أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّه فَاطِرِ الأَشْيَاءِ، خَلَقَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ، مُتَوَحِّداً بِذَلِكَ لإِظْهَارِ حِكْمَتِه وحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِه، لَا تَضْبِطُه الْعُقُولُ، ولَا تَبْلُغُه الأَوْهَامُ، ولَا تُدْرِكُه الأَبْصَارُ، ولَا يُحِيطُ بِه مِقْدَارٌ، احْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ، واسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ، عُرِفَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ، ووُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ، ونُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ، لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَحْدَه لَا شَرِيكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه، أَرْسَلَه بِالْهُدَى ودِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَه عَلَى الدِّينِ كُلِّه ولَوْ كَرِه الْمُشْرِكُونَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وآلِه.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، واعلموا عبادَ الله أنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ، فإِنَّمَا أَنْتُمْ فِيهَا كَرَكْبٍ -نزلوا- فأَنَاخُوا ثُمَّ اسْتَقَلُّوا فَغَدَوْا ورَاحُوا، دَخَلُوا خِفَافاً، ورَاحُوا خِفَافاً، لَمْ يَجِدُوا عَنْ مُضِيٍّ نُزُوعاً، ولَا إلى مَا تَرَكُوا رُجُوعاً، جُدَّ بِهِمْ فَجَدُّوا، ورَكَنُوا إلى الدُّنْيَا فَمَا اسْتَعَدُّوا، حَتَّى إِذَا أُخِذَ بِكَظَمِهِمْ، وخَلَصُوا إلى دَارِ قَوْمٍ جَفَّتْ أَقْلَامُهُمْ، لَمْ يَبْقَ مِنْ أَكْثَرِهِمْ خَبَرٌ ولَا أَثَرٌ، قَلَّ فِي الدُّنْيَا لَبْثُهُمْ وعُجِّلَ إلى الآخِرَةِ بَعْثُهُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ حُلُولاً فِي دِيَارِهِمْ ظَاعِنِينَ عَلَى آثَارِهِمْ، والْمَطَايَا بِكُمْ تَسِيرُ، سَيْراً مَا فِيه أَيْنٌ ولَا تَفْتِيرٌ، نَهَارُكُمْ بِأَنْفُسِكُمْ دَؤُوبٌ، ولَيْلُكُمْ بِأَرْوَاحِكُمْ ذَهُوبٌ، فَأَصْبَحْتُمْ تَحْكُونَ مِنْ حَالِهِمْ حَالاً، وتَحْتَذُونَ مِنْ مَسْلَكِهِمْ مِثَالاً.
أما بعدُ: فالحديثُ حولَ فضلِ صلاةِ الجماعةِ وهي من السُننِ المؤكَّدةِ التي ربَّما لا يكونُ مُجازفاً مَن ادَّعى انًّه لم تَحظَ سُنةٌ من سُننِ الرسولِ (ص) بما حظيتْ به هذه السُنّةُ من التأكيدِ، فهي مضافاً إلى ورودِ الأمر بها في القرآنِ الكريمِ، فقد وردَ الأمرُ بها والحضُّ عليها والتشديدُ على أهميَّةِ الالتزامِ بها في الكثيرِ الكثيرِ من الرواياتِ بما يفوق حدَّ التواتر، وبمضامينَ تُعبِّرُ عن عظيمِ فضلِها وجليلِ ثوابِها وتميُّزِها على الكثيرِ من السُننِ بنحو لولم يقُم الدليلُ القطعيُّ على عدمِ وجوبِها لكان مقتضى الظاهرِ من العديدِ من النصوصِ المُعتبرة هو البناءُ على كونِها من الفرائضِ.
صلاةُ الجماعةِ في القرآن الكريم:
أمَّا ما وردَ من الأمرِ بها في القرآنِ الكريمِ فقولُه تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾[1] فقد ذكرَ العديدُ من المفسِّرينَ والفقهاءِ انَّ المرادَ من قولِه تعالى: ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ هو الأمرُ بأداءِ الصلاةِ في جماعةٍ، ويُعبِّرُ عن عظيمِ فضلِ الصلاةِ في جماعةٍ أنَّها تظلُّ مشروعةً وراجحةً حتى في ظرفِ الحربِ والخوفِ من مباغتةِ العدوِّ كما هو مقتضى ما أفادَه القرآنُ الكريمُ في سورةِ النساءِ، قال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾[2] فهذه الآياتُ تأمرُ بأخذِ الحَيطةِ والحذرِ حين اقامةِ الصلاةِ جماعةً في ظرف الخوفِ والحربِ، فتُصلِّي طائفةٌ من المسلمينَ مع الإمامِ في جماعةٍ ويحرسُهم الباقونَ، فإذا أتمَّ الإمامُ ركعةً قاموا فأتمُّوا الثانيةَ فرادى، فإذا انصرفوا من الصلاة أخذوا موقعَ اخوانِهم في الحراسةِ والتحقَ من كانوا في موقعِ الحراسةِ بالإمامِ في الركعةِ الثانيةِ، وبذلك يُدركُ الجميعُ فضلَ أداءِ الصلاةِ جماعةً.
