تقديم
يعيش طالبُ العلم - فيما يعيش - مشكلةَ تحرُّكِ مدادِه للإنتاج العلميّ، وتحويلِ معلومِه اللَّفظي إلى آخر كَتْبِي كما يعبِّرون، فيحتالُ لنفسه الحيلة بعد الحيلة، فتارةً يحالفُه التَّوفيق، إمَّا باللُّطف الخفيّ، وإمَّا بنصيحة المعلِّم المربِّي. في النَّتيجة يتجاوز هذه المحنة الحقيقيَّة بأحد السُّبل المقبولة.
فيما يظلُّ الآخر لا يهتدي سبيلًا، فتتضاربُ في ذهنه الأفكار في ماهيَّة المكتوب، فبينَ أن يكتب لينتفع بنفسه حصرًا، وبين أن يكتب لينفع غيره، ولهذا فنُّه، ولذاك كذلك.
من هنا قد حَسُنَ فتح هذه النَّافذة التي يزعمُ الكاتبُ أنَّها حلٌّ لهذه الطَّائفة، وليست محجَّةً للعلماء الفضلاء! وإنَّما لمثلي من طلبة العلم خيطُ أملٍ وسُلَّم نجاةٍ، يستمسك بها المحتارُ فتأخذُه بإذن ربِّه إلى طريقٍ مهيَع، وحينئذ قد يكون مقتدرًا على ما تهواه نفسُه من أيِّ لونٍ كتابِيٍّ شاء، ربما.
فما أخطُّه في هذه السُّطور ليس إلَّا كالدَّواء للدَّاء المستشري - كما أتصوَّر - بين فئامٍ من طلبة العلم، الذين قد عِيبوا من غيرهم مِمَّن لا يعيش عينَ ظروفهم وملابساتهم، بجفاف الإنتاج الكتابيّ وضحالته، إلى المستوى الذي يعيشُ الطَّالبُ نفسُه المشكلةَ فيشيِّدُ أسبابَها في نفسه، وبذا، تخبو عزيمتُه وتنصرف هِمَّته إلى غير هذا المورد العظيم من موارد طلب العلم وتداوله.
وقد يفتقدُ القارئ الكريم التَّقديم بأهميَّة الكتابة ومنافعها بنحوٍ عام، كما ربما يلزم الموضوع ذلك، وافتقادُه صحيحٌ، ولكنَّني استغنيتُ عنها بضرورتها في نفس كلِّ طالبٍ للعلم، كبيرًا كان أو صغيرًا، ولذكرِي شيئًا منها في الأسطر القادمة، فانتظِرْ - وفَّقك الله - ولا تعجل؛ فجَنَى كلِّ شجرةٍ يحلو في أوانه.
وبعد تِبيان الطَّبقة المخاطَبة من هذه الكلمات، يسوغُ لي الشُّروع في أصل الموضوع الذي أزعم أنه نافعٌ وناجعٌ لها، وربما لغيرها.
فأقولُ مستعينًا بالله العزيز المنَّان:
إنَّ الكلام يقع في فصلَين وخاتمة:
الأول: خِدمة الكتاب، وجملةٌ من مصاديقها.
الثاني: فوائد خِدمة الكتب.
الخاتمة: أحاديث وخواطر لطالب العلم.
الفصل الأول:
خِدمة الكتاب وجملةٌ من مصاديقها
تمهيد
بعيدًا عن التقعُّر في تحديد مفهوم الخِدمة، فإنَّ ما أعنيه بها هو أن تجعلَ عملًا سابقًا نصب عينيك، وتسعى للاقتراب منه من جهةٍ ما، قد تتَّسع وقد تضيق، كلٌّ ومقامه الذي يقتضيه، والميل الحادي به نحوه، ولكنْ في الأخير فأنت لا تبني في ساحةٍ جرداء، فالعرشُ موجودٌ بنقشه، يبقى عليك أن تتنوَّق في استذواق النَّقش، أو استخراجه وتبيان ما له وما عليه، أو إعادة رسمه إن اقتضى الأمر ذلك.
خِدمة الكتاب هي أن تطبِّق مشروعًا علميًّا في متنٍ سبقك، ولا أعني بالمتن المقابل للشَّرح خاصَّة، بل المادَّةُ العلميَّة - بشتَّى صورها وأنواعها وحقولها - الموجودةُ في الكتب الموجودة - أو أجزائها - فعلًا.
