا تقليداً، ويطلق تارة ويراد اليقين فقط، ويطلق ويراد به ما يتناول اليقين والتصور معًا بدليل تقسيمه إليهما، ومن العلم بأنَّه صفة يوجب بحلها، وهي النفس الناطقة تميزًا، فقولهم: صفة وهي ما يقوم بغيره بتناول العلم وغيره وقولهم: توجب بمحلها تميزا أرى توجب بمحلها وهي نفس تميز بشيء آخر يخرج الصفات التي توجب محلها تميزا عن غيره فقط، وهو ما سوى الإدراكات، فإنَّ القدرة مثلا توجب امتياز محلها عن العاجز، ولا توجب التميز بشيء آخر بخلاف العلم، وقولهم: لا يحتمل متعلق التميز نقيضه يخرج به الإدراكات التي يحتمل كالظنّ والجهل المركب والتقليد.
وأمَّا الظن: فهو الاعتقاد الراجح الذي لا جزم معه أصلاً. هذا في اللغة وهي الأصل في تعيين الألفاظ لمعانيها، وهذا المعنى من العلم هو الذي كلّف الشارع العمل بمقتضاه في جميع الأعصار.
وأمَّا كون العلم بمعنى اليقين وتخصيصه به فذلك اصطلاح منطقي حادث، وإنْ سمّيته ظنَّا فلا مشاحة في الاصطلاح بعد ما عرفت معناه والمراد منه.
فإنْ قلت: ما تصنع بالآيات والأخبار الدالَّة على النهي عن العمل بالظَّنّ مطلقاً أصولاً وفروعاً.
قلنا: إنَّا نفرق بين إثبات الحكم وبين العلم وثبوته، فإنَّ إثبات الحكم، ووضعه، والتعبّد به فهو خاص بمن لا ينطق عن الهوى، فلا يكون إلاّ عن يقين ووحي يوحى. وهذه الأخبار والآيات الناهية والمحذرة عن اتباع الظَّنّ موردها من يقول في دين الله بعقله ورأيه، من دون وحي إلهي أو نص محكم". انتهى كلامه زيد إكرامه.
وقد عَرَّف السيد نعمة الله الجزائري العلم ونقل عن ملا ميرزا الشيرواني في بيان العلم، قال: "وأمَّا العلم الذي هو المعتمد: هو العلم العادي القريب من الظنّ أي ما يستفاد منه بثبوت الأحكام وصدورها من خطاب الشَّارع، وكلام حجج الله أهل العصمة وما يجبُ العمل به، فيكفي فيه النقل، واستفادة الحكم منه بحيث تطمئن النفس إلى صدقه وثبوته، ولسنا مكلَّفين بأزيد من ذلك، وهذا هو الحق الحقيق بالاتِّباع لمن جانب العصبية الغالبة، وهي من سيئات الأطباع".
وهذا القول هو القول الحقيق الذي قد نقل عن ملا ميرزا الشيرواني، ولم ينقل الناقل في أي كتاب قد نقل عنه هذا القول ولا يبعد بأن السيد رضوان الله تعالى عليه كان بين يديه كتاب أو أنّه سمع ممن سمع عنه ذلك والله العلم.
وملا ميرزا الشيرواني غنيّ عن التعريف حيثُ قيل فيه:
1- قال الشيخ محمد علي الأردبيلي في كتابه جامع الرواة: "… العلامة المحقق المدقق الرضى الزكي الفاضل الكامل المتبحر في العلوم كلها دقيق الفطنة كثير الحفظ وأمره في جلالة قدره وعظم شانه وسمو رتبته وتبحره وكثرة حفظه ودقة نظره وإصابة رأيه وحدسه…".
2- قال المجلسي في كتابه بحار الأنوار ج102: "عمدة المحققين وقدوة المدققين المولى الميرزا محمد بن الحسن الشيرواني الشهير بملا ميرزا، المدقق المعروف، كان من أكابر الأفاضل وأعيان العلماء".
3- قال الخوانساري في كتابه روضات الجنات ص643: "… من أفاضل أواخر دولة السلاطين الصفوية، ماهرا في الأصولين، والمنطق، والطبيعي، والفقه، والحديث، وغيرها، واحداً في قوة الجدل والمناظرة…".
وبعد أن بينا المراد من القطعية بالعلم العادي، نريد أن نبين لطالب الحقّ معنى صحة الكتب الأربعة كما هو مبنى الشيخ مسلم الداوري أطال الله في عمره، وكما يُعرف من قبل الرجاليين.
صحة الكتب بمعنى: أن كل رواة الكتب الأربعة ثقات في نظر القائل أو أن روايتهم- أي الرواة في سلسة سند كل رواية في هذه الكتب- معمول بها عند الأصحاب في التصحيح مع ضعف.
وأمّا في دعوى القطعية لا يخفى على من نظر في خاتمة المستدرك للشيخ النوري، وهو أحد اقطاب المدرسة الأصولية، حيثُ إنّه يذهب إلى أن كل ما ورد في الكتب الأربعة عند المحمديين الثلاثة قطعي الصدور عن المعصوم على نحو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.
وأيضاً: يمكن أن نفهم من كلام قطب الملة والدين الشيخ حسين النائيني؛ وهو أستاذ الأصوليين عندما قال: إن المناقشة في اسانيد روايات الكافي حرفة العاجز.
إذا قلت: بأن الشيخ يذهب إلى الصحّة.
نقول: لو أنّه لم يقل بالنظر في الأسانيد لقلنا ما تدعونه صحيح، ولكنه لم يذكر ذلك، بل قال: من ينظر إلى أسانيد هذا الكتاب يكون كالعاجز لا عمل له.
ومن هنا يجبُ أن نعلم بأن بعض الأعلام من المعاصرين لا يذهب إلى صحة الكتب الأربعة فقط، بل زاد على ذلك كل كتب الشيخ الصدوق، وهي كما ترى عشرات الكتب، ونجد في كل كتاب يذكر الشيخ الصدوق ديباجة من أين أتى بهذه الروايات وكيف يعول عليه ويرجع لها.
وقد قال الشيخ الصدوق في ديباجته: وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول وإليها المرجع. ككتاب حريز، وغيره.
وقال الشيخ الكليني: ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام والسنن القائمة التي عليه العمل.
والشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليه يذكر في كتاب الاستبصار كلامًا طويلًا، ملخصه: أن أحاديث أصحابنا مشهورة وبينها على ثلاثة أقسام. ثم يذكر الأقسام منها ما يكون الخبر متواترًا. ومنها ما يكون مقترنًا بقرينة موجبة للقطع بمضمون الخبر- وهذا يشمل التواتر المعنوي والخبر المحفوف بقرينة قطعية- ومنها ما لا يكون هذا ولا ذاك- وهذا يكون ظنيًا- ولكن دلت القرائن على وجوب العمل به. والقسم الثالث ينقسم إلى تفريعات كثيرة.
وما نقله صاحب الوسائل كلامًا من كلام الشيخ الطوسي: أن كل حديث عمل به في التهذيب والاستبصار فهو مأخوذ من الأصول والكتب المعتمدة وقد صرح في كتاب العدة؛ بأنّه لا يجوز العمل بالاجتهاد، ولا بالظن في الشريعة.. إلى آخر ما جاء في كلامه أعلى الله في الفردوس مقامه.
وقد ذكرنا في بداية البحث في ما جاء في كلام الشيخ عبد علي بن الخلف حيثُ قال: أنَّا نفرق بين إثبات الحكم وبين العلم وثبوته، فإنَّ إثبات الحكم ووضعه والتعبّد به فهو خاص بمن لا ينطق عن الهوى، فلا يكون إلاّ عن يقين ووحي يوحى. وهذه الأخبار والآيات الناهية والمحذرة عن اتباع الظَّنّ موردها من يقول في دین الله بعقله ورأيه، من دون وحي إلهي أو نص محكم.
وبعد أنّ نقلنا لكم الحق الحقيق بالاتباع لم يبق لمن يدعي ويرمي الأخبارية من أنّهم يقولون بالقطعية على نحو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بلا حق بأن المراد بمصطلح القطعية عندهم هو ما نقلناه وأوضحناه بأنّهم ذكروا بصحّة ما ورد في كتبهم رضوان الله تعالى عليهم، بل ما نقله الشيخ في كتابه العدة وكذلك الاستبصار عندما قسم الروايات إلى ثلاثة أقسام وبالنظر إلى تلك الأقسام يتضح لنا أن توجد روايات يقطعون بصدورها وروايات يعتقدون بصحتها وروايات يعملون عليها وأن كانت ظنية في صدورها عن المعصوم. وبذلك على كل من قال ذلك أنْ يراجع أولاً قول الأصوليين وما يذهبون إليه من معنى القطعية عندهم، بل ما نقلناه عن الملا ميرزا يدل على أنّ المراد بالقطعية عند الأخبارية لا يطابق في القول بما نقله بعض الأعلام عن الأخبارية كالشيخ الأعظم في رسائلة، ومن قبله الشيخ كاشف الغطاء، بل يظهر لك بأن أول من فصل وشرح معنى القطعية عند الأخبارية هو الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية، وتبعه بعد ذلك جل الأعلام دون الرجوع إلى المدرسة الأخبارية في شرح القطعية عندهم، وهذا كما ترى ليس قدحًا أو ذمًا فيهم، ولكن السؤال الذي يصل إلى ذهن كل منصف: لماذا هؤلاء الأعلام لم يبحثوا في معنى القطعية في كلام المدرسة الأخبارية من دون الاعتماد على شرح الشيخ؟
الجواب على ذلك ربما؛ لأنّهم رضوان الله تعالى عليهم اعتمدوا على فهم وقول فقيه بارع ومدقق ومحقق، وكأنّه قد كفاهم المؤنة لذلك فلم يبذلوا الجهد في المسألة، أو ربما لعدم توافر الكتب عندهم، وانتشار هذه الكتب لمسافات طويلة يصعب الوصول إليها، أو أن هذه الكتب التي تبين المراد عند الأخبارية قليلة ومنحصرة بفرد عند البعض، وبذلك يصعب الوصول إليها والله العالم.
ونسأل الله العلي العظيم أن نكون قد توفقنا في بيان ما أردنا بيانه لكم، وبذلك رفعنا عنكم الحجب في هذه المسألة وأضئنا لكم الطريق لكي نوصلكم إلى طريق الفلاح والرشاد.
بقلم: الشيخ محمد مهدي العصفور.