فهذا الحِرصُ من القرآنِ على أداءِ الصلاةِ جماعةً حتى في مثلِ ظرفِ الحربِ والخوفِ وحرصِه على أنْ يحظى الجميعُ بأداءِ الصلاةِ جماعةً يُعبِّرُ عن عظيمِ فضلِ الصلاةِ في جماعةٍ.
صلاة الجماعة في السنَّةِ الشريفة:
وأمَّا ما وردَ في فضلِ صلاةِ الجماعةِ عن الرسولِ (ص) وأهلِ بيتِه (ع) فيشقُّ على الإحصاءِ، ولهذا سوفَ نقتصرُ على ذكرِ شيءٍ من ذلك للتذكيرِ والتيمُّنِ، ويمكنُ تصنيفُ ما وردَ في فضلِ صلاةِ الجماعةِ إلى طوائفَ نذكرُ منها:
صلاةَ الجماعةِ تفضُلُ صلاة الفردِ بأربع وعشرينَ درجةً:
الطائفة الأولى:
ما دلَّ على أنَّ صلاةَ الجماعةِ تفضُلُ صلاة الفردِ بأربع وعشرينَ درجةً، وقد نصَّتْ على هذا المعنى العديدُ من الرواياتِ الواردةِ من طُرقنِا ومن طُرقِ العامَّةِ أيضاً.
منها: صحيحةُ عبدِ اللهِ بن سنان قال: "قال أبو عبد اللهِ (ع): "الصلاةُ في جماعةٍ تفضلُ على صلاةِ الفذِّ بأربعٍ وعشرينَ درجةً"[3] والفذُّ هو الفردُ.
ومنها: معتبرةُ زرارة قال: قلتُ لأبي عبد الله (ع): ما يروي الناسُ أنَّ الصلاةَ في جماعةٍ أفضلُ من صلاةِ الرجلِ وحدَه بخمسٍ وعشرينَ صلاة، فقال: صدقوا"[4].
ومفادُ هذه الروايةِ مطابقٌ لمفادِ صحيحةِ ابن سنان، ذلك لأنَّ الأربع والعشرينَ درجةً إذا أُضيفَ إليها الدرجةُ التي تكونُ لأصلِ الصلاةِ يكونُ المجموعُ خمساً وعشرينَ درجةً، والملفتُ انَّ هذه الطائفةَ من الرواياتِ عبَّرتْ في المفاضلةِ بين الفرادى والجماعةِ بالدرجةِ ولم تُعبِّرْ بالحسنةِ، فالذي يجنيه مُصلِّي الجماعةِ من صلاةِ الجماعةِ خمساً وعشرينَ درجةً وليس خمساً وعشرينَ حسنةً، وفرقٌ شاسعٌ بين الدرجةِ والحسنةِ، فقد تُساوي الدرجةُ الواحدةُ ألفَ حسنةٍ وقد تفوقُ، ومن ذلك نفهمُ ما ورد في بعضِ الرواياتِ من أنَّ مصلِّي الجماعة يحظى بآلافِ الحسناتِ، فهو يحظى بخمسٍ وعشرينَ درجةً لا نعلمُ كلَّ درجةٍ كم تُساوي من الحسناتِ.
ثم إنَّ الخمسَ والعشرينَ درجةً هي لأصلِ صلاةِ الجماعةِ التي تنعقدُ بالإمامِ ومأمومٍ واحدٍ كما يُستفاد ذلك من مثلِ معتبرةِ زرارة قال: "قلتُ لأبي عبد الله (ع) ما يروي الناسُ أنَّ الصلاةَ في جماعةٍ أفضلُ من صلاةِ الرجلِ وحدَه بخمسٍ وعشرينَ صلاة؟ فقال صدقوا. فقلتُ الرجلانِ يكونانِ جماعة؟ فقال: نعم، ويقومُ الرجلُ عن يمينِ الإمام"[5].
فهذه الروايةُ تدلُّ على أنَّ الخمسَ والعشرينَ درجةً يحظى بها مصلِّي الجماعة ولو لم يكن مع الإمامِ غيرُه، فإذا تعدَّدَ المأمومُ تضاعفَ في كلِّ واحدٍ بقدر المجموعِ في سابقِه إلى العشرةِ، ثم لا يُحصيه إلا اللهُ) كما رُوي ذلك.
فضلُ المشيِ إلى صلاةِ الجماعة:
الطائفة الثانية:
ما ورد من بيانٍ فضلِ المشيِ إلى صلاةِ الجماعة، ونكتفي في ذلك بما رواه الصدوقُ في الخصالِ وغيرٍه بسندٍ متَّصلٍ إلى الإمامِ الحسنِ بنِ عليٍّ (ع) قال: قال رسولُ الله (ص) ".. فما مِن مؤمنٍ مشى إلى الجماعةِ إلا خفَّف اللهُ عليه أهوالَ يومِ القيامة، ثم يُأمرُ به إلى الجنَّة"[6].
وظاهرُ الحديثِ أنَّ المقصودَ ممَّن يُخفَّفُ عنه أهوال يومِ القيامةِ هو من كانَ المشيُ إلى الجماعةِ ديدنَه، والمرادُ من المشيِ إلى صلاةِ الجماعةِ هو السعيُ إليها سواءً كان ذلك بالمشي على الأقدامِ أو كان بوسيلةٍ أخرى.
ومفادُ الحديثِ الشريفِ انَّ الأثرَ الأُخرويَ المترتِّبَ عن الدأبِ والمداومةِ على المشي لصلاةِ الجماعةِ هو التخفيفُ من الكربِ الذي ينشأُ عن مشاهدةِ أهوالِ يومِ القيامة والتي وصفَها القران بمثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾[7] فالمقيمُ على السعيِ لصلاةِ الجماعةِ بحسب الروايةِ لا ينتابُه ما ينتابُ الناسَ من فزعٍ وذهولٍ وهلع، بل المرجوُّ هو انَّه يكون ممن قال اللهُ عنهم: ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[8].
فضلُ صلاةِ الجماعةِ على عددٍ من السُننِ:
الطائفة الثالثة:
من الرواياتِ المعبِّرةِ عن فضلِ صلاةِ الجماعةِ ما دلَّ على رُجحانِها على عددٍ من السُننِ.
فمِن ذلك ما رواه الشيخُ الطوسيُّ بسنده عن محمد بن عمارة قال: "أرسلتُ إلى أبي الحسن الرضا (ع) أسألُه عن الرجل يُصلِّي المكتوبةَ وحدَه في مسجدِ الكوفةِ أفضلُ أو صلاتُه في جماعةٍ؟ فقال (ع): الصلاةُ في جماعةٍ أفضلُ"[9].
فالصلاةُ في جماعةٍ وإنْ كانت في مسجدِ القريةِ أفضلُ -بحسبِ الروايةِ- من الصلاةِ فرادى في مسجدِ الكوفةِ رغم انَّ الصلاةَ فرادى في مسجدِ الكوفةِ تعدِلُ بحسبِ بعضِ الرواياتِ ألفَ صلاةٍ، والنافلةُ في مسجدِ الكوفةِ تعدلُ خمسمائةَ صلاةٍ وإِنَّ الْجُلُوسَ فِي مسجد الكوفة بِغَيْرِ تِلَاوَةٍ ولَا ذِكْرٍ عِبَادَةٌ وروي أَنَّ الصَّلَاةَ فِيه تَعْدِلُ حَجَّةً وأَنَّ النَّافِلَةَ فِيه تَعْدِلُ عُمْرَة، رغم ذلك فالصلاةُ جماعةً في غيرِ مسجدِ الكوفةِ أفضلُ من الصلاةِ فرادى في مسجدِ الكوفةِ.
ومنه ما رواه الشيخ بسند معتبرٍ عن جميل بن صالح أنَّه سألَ أبا عبد اللَّه (ع): أيُّهما أفضلُ يُصلِّي الرجلُ لنفسِه في أولِ الوقتِ أو يُؤخرُ قليلاً ويُصلِّي بأهل مسجدِه إذا كان إمامَهم؟ قال: "يُؤخرُ ويُصلِّي بأهلِ مسجدِه إذا كان إمامَهم"[10].
وسأله رجلٌ فقال: إنَّ لي مسجداً على بابِ داري فأيُّهما أفضلُ أصلِّي في منزلي فأطيلُ الصلاة أو أُصلِّي بهم وأخفِّف؟ فكتب (ع): صلِّ بهم وأحسنْ الصلاةَ ولا تُثقل"[11].