ومن هنا نعي سعة أنواع الخدمة، حتَّى تلك التي لا يبدو ظاهرُها خدمةً، كالنَّقد والتَّفنيد، فإنَّها بهذا الاصطلاح خِدمةٌ له، فتفطَّن.
ورَومًا لذكر ضروب الخِدمة تفصيلًا والإعراض عن إجمال معناها، سنحاولُ تَعداد جملةٍ منها، ولعلَّنا نذكُر بعض الشَّواهد لتدعيم الفكرة وتوضيحها، غير قاصدين الاستقصاء التَّام، بل غرضنا الحقيقيُّ هو بعث الهمم في نفس طالب العلم - المخاطَب - بأنَّ سبيل الكتابة العلميَّة مفتوحٌ، بل ميسَّرٌ إن أردتَ الولوج صادقًا، واللهُ من وراء القصد.
أنواع خدمة الكتب:
1/ الشرح:
هذا أوضح أنواع الخِدمة، فأنْ تُمسِكَ بمتنٍ مقتضب العبارة، أو مستغلق الفهم ومستعسر الهضم، فتبيِّنَه بعد أن اتَّضح لك، فإنَّ هذا المشروع من أنفع المشاريع العلميَّة، المشتهرة من أقدم العصور إلى يومنا، يتلقَّفُها جيلٌ بعد جيل.
وبما أنَّ الشَّرح في واقعه شروح، ومناهج، وطرائق، فإنَّنا نذكر شيئًا من أقسامه على ما تستحضره الذاكرة.
الشرح الموسوعي
وهو الشَّرح الذي يُفرِغُ فيه الشَّارحُ مخزونه العِلميّ كُلَّه، أو جُلَّه، وبالتَّالي فإنَّه يَخرُجُ عن تِبيان نفس عبارة الكتاب، إلى ما هو أعلى بكثير، كإيراد بحوثٍ معمَّقة لها علقةٌ بما ذُكِرَ في الكتاب، ولهذا نجدُ الاستطراد الكثير، بل الخروج عن سياق الشَّرح إلى غيره.
وهذا النَّوع من الشُّروح يُعَدُّ موسوعةً علميَّة في مختلف الحقول، بل يمكن أن تُستخرج منه كتبٌ كاملة أو بحوثٌ مستقلَّة وتُنشر لوحدها بعيدًا عن سياقها؛ لأنَّها غير مبنيَّة على فهمها مع السِّياق، ومثالٌ على ذلك الكتاب المطبوع باسم (كشف ابن الرِّضا عن فقه الرِّضا) لمؤلفه الشيخ علي كاشف الغطاء - رحمه الله -، يقول محقُّقه: «لقد ألَّف الشَّيخ علي - قدس سره - كتابًا أسماه (توضيح المكاسب) بثلاثة مجلَّدات، شارحًا فيه كتابَ المكاسب للشيخ مرتضى الأنصاريّ - رحمه الله -، وعند وصول المؤلف لذكر حديثٍ من (الفقه الرَّضوي) بدأ يشرع - قدس سره - بتأليف رسالةٍ مستقلَّةٍ متكاملة، يبيِّن فيها نسبة الكتاب، وحجّيته، وأقوال العلماء فيه، وموقفهم منه، وأدلّتهم على ذلك، مع سردٍ زمنيٍّ لظهور الكتاب، ذاكرًا في نهاية الرِّسالة رأيه فيه»[1]، وهذا مثالٌ من أمثلة، من الذين ألَّفوا كتبًا مستقلَّة، أو بحوثًا مستوعِبة ومفصَّلة داخل شروحهم الموسوعيَّة.
ومن الأمثلة: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، ومسالك الإفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام، وكبعض كتب تفسير القرآن الكريم، وشروح أدعية الأئمة - عليهم السلام -.
الشَّرح اللَّفظي
وهذا النَّوع - وإن لم أجد له تسميةٍ كهذي - هو الذي ينطبق عليه عنوان الشَّرح بحقيقته، فهو المتكفِّل بتبيان ما تحتمل العبارة ومراد المصنِّف، دون طروّ أغراض أخرى عليه، فلا يحمِّل العبارة مشربه الفكري أو الثقافي ويسرح بعيدًا عن العلم بما يقدّمه نفس المتن المشروح، فيعتني ببيان أصل المطلب، مع مراعاة الدِّقة في العبارة التي رامها المصنِّف، لا الزَّائد عنها.
