مقدمة
بالنظر في كلمات الأعلام فإنّا نجدهم يكررون عبارة يبنون عليها بعض النتائج الفقهية وهذه العبارة هي قولهم (لو كان لبان) فمن خلال تعاملهم معها يُعلم بأنّها قاعدة من القواعد الفقهية في نظرهم فهي وإن لم تحرر إلا أنّه يمكن البحث عنها في كلماتهم وتقعيدها مع ذكر تطبيقات لها، وهذا ما يراد بحثه في هذه الوريقات.
من المصادر التي احتوت على هذه القاعدة نذكرها بالترتيب الزمني وبمراعاة للأقدم:
1/ كتاب الجواهر للشيخ محمد حسن النجفي (ت 1266ﻫ) في مورد واحد وهو في باب الإرث عند حديثه عن حكم توريث الغائب فكان مما قال: "بل يمكن مع فعل ذلك وإرسال الرسل إلى جميع الأطراف ـ التي هي مظنة وجوده فلم يوقف له على أثر وخبر - يعلم موته، إذ لو كان لبان"[1].
2/ وكذا في حاشية المكاسب للسيد محمد كاظم اليزدي (ت 1337ﻫ) عند حديثه عن بيان أدلّة المعاطاة "مضافا إلى خلو النصوص على كثرتها عن ذلك مع أنّه لو كان لبان إلا أنّ الاحتياط لا ينبغي تركه"[2].
3/ وكذا في التعليقة على المكاسب للسيد عبد الحسين اللاري (ت 1342ﻫ) عند حديثه عن السحر فقال: "مضافاً إلى أنّ هذا القسم من السحر لو كان لبان بأكثر بيان من سائر أقسامه المبيّنة في أزماننا"[3].
4/ وكذا في تحرير المجلة للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1373ﻫ) في حديثه عن عدم صحّة تقسيم الدين فقال: "لو فقد الدائن اجتهد المديون في طلبه فإن وجده وإلا فإن حصل اليقين بموته ولو حسب العادة بعدم بقائه واختفى خبره في تلك المدة وأنه لو كان لبان دفع الدين لورثته وإن لم يكونوا أو تعسر، دَفَعَه إلى حاكم الشرع"[4]
5/ وكذا في القواعد الفقهية للسيد البجنوردي (ت 1396ﻫ) خلال عرضه لقاعدة التقية فقال: "وأما ادعاء أنهم سألوا، ولكن لم يصل إلينا فقول بلا دليل، بل لو كان لبان كسائر القضايا والأحكام"[5].
ومن ثم جاء ذكر هذه القاعدة في كلمات جملة من العلماء أمثال: والشيخ ضياء الدين العراقي[6]، والسيد البروجردي[7]، والسيد محسن الحكيم في مستمسكه[8]، والشيخ محمد تقي الآملي في مصباحه[9]، والسيد المرعشي في القول الرشيد[10]، والسيد الخوئي في موسوعته[11]، وغيرهم.
ومن هذا نعرف أنّ هذه القاعدة ليس لها أثر في كلمات القدماء من علمائنا الأجلاء، بل هي متناثرة في طيّات بحوث العلماء المتأخرين حتى يومنا هذا.
وهنا نقاط:
1/ معنى القاعدة:
المراد من القاعدة على نحو الإجمال: هو أنّ موضوعاً ما قد يكون في معرض الابتلاء ولا يذكر حكمه الإلزامي فإنّ هذه القاعدة تفيد نفي هذا الحكم، ومثله في الموضوعات. فلو ادّعي وجود حكم إلزامي ولم يرد عليه دليل -والحال أنّ مثله لكثرة الابتلاء به لا بد من أن يوجد دليل له- أمكن الاستناد إلى هذه القاعدة والقول بأنّه لو كان هناك حكم أو خبر مع الابتلاء به لبان، بل قد نصرف النظر عن حكم إلزاميّ -مستظهر من نصٍّ ما- بهذه القاعدة، ولا يقف عند الأحكام، بل يشمل الموضوعات أيضاً كما لو فقد الغائب وشُكّ في موته فإنّ أمواله لا تقسّم ولا تدفع الديون إلى ورثته ما لم يعلم موته ولو بناء على هذه القاعدة فيما لو كان مثله لا يعيش إلى هذا العمر، فيقال لو كان حيّاً لبان وظهر.
ومن هذا يظهر المراد من ألفاظ هذه القاعدة، فكلمة (كان) يراد بها كان التامّة التي بمعنى وجد، وكلمة (بان) أي ظهر، فلو وجد المدّعى لظهر لنا.
وباتت تُعرف هذه القاعدة بالدليل الخامس عند بعض العلماء[12].
2/ فائدتها ومجراها:
مما تقدّم في تعريفها تتضح فائدتها أنّها لا نتحصر في النفي فحسب، بل تنفع في الإثبات[13]؛ فلو شككت بحرمة شيء مثلاً وكان هذا الشيء المشكوك مورد ابتلاء فتأتي هذه القاعدة فتنفي الحرمة وتقول بأنّ هذا المورد مع كثرة البلوى به لا يوجد حكم في شأنه لأنّه لو كان لبان. ومجرى القاعدة يكون في الأحكام والموضوعات كما سيتّضح في التطبيقات.
3/ مدرك القاعدة:
يمكن إثباتها بأدلّة ثلاثة:
الأول: القطع
"إنّ مدرك القاعدة المذكورة هو القطع أو الاطمئنان، فإذا لاحظ الفقيه مسألة الاستعاذة قبل قراءة القرآن وقال إنّ هذه مسألة مشهورة وابتلائيّة فلو كان يجب الاستعاذة لاشتهر هذا الحكم والحال أنَّ المشهور بين الفقهاء هو عدم الوجوب [الاستحباب]، إنّه آنذاك يتولّد لديه اطمئنانٌ أو قطعٌ بعدم الوجوب وبالتالي يفتي بعدم الوجوب -أي بالاستحباب- لأجل هذا الاطمئنان أو القطع، فالحجية تعود بالتالي إلى هذا الاطمئنان أو القطع وإلا فهذه القاعدة لا قيمة لها لولا حصول الاطمئنان أو اليقين للفقيه"[14].
الثاني: سيرة المتشرّعة
استقرار سيرة المتشرّعة على مضمون هذه القاعدة إذ لم يعهد عنهم الفحص عن بيان شرعي فيما هو مورد ابتلاء لهم مع سكوت المعصوم العالم بكثرة البلوى في هذه المسألة أو تلك.
اللهم إلا أن يحتمل أنّ سيرتهم وتبانيهم كان من حيث إنّهم عقلاء فلا تكون سيرة المتشرّعة دليلاً برأسه في مقابل الدليل الثالث.
الثالث: كونها أمارة ممضاة
الظهور كان حجّة ببركة البناء العقلائي على حجّيته، وفي قوة الظهور ما نحن فيه من اشتهار البلوى في المسألة التي لم يرد فيها روايات أو وردت قليلة بحيث لا ترقى لمستوى درجة الابتلاء فيتبانى العقلاء عليها والعمل على وفقها فصارت "أمارة عقلائية أمضاها الشارع بسكوته وعدم ردعه عنها"[15] مثلها مثل خبر الثقة.
4/ تطبيقات
وهنا نذكر جملة من التطبيقات على هذه القاعدة:
1/ رفع الأحكام الإلزامية وإثبات الأحكام الترخيصية
وهذا القسم هو الأكثر لموارد القاعدة.
إثبات استحباب الاستعاذة بدلاً من وجوبها[16]:
بالاستناد إلى قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[17] نستظهر الوجوب من فعل الأمر (فاستعذ)، إلا أنّا لا نرى رواية يستفاد منها الوجوب، بل ولا فتاوى الفقهاء. بل عملهم على عدم الإلزام بالاستعاذة، والحال أنّ هذا الأمر من الأمور الابتلائية من زمن النبي| وكثرة اعتنائهم بالقرآن تلاوة وحفظاً مما لا يكاد يخفى. فلذا نستورد القاعدة في المقام لرفع اليد عن الحكم بوجوب الاستعاذة كي نقول باستحبابها؛ إذ لو كان حكمٌ بالوجوب لكان، فالآية عندئذٍ ناظرة إلى الاستحباب.
وكذا في نفي وجوب إخراج الزكاة من غلّات الصبيّ فإنّ "الزكاة من مباني الإسلام فهو مما لو كان لبان"[18].
ونفي وجوب غسل التوبة فهو وإن كانت رواية في البين إلا أنّ فيها شاهد يستند عليه لنفي هذا الوجوب، ولكن "بدون هذا الشاهد يكفي لدفع وجوب الغسل ما يعرف بالدليل الخامس، وأنّه لو كان لبان"[19].
ونفي وجوب التفريج بين الرجلين عن ما يزيد عن الشبر مع وجود رواية في المقام إلا أنّها مشتملة على الكثير من المستحبات فلا يحتمل أن تكون دالة على الوجوب في خصوص التفريج، وعمدة الدليل على نفي الوجوب هو هذه القاعدة كما ذهب إلى ذلك السيد الخوئي حيث قال: "أمّا ثانياً: وهو العمدة أنّا لا نحتمل الوجوب في مثل هذه المسألة العامة البلوى الكثيرة الدوران، إذ لو كان لبان وشاع وذاع وكان من الواضحات، كيف وقد ذهب المشهور إلى خلافه، ولم ينسب الوجوب إلَّا إلى المفيد والصدوق"[20].
2/ نفي البراءة وإثبات اللزوم
كما لو غاب أحدهم عن داره وحكم بموته فهل توزّع ترتكته وتدفع داره إلى ورثته الحاضرين في المنزل أم يلزم على الحاكم أن يبحث عن ورثة آخرين قبل دفع الدار إلى الورثة الحاضرين؟ كان الجواب أنّه يصار إلى البيّنة فإن وجدت بيّنة كاملة[21] على عدم وجود وارث غيرهم فبها، وإلا لزم على الحاكم أن يستقصي الوارث حتى ييأس أو يظفر به في مضانّه فيقال: "إن كانت البينة كامله دفعت الدار إلى ذي الحق، ولو لم تكن كاملة أرجئ تسليم الدار حتى يبحث الحاكم عن الوارث مستقصيا بحيث لو كان لبان"[22].
3/ إثبات حجية سيرة العقلاء
حيث إنّه في كلّ مورد تذكر فيه السيرة العقلائيّة فإنّ الاستدلال على حجّيتها يكون عن طريق إمضاء الشارع لها وعدم الردع عن العمل بها -كما هو الحال في كثير من الأحكام- ويرجع السبب في ذلك إلى أنّه لو كان هناك ردع ٌ من الشارع لبان.
4/ إثبات الموضوعات
ومن الشواهد على ذلك اعتبار البينة في جميع الموضوعات وعدم الاقتصار على خصوص الخصومات، بل تشمل مثل إثبات النجاسة وما شاكل. بالاستدلال على ذلك بهذه القاعدة بالبيان التالي: بأن يقال بأنّ البينة "طريق تعبّدي شرعي لم يلغها الشارع في شيء من مواردها... وأما نفي اعتبارها رأساً فلم يعهد في الشرعيات" فلو كان للشارع تخصيص لحجيّتها في بعض الموارد لبان[23].
5/ نفي بعض الأحكام الأصولية
ومن ثمار هذه القاعدة ما يستفاد منها في عدد من العلوم كعلم أصول الفقه كما في:
- الجزم بنفي الوضع التعييني من الشارع بمعنى "أن يعيّن الشارع في زمان من الأزمنة هذه المعاني لهذه الألفاظ بأن يقول: (وضعت لفظ الصلاة لكذا، والصوم لكذا) وهكذا. والوضع التعييني بهذا المعنى مقطوع العدم، إذ لو كان لبان، وصار كالعيان، لتوفّر الدواعي إلى نقله"[24].
- وكذا الجزم بنفي تخصيص الكتاب بخبر الواحد لأنّ هذا من صغريات القاعدة "أنّ الإجماع قد قام من الخاصة والعامة على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد، وهذا الإجماع ليس إجماعاً تعبدياً، بل هو من صغريات الكبرى المسلّمة وهي أنّ الشيء الفلاني من جهة كثرة ابتلاء الناس به لو كان لبان واشتهر، ولكنّه لم يشتهر فيكشف عدم وجوده"[25].
إشكال:
ما الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة (عدم الدليل دليل العدم)؟
الجواب: قاعدة عدم الدليل دليل العدم -بناء على اعتبارها من خلال حديث رفع عن أمتي ما لا يعلمون ونحوه- فإنّها بمثابة البراءة حيث تنفي الحكم اللزومي. أما قاعدتنا هذه فهي لا تقتصر على النفي، بل تشمل الإثبات ولا تقف على الأحكام، بل تشمل الموضوعات كما اتضح من خلال التطبيقات. وهذا لا يعني عدم إمكان أن تتفق نتيجة القاعدتين في بعض الأحيان كما يظهر في بعض الموارد[26].
وكذا ما الفرق بينها وبين استصحاب العدم؟
الجواب: مضافاً لما سبق. إنّ القاعدة تجري في مورد لا يجري فيه استصحاب العدم كما إذا كان الدالّ على الحكم اللزومي الذي موضوعه عامّ البلوى ولم ترد فيه إلا رواية واحدة وكانت معتبرة، فتجري القاعدة لنفي الحكم ولا يجري استصحاب العدم.
..................................................................
[1] - جواهر الكلام، الشيخ الجواهري، ج39، ص68.
[2] - حاشية المكاسب، السيد اليزدي، ج1، ص74.
[3] - التعليقة على المكاسب، السيد عبد الحسين اللاري، ج1، ص145.
[4] - تحرير المجلّة، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، ج5، ص56.
[5] - القواعد الفقهية، السيد البجنوردي، ج5، ص64.
[6] - مقالات الأصول، آقا ضياء العراقي، ج1، ص133.
[7] - نهاية الأفكار، تقرير بحث آقا ضياء البروجردي، ج3، ص168.
[8] - مستمسك العروة، السيد محسن الحكيم، ج2، ص281.
[9] - مصباح الهدى في شرح عروة الوثقى، الشيخ محمد تقي الآملي، ج4، ص186.
[10] - القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد، السيد المرعشي، ج1، ص214، وفي ص365.
[11] - شرح العروة الوثقى، السيد الخوئي، ج9، ص20، وفي ج14، ص192، وفي ج21، ص418، وفي ج23، ص57، وفي ج24، ص248.
[12] - السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (قدس سره) حيث ذكر ذلك في الموسوعة في أربعة مواضع: الأول: ج8، ص97، الثاني: ج11، ص22، الثالث: ج12، ص436، الرابع: ج20، ص91.
[13] - سيأتي في بعض التطبيقات.
[14] - بحث الخارج في الأصول للشيخ الأيرواني المؤرخ بـ26- 5- 36.
[15] - مجموع الرسائل الفقهية، الشيخ علي فاضل الصددي، هامش 2، ص516.
[16] - مستفاد من بحث الخارج في الأصول للشيخ الأيرواني المؤرخ بـ25- 5- 36.
[17] - سورة النحل: 98.
[18] - شرح العروة الوثقى، ج23، ص57 (موسوعة الإمام الخوئي).
[19] - مجموع الرسائل الفقهية، الشيخ علي الصددي، ص516.
[20] - شرح العروة الوثقى، ج14، ص192 (موسوعة الإمام الخوئي).
[21] - يراد بها إضافة إلى وصف العدالة أن يكون الشاهدان خبيران عارفان.
[22] - كتاب القضاء، السيد الكلبيكاني، ج2، ص264.
[23] - القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد، السيد المرعشي، ج1، ص365. (بتصرّف)
[24] - الهداية في الأصول، تقرير بحث السيد الخوئي للشيخ حسن الصافي، ج1، ص76.
[25] - محاضرات في أصول الفقه، ج46، ص474. (موسوعة الإمام الخوئي).
[26] - شرح العروة الوثقى، ج21، ص418. (موسوعة الإمام الخوئي).