مبغوضيَّةُ تركِ الصلاةِ في جماعةٍ:
الطائفة الرابعة:
من الروايات المُعبِّرة عن فضلِ صلاةِ الجماعةِ ما وردَ من التأكيدِ على مبغوضيَّةِ تركِ الصلاةِ في جماعةٍ وأنَّ من تركَها رغبةً عنها أي زُهداً فيها فلا صلاةَ له.
فمِن ذلك ما أوردَه الشيخُ الصدوقُ بسندٍ معتبرٍ عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) -في حديث- قال: "مَن تركَ الجماعةَ رغبةً عنها وعن جماعةِ المسلمين من غيرِ عِلَّة فلا صلاةَ له"[12].
ومنها: ما أورده الكلينيُّ بسندٍ صحيح عَنْ زُرَارَةَ والْفُضَيْلِ قَالا: قُلْنَا لَأبي جعفر (ع): الصَّلَوَاتُ فِي جَمَاعَةٍ فَرِيضَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ(ع): "الصَّلَوَاتُ فَرِيضَةٌ ولَيْسَ الِاجْتِمَاعُ بِمَفْرُوضٍ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا، ولَكِنَّهَا سُنَّةٌ، ومَنْ تَرَكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا وعَنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ فَلَا صَلَاةَ لَه"[13].
فقد يتركُ المكلَّفُ الجماعةَ لعلَّةٍ، وقد يتركُها استثقالاً لأداءِ الصلاةِ جماعةً فهذا الذي أفادَ الإمامُ (ع) انَّه لا صلاةَ له.
معنى قوله (ع): "فلا صلاة له":
ومعنى قوله (ع): "فلا صلاة له" هو انَّ صلاتَه لا تكونُ مقبولةً وإنْ كانت مجزيةً ومسقطةً للتكليفِ، إذ ليس كلُّ صلاةٍ صحيحةٍ ومُسقطةٍ للتكليف تكونُ مقبولةً، فأسبابُ القبولِ تختلفُ عن شرائطِ الصحةِ، ولذلك قال اللهُ تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[14] فغيرُ المتقينَ قد يلتزمونَ بالطاعاتِ، ولكنَّ اللهَ تعالى قد لا يتقبلُ منهم طاعاتِهم، ولهذا يكونُ المؤمنُ دائماً في وجلٍ يسألُ ربَّه أن يتقبَّل صلاتَه وطاعاتِه.
وقد يكونُ المرادُ من قولِه: "فلا صلاةَ له" هو انَّه لا يحظى بصلاةٍ كاملةٍ بمعنى أنَّ من صلَّى فرادى زُهداً واستثقالاً للجماعةِ فصلاتُه منقوصةٌ، وعليه يكون مفادُ الرواية هو مفادَ ما وردَ في معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (ع) أنَّه قال: "لا صلاة لمن لا يشهدُ الصلاةَ من جيرانِ المسجدِ إلا مريض أو مشغول"[15].
ومن الرواياتِ المُعبِّرة عن مبغوضيَّةِ تركِ الجماعةِ ما وردَ كثيراً من تحريجِ النبيِّ (ص) وعليٍّ (ع) على من لا يَحضرُ صلاةَ الجماعةِ وذمِّهما له.
لو علِموا فضلَ الجماعةِ لأتوها ولو حبواً:
الطائفة الخامسة:
من الرواياتِ المتصدِّية لبيانِ فضلِ الجماعةِ ما وردَ من أنَّ الناسَ لو علِموا فضلَ الجماعةِ لأتوها ولو حبواً، ولهذا لم يقبلِ النبيُّ (ص) بحسب بعضِ الرواياتِ بعذرِ المكفوفِ.
فقد وردَ عن أبي عبد اللَّهِ أنَّ رسولَ الله (ص) أتاهُ رجلٌ أعمى فقال: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي ضريرُ البصر، وربَّما أسمعُ النداءَ ولا أجدُ من يقودُني إلى الجماعةِ والصلاةِ معك، فقال له النبيُّ (ص): "شُدَّ من منزلِك إلى المسجدِ حبلاً واحضرِ الجماعةَ"[16].
وقد ورد عنه (ص) انَّه قال تعريضاً بمَن لا يحضرُ الجماعةَ في العشاء الآخرة: "ولو علِموا الفضلَ الذي فيهما لأتوهما ولو حبْوا"[17].
الآثارُ والمنحُ الإلهيَّةُ التي يحظى بها مصلِّي الجماعة:
الطائفة السادسة:
من الرواياتِ المبيِّنة لفضلِ الجماعةِ هي التي تصدَّت للكشفِ عن بعض الآثارِ والمنحِ الإلهيَّةِ التي يحظى بها المُلتزمُ بأداءِ الصلاةِ جماعةً.
فمِن ذلك ما ورد عن الصادقِ (ع) أنَّه قال: "مَن صلَّى الغداةَ والعشاءَ الآخرةَ في جماعةٍ فهو في ذمةِ اللهِ عزَّ وجل، ومن ظلَمه فإنَّما يظلمُ اللهَ ومن حقَّره فإنَّما يُحقِّرُ اللهَ عز وجل"[18] فمن التزم بأداءِ الصلاةِ جماعةً في الغداةِ والعشاءِ فهو في حرزِ اللهِ وحِياطتِه، وظلمُ هذا الرجلِ ليس كظلمِ غيرِه، بل هو أشدُّ، ووردَ أنَّ أداءَ الصلاةِ جماعةً من مقتضياتِ استجابةِ الدعاءِ وقضاءِ الحاجاتِ.
صلاةُ الجماعةِ من شعائرِ الإسلامِ:
ونختمُ الحديثَ بما أوردَه الشيخُ الصدوقُ في العيونِ والعللِ بسندٍ صحيح عن الفضلِ بن شاذانِ عن الرضا (ع) قال: إنَّما جُعلتْ الجماعةُ لئلا يكونَ الاخلاصُ والتوحيدُ والاسلامُ والعبادةُ للّهِ إلا ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأنَّ في إظهارِه حجَّةً على أهلِ الشرقِ والغربِ للّهِ وحدَه، وليكونَ المنافقُ والمستخفُّ مؤدِّياً لما أقرَّ به يُظهر الاسلامَ والمراقبةَ، وليكونَ شهاداتُ الناسِ بالإسلامِ بعضِهم لبعضٍ جائزةً ممكنةً، مع ما فيه من المساعدةِ على البرِّ والتقوى، والزجرِ عن كثيرٍ من معاصي اللّهِ عزَّ وجل"[19].
هذه الروايةُ الشريفةُ والعظيمةُ الفائدة اشتملتْ على بيانِ الحِكَمِ والمِلاكاتِ التي نشأ عنها الأمرُ بصلاةِ الجماعةِ، ولا يسعُ الوقتُ لشرحِها إلا انَّ المِلاكَ الأولَ الذي أفادَه الإمامُ (ع) جديرٌ بالتنويه، فقد أفادَ (ع) انَّ صلاةَ الجماعةِ من شعائرِ الله التي يُستدلُّ بها على الإخلاصِ والتوحيدِ والعبوديَّةِ للهِ ومجملِ معالمِ الإسلامِ، ولهذا يتعيَّنُ على المؤمنينَ تعظيمُها فإنَّ تعظيمَها من تقوى القلوبِ كما قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[20].
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ / وَالْعَصْرِ / إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ / إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[21].
خطبة الجمعة - الشيخ محمد صنقور
15 من جمادى الآخِرة 1437هـ - الموافق 25 مارس 2016م
جامع الإمام الصّادق (عليه السّلام) - الدّراز
........................................................
[1] - سورة البقرة / 43.
[2] - سورة النساء / 101-102.
[3] - مستند الشيعة -المحقق النراقي- ج 8 ص 7.
[4] - وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 8 ص 286.
[5] - بحار الأنوار -العلامة المجلسي- ج 85 ص 97.
[6] - "فما من مؤمن مشى إلى الجماعة إلا خفف الله عز وجل عليه أهوال يوم القيامة ثم يجازيه الجنة" الخصال -الشيخ الصدوق- ص 355.
[7] - سورة الحج / 2.
[8] - سورة الزمر / 61.
[9] - تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج 3 ص 25.
[10] - وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 8 ص 308.
[11] - وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 8 ص 430.
[12] - الأمالي -الشيخ الصدوق- ص 573.
[13] - الكافي -الشيخ الكليني- ج 3 ص 372.
[14] - سورة المائدة / 27.
[15] - وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 8 ص 291.
[16] - وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 8 ص 293.
[17] - "ولو علموا أي فضل فيهما لاتوهما -الفجر والعشاء- ولو حبوا" تهذيب الأحكام -الشيخ الطوسي- ج 3 ص 25.
[18] - وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 8 ص 295.
[19] - وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 8 ص 287.
[20] - سورة الحج / 32.
[21] - سورة العصر.