ومن الأمثلة: الرَّوضة البهيَّة شرح اللُّمعة الدِّمَشقيَّة، وشرح تبصرة المتعلِّمين[2]، وتعجيل النَّدى بشرح قطر النَّدى، وغيرها.
الشَّرح المضموني
وهذا النَّمط من الشُّروح يختلفُ عن سابقه في نُقطةٍ، وهي أنَّه يركِّز همَّه في تبيان أصل المسألة وشرائطها الأساسيَّة، غير ملتفتٍ - في أصل وضعِه، وإن شذَّ بعض الأحيان - إلى ما أورده الماتن من نكاتٍ تعبيريَّة وأوصافٍ تقييديَّة، بل يولي اهتمامَه بشرح أصل المسألة بالنَّحو المتَّفق عليها عند العلماء في الفنّ المنشود، وأمَّا سابقُه فيتكفَّل بتبيان خصائص الكتاب والكاتب في عبائره بالنَّحو الذي تَظهَر به قيمة المتن لمن يريد أن يعيَه، وبات الفرقُ واضحًا.
وقد يُعنوَن هذا النَّمط من الشُّروح بقولهم: في رحاب كذا، أو على ضوء كذا، أو ما شابههما من التَّعابير.
2/ الحاشية والتعليق:
وجمعتُ بين العنوانَين إعراضًا عن الفرق التَّفصيلي بينهما، ومَن طَلَبَهُ وَجَدَه، فإنَّ غرضي هو تذييل المتن بشيءٍ تحت غرضٍ من الأغراض، إمَّا النَّقد، وإمَّا التَّوضيح، وإمَّا تبيان جهاتٍ خاصَّة فيه كمنشأ المسألة أو القول أو الدَّليل، وإمَّا إيراد الإشكالات ونقضها، وإمَّا أيُّ أمرٍ علميٍّ آخر.
ولْنَعْرِض بعضَ أقسام الحواشي[3] طلبًا للفائدة ووضوح الصُّورة.
الحاشية التوضيحيَّة:
وهي المتكفِّلة بشرح بعض المسائل وبيانها بصورةٍ أجلى، وكذلك شرح المفردات المستغلقة، وما كان بهذا النحو.
الحاشية النَّقديَّة:
هي لإيراد الإشكالات الواردة على عبارة الكتاب، سواء من الكاتب نفسِه، أم نقلًا عن غيره ممَّن تعرَّض للمتن كذلك، ومن الجيِّد أن يُستتبع الإشكال بحلٍّ؛ كي لا تكتسب الحاشية قيمةً عالية.
حاشية المقارنة:
أعني بها الحاشية التي أخذ الكاتبُ على نفسه أن يقارن المتن بمتنٍ آخر، فيذكر فيها الزيادات والإيضاحات التي خلا منها المتن، وهي مذكورة في المتن أو المتون الأخرى، مثلًا: لو أخذ على نفسه الطَّالبُ أن يضيف رأي المرجع الديني الذي يقلِّدُه بمصافِّ المتن الذي يدرسه كمنهاج السيد الخوئي أو تبصرة العلَّامة الحلِّي، رحمهما الله. أو غير ذلك من المقارنات.
الحاشية الاستدلاليَّة:
ويغلبُ عليها كونها مقتصرةً على ذكر لبِّ الدليل المتكأ عليه في الأحكام المذكورة في المتن، وإن كان ذكر شيءٍ زائدٍ بقدرٍ معقولٍ لا يمثِّل بأسًا.
ومن الأمثلة: حواشي الشَّيخ البهائي على كتاب (الاثنا عشريَّة في فقه الصَّلاة) للشيخ حسن صاحب المعالم.
الحاشية التحقيقيَّة:
وأعني بها أحد أمرين، الأول: إرجاع كلِّ قولٍ موجودٍ في الكتاب إلى مصدره وقائله، والتحقُّق من صحَّة النِّسبة. والثاني: تحقيق الرأي المنسوب وإثبات كونه لصاحبه كما هو مذكور في المتن المدروس، كما لو نسب أحدٌ قولًا لأحد العلماء وصوَّره ببعض الوجوه، فالمحقِّق في حاشيته يتكفَّل تصديق (تحقيق) هذه النِّسبة بهذا التصوير من عدمها، وربما يخطر بذهني مثال في علم الأصول: حيث يُنسب للشيخ محمد كاظم الخراساني بعض الآراء، ونرى في كتبٍ أخرى صورتها بنحوٍ مختلف؛ ذلك أنَّ تلميذَيه النائيني والعراقي اختلفا في تفسيره، فمَن نَقَلَه بالتَّصوير الأول نَقَلَه عن الأول، والثاني عن الثاني، وهكذا.
3/ الخلاصة والاختصار[4]:
وأمَّا هذا الفنُّ فإنَّه لا يخفى على أيِّ قارئ أو مطَّلع، وإنَّما ذكرناه توكيدًا وتنبيهًا لأهمّيّته في التَّصنيف، فلقد دأبَ عليه العلماء منذ القِدَم وحتى يومنا هذا، الكبار الفحول والصِّغار الفُلول[5]، وفوائده كثيرة سنأتي على ذكرٍ شيءٍ منها في الفصل الثَّاني.
ومن الأمثلة: منهاج الصَّلاح في اختصار المصباح، والمختصر النَّافع للشَّرايع، ومحاضراتٌ في الإلهيَّات، وجوامع الجامع، وغيرها الكثير.
4/ الانتخابات العلميَّة:
وأمَّا هذا اللَّون من الكتابة فإنَّه يُشبِهُ سابقَه بنحوٍ ما، ولكنَّ الأولَ مأخوذٌ فيه تقليص حجم الكبير إلى آخرَ أصغرَ منه، وأمَّا هذا فالمنظور فيه هو الانتقاءُ المبتني على هدفٍ محدَّدٍ منشود، فقد يكون الكاتبُ مختصِرًا، وقد يكون مجرَّدَ مقتبِس وناقل، وقد يكون منتخِبًا بزيادةِ عنايةٍ، كإعادة التَّرتيب، أو التَّوضيح، أو التَّعليق، أو التَّنظير، ولكنْ يبقى أنَّه انتخابٌ لفئةٍ خاصَّة من مباحث الكتاب الأصل.
ولنذكر بعض الأمثلة لإيضاح الصورة:
المعجم الخاص:
فإنَّ الكتاب العلميَّ له لغةٌ خاصَّة، وجديرٌ بأنْ يُتوقَّف عندها جيِّدًا، وكثيرًا ما يحصل ذلك في المتون البحتة، غير المشتملة على البحوث والمناقشات، فيُخصَّص لها معجمٌ خاص، وإن كان هذا المعجم نافعًا حتى لغير القارئ هذا المتن بالخصوص.
ومن الأمثلة: مفردات ألفاظ القرآن، ومعجم لامية العرب، وغيرهما.
الشواهد الشعرية:
جمع الشواهد الشعرية همٌّ حمله جملةٌ من العلماء، وبالفعل قد ألَّفوا كتبًا نافعةً بحق، كشرح الشواهد الكبرى للعيني، الذي جمع فيه شواهد بعض شروح الألفيَّة وتناولها بالشَّرح والتحقيق بشكلٍ مستوعب، وأتت من بعده أعمال متعدِّدة، ولا تخلو مكتبة طالب العلم من أمثال هذه الكتب النَّافعة.
وإنما ذكرنا الشِّعرية من باب المثال، وإلَّا فالشواهد القرآنية والحديثية كذلك صنِّفَت فيها المصنَّفات التي تناولتها بالبحث والتنقيح.
الأمثال:
كما صنع البعض واستخرج الأمثال من كتاب نهج البلاغة، أو غيره من الكتب العلميَّة. حيث أسدى للمكتبة الإسلامية والعربية خدمةً جليلة بتسليط الضوء على مثل هذه المواضيع.
المفردات:
أعني بها تلك المفاهيم المنتظمة في سلكٍ واحد، ولنذكر مثالًا للتوضيح: كتاب (معجم الملابس في لسان العرب)[6]، جمع المؤلِّف فيه كل ما ورد عن الملابس في كتاب لسان العرب، ورتَّبها وهذَّبها، فكانت قطوفها دانيةً لمن أراد أن يقرأ تحت هذا العنوان الخاصّ بشكلٍ مستوعب. وشبيهٌ به ما يصنعه الري شهري في كتب الحديث، حيث يجمع الأحاديث - بمعيَّة أفراد مؤسَّسته - وينظمها في سلكٍ واضح يعين القارئ على معرفة حديث أهل البيت - عليهم السلام - في العناوين المختلفة.
5/ السؤال والجواب:
وهذا اللَّون من الكتابات يدقُّ النَّظر فيه الكاتبُ في استخلاص الأسئلة من المتن، ثم يحاول الإجابة عليها، ومن الطبيعي اشتمال الجواب على مزيدٍ توضيحٍ وشرح، وإن كانت بعض الأسئلة قد يكون جوابها يحتاج للاقتباس فحسب، كما لو كانت لذكر الشرائط أو الأحكام دون توضيحها. وفي الحقيقة فإنَّ هذه الطريقة يعتمد عليها المدرِّس في تحضيره للدَّرس، بحيث يستنفر عقله ويبحث عن أيِّ سؤالٍ يمكن أن يطرح حول متن العبارة، ثم يعدّ الجواب المتقن له.
ومن الأمثلة: شرح الحلقة الثالثة - أسئلة وأجوبة -، للسيد علي حسن مطر.
تنبيهات:
حيث وصل بنا الحديث إلى ذكر بعض ألوان الخدمة للكتب العلميَّة، يحسن التَّنبيه لبعض الأمور ضمن نِقاط:
الأولى:
أرجو من القارئ الكريم أن يقرأ مقالتي جاعلًا الهدف المنشود نصب عينيه، فإنِّي سوَّدتُ هذه الصُّحف لغاية محوريَّة رئيسة؛ وهي بعث الهمم وإثارة دفائنها، فكم أعرف من طلبة العلم مَن يريد أن يمتشق قلم التأليف إلَّا أنَّه لا يهتدي لذلك سبيلا، تراه يشتِّت نفسه في بحوثٍ معمَّقة لها أهلها، لا قدرة له على طرحها فضلًا عن إتقانها.
فغايتُنا الأولى والأخيرة هي ما ذكرتُ، ومن هنا فإنِّي أعتذر له عن تسامحي في بعض التَّقسيمات، وذكر بعض الأقسام، والأمثلة، إنْ وَجَدَ فيها خللًا منطقيًّا، فما إلى ذلك قصدتُ، والمقام - كلُّ المقام - لم أراعٍ فيه البحث المنطقي بقدر مراعاتي لما يعين الطالب ويتحسَّس وجعه فيبعثه نحو الخير بإذن الله تعالى، فتنبَّه لهذه المسألة - رعاك الله - واحتوِ أصل المسألة ثانيًا عِطفك عمَّا سواها من الثغرات، وإنَّها واللهِ من شِيَم الكريم.
الثانية:
من الجميل أن يبتدئ الطَّالب الحديث العهد بالعلم بمشاريع خدميَّة تتناسب ومستواه العلميّ، ومن المهم في هذه المرحلة أخذ المشورة وعدم الاستعجال باقتحام مشاريع قد تضنيه وتشتّته، فقد يتبادرُ إلى ذهن القارئ المبتدي بأنَّ هذه العناوين المزبورة له أن يَلِجَها بادئ ذي بدء دون تعلُّمٍ ودربة ومراس، والواقعُ خلاف ذلك، فبعضها لا يسطيعها إلَّا البحر الخضمّ من العلم، كالشَّرح الموسوعي مثلًا، وبعضها أقلّ من ذلك. وأمَّا عن سبب ذكري لمثل هذه الأقسام ذات المستوى العالي؛ فإنِّي لمَّا جعلت عنوان (خدمة الكتاب) ملحوظًا في ذهني حال الكتابة، ألزمني أن أذكرها وأعلّق عليها بالشَّيء القليل، لا لأنها مقدورة لأيِّ طالب علمٍ، بل لأنها من أفراد الخدمة المشهورة، على أنَّه هذه الجهود الجبَّارة كذلك تشترك مع غيرها من الخدمات الأقلّ جهدًا في أنَّها تتمحور حول كتابٍ وتسبح في فلكه، وبهذا كنتُ مقتربًا للصواب - فيما أظن - عند ذكري إياها.
وبناء على ذلك، فكلُّ مَن أراد خدمة كتابٍ من الكتب بأحد السُّبل الآنفة الذِّكر أو بغيرها، وجب عليه أن يتقن الطَّريقة عند أربابها وأصولها، فلكلِّ لونٍ مأخذه الصَّحيح الذي تؤخذ أصوله وشروطه منه، فمثلًا: مَن أراد تلخيص البحوث أو الكتب العلميَّة، كان لزامًا عليه أن يسعى لتعلُّم فنِّ التَّلخيص عند الأساتذة المهرة في هذا الفن، ثم يتوكَّل على الله سبحانه ويبتدئ مشروعه الخَدَمي.
على أنَّه لكلِّ لونٍ من ألوان الخدمة السَّابقة المُجيد لعمله والأقل جودةً، فما كلُّ قاصدٍ للشرح المضموني موَّفق بقدر توفيق قرينه الشَّارح، وهكذا، فلا ينبغي أن يكون نمط الشرح المضموني واحدًا، أو التلخيص واحدًا، قد تختلف المستويات، وباختلافها تختلف قوَّة المكتوب، فتنبَّه.
وأحبُّ أن أضيف أمرًا مهمًّا، وهو أنَّ من سبل إتقان الشيء، ممارستُه، فمع كون تعلُّم الفن أمرًا مهمًّا مطلوبًا، لابد له أن يمارسه، ويحاول بذلك محاكاة المصنِّف الأصل والنَّسج على منواله، فرُبَّ متقنٍ لفنٍّ قد مشى بطريقهم دون التعرُّف المسبق لملامحهم وشروطهم، وإني أعرف مَن يقول الشعر لا يعرف على أي بحرٍ هو، بل لا يعرف بحور الشعر مطلقًا، وهو مثالٌ، فجُرَّه لأيِّ فنٍّ شئت أيها القارئ الكريم.
الثالثة:
مما يحسن التنبيه له هو عدم جامعية ومانعيَّة الأقسام السابقة، وإنما قد يكون ذِكرُها من باب المثال الشايع، وربما هو الذي حضر ذاكرتي البالية، ولكن الجامع بينها كلها وبين غيرها وحدة الهدف المنشود في العمل، فكلُّ خدمة للكتب تحدَّدت بغايةٍ صحَّ لها أن تكون فردًا من أفراد الخدمة، لا سيما إذا أينعت ثمارًا مفيدة ورائعة، يجتنيها العلماء وطلبة العلم بمختلف مستوياتهم.
ولا يفوتني أن أذكر بأنَّ رَسم المنهج بداية كلِّ مشروعٍ هو المهم، فقد يكون المنهج جامعًا أكثر من خدمة للكتاب، وشاملًا لها، لا بأس، المهم أن تكون الصورة واضحةً، ونافعةً ناجعة.
ويخطر ببالي أن أذكر مثالًا لأحد العلماء الذين خدموا كتاب (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) بعِدَّة خدماتٍ، وهو جلال الدين السيوطي، يقول محقِّقُ أحد كتبه:
«إذ خدمه بخمسة كتبٍ هي: تحفة الغريب - وقيل: القريب - في الكلام على مغني اللبيب، والفتح القريب على مغني اللبيب وهي حاشيته المشهورة، وشرح شواهد المغني، ونكت على شرح شواهد المغني، وتحفة الأديب في نحاة مغني اللبيب»[7].
بل يقول أحد العلماء بأنَّ خدمة الكتاب عادةً تولِّد دافعًا لخدمته مرَّة أخرى بوجهٍ آخر، فلِطالب العلم أن يخدمه بعدَّة خدمات، وما ذلك بعزيز.
الفصل الثاني:
فوائدُ خِدمة الكتب
لا يشكُّ عاقلٌ في فوائد الكتابة، كيف وبها انتقلت العلوم والمعارف من جيلٍ إلى جيل، والكتابة حملت على متونها أشرف المعارف وأقدس العلوم، غير أنَّنا نصرف جهدنا الآن في التماس بعض فوائد خدمة الكتاب خاصَّة، وذلك في نِقاطٍ مما حَضَرَنا ذكرُه:
الأولى:
إنَّ القيام بقضاء حوائج المؤمنين فيه من السَّعادة الأخروية والأجر الإلهي ما لا يعلمه إلