روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: {وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى}.
نلاحظ أن من اتبع الدعاوى المنحرفة على صنفين:
الصنف الأول: من اتبعها بسبب الاشتباه والغفلة.
الصنف الثاني: من اتبعها لأجل المصالح الشخصية الدنيوية.
أما الصنف الأول فالرواية التي ذكرناها أشارت إلى الأسباب التي تؤدي للاشتباه والغفلة، ولا بأس بالإشارة إليها بشيء من التفصيل:
السبب الأول: مزج الباطل بالحق:
فإنك لو لاحظت الدعاوى الباطلة والمنحرفة فإنها لا تجيء بالباطل المحض لأن النفوس ترده وتستهجنه، بل لابد من مزجه بشيء من الحق وإبرازه بقالب يشبه الحق لكي تتقبله النفوس، وبالتالي يستعين بالدين ليأخذ جزئية معينة منه ويمزجها بالباطل الذي يريد إفشاءه، فأعداء الحجاب مثلا لا يستطيعوا أن يقولوا للناس بأنهم يرفضون ما في القرآن الكريم أو ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله) لأن هذا القول سينقص من رصيدهم الجماهيري، بل سيستعينوا بجزئيات معينة في القرآن الكريم وأقوال معينة في الأحاديث الشريفة ليجعلوها غطاء لعدم أهمية الحجاب مثل الاعتماد على النصوص التي تقول بأن الأخلاق أساس المجتمع وحينها لا أهمية للحجاب لأنه ليس بدرجة الأخلاق. ولو لاحظت الدعاوى الباطلة في كل الأزمنة وفي كل المجتمعات تجد أن ركيزتها الأساسية هي مزج الباطل بالحق، فلو رجعت إلى زمن الإمام الرضا (عليه السلام) لوجدت هناك فرقة تسمى (الواقفية) ادعت عدم إمامة الإمام الرضا وذلك لتضليلهم العوام من خلال التمسك بالنصوص الدينية القائلة بوجود إمام سيغيب وسيبعثه الله في آخر الزمان ليحيي الحق ويميت الباطل؛ ثم طبقوا تلك الروايات على الإمام الكاظم (عليه السلام) وامتنعوا عن الإقرار بالإمام الرضا (عليه السلام).
قال تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).
وروي عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: {خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: "أيها الناس، إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال رجالا، فلو أن الباطل خلص لم يخف على ذي حجى، ولو أن الحق خلص لم يكن اختلاف، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فيجيئان معا، فهنالك استحوذ الشيطان على أوليائه، ونجي الذين سبقت لهم من الله الحسنى"}.
السبب الثاني: الفتيا من غير علم:
ابتليت الطائفة الشيعية في السنوات الأخيرة بتصدي كل من هب ودب لتفسير الدين والخوض فيه من دون تخصص، لذا ترى أن البعض يروج أفكارا لشخصيات غير مقبولة في الحوزة العلمية ومراجعها الكرام وذلك بحجة أن كلامه مقنع ويوائم العقل، فلا مانع لدى البعض أن يؤمن بالسفارة في زمن الغيبة الكبرى أو بعدم صحة تقليد المراجع وغيرها من الشبهات وذلك لأن الأدلة التي وصلته - كمتلقي - أقنعته وجعلته يخرج عن الطريقة السليمة؛ خصوصا مع عدم قناعة هذا المتلقي لأهمية التخصص في الدين واقتناعه بأنه مؤهل للخوض والفهم والأخذ والرد في القضايا الدينية.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): {واردد إلى الله ورسوله ما يضلعك من الخطوب؛ ويشتبه عليك من الأمور؛ فقد قال الله تعالى لقوم أحب إرشادهم "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول" ...}.
السبب الثالث: فصل الناس عن علماءهم:
وهذا السبب يرتبط ارتباطا وثيقا بالسببين السابقين، فإن وظيفة العالم إظهار الحق ودحض الشبهة، كما وهو أهل الاختصاص في الدين، فلا تستقيم الدعوى الباطلة في محضر العالم، فأتت محاولات عديدة لفصل الناس عن العلماء عن طريق اتهامهم باستغلال الدين من أجل الأموال أو النساء؛ أو بتتبع عثرات بعضهم فتعمم على صنف العلماء، أو الاستعانة بقصص لا يعلم واقعيتها توهم المستمع أن العلماء هم سبب التخلف والتراجع، ولو دقق المستمع لوجد أن من يلقي عليه هذه الشبهات جلس في موضع العالم؛ فمن يرفض تقليد المراجع تتضمن دعواه هذه أنه هو البديل عن المراجع ويكون هو المرجع الذي يرجع له في تشخيص الحالات الدينية. ولو تدبرنا في قصص الأقوام التي حل عليها العذاب لوجدنا أن سبب عذابهم هو عدم الاستماع للعلماء واتباع الجهلاء الذين لا يعرف من تاريخهم شيء.
والحل الأنسب للمستمع إلى الشبهة هو عرضها على المؤتمن من علماء الطائفة والعدول منهم، ليسمع منه الرد عليها (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)، وأما من يستمع للشبهة ويقتنع بها من دون الرجوع لأهل الاختصاص فهو خلاف الموازين العقلائية في التعامل مع القضايا الفكرية، ناهيك عن كون هذا الأمر موجبا للعقاب الإلهي.
أما الصنف الثاني وهم من ابتدع أو اتبع الدعوى الباطلة لأجل الدنيا والمصالح والوجاهة وغيرها فلا ينفع معهم أي دليل ولا ينفع معهم العلم، ولكن نذكر لهم هذه الرواية من باب الموعظة:
روي عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) قال: {كان رجل في الزمن الأول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها، وطلبها من حرام فلم يقدر عليها، فأتاه الشيطان فقال له: "يا هذا إنك قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها وطلبتها من حرام فلم تقدر عليها أفلا أدلك على شيء تكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟" قال: "بلى" قال: "تبتدع دينا وتدعو إليه الناس". ففعل فاستجاب له الناس وأطاعوه وأصاب من الدنيا؛ ثم أنه فكر فقال: "ما صنعت؟ ابتدعت دينا ودعوت الناس ما أرى لي توبة إلا أن آتي من دعوته إليه فارده عنه"، فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه فيقول لهم : "إن الذي دعوتكم إليه باطل، وإنما ابتدعته" ، فجعلوا يقولون: "كذبت، وهو الحق ولكنك شككت في دينك فرجعت عنه" ، فلما رأى ذلك عمد إلى سلسلة فوتد لها وتدا ثم جعلها في عنقه، وقال: "لا أحلها حتى يتوب الله عز وجل علي" ، فأوحى الله (عز وجل) إلى نبي من الأنبياء قل لفلان: "وعزتي لو دعوتني حتى تنقطع أوصالك، ما استجبت لك، حتى ترد من مات إلى ما دعوته إليه فيرجع عنه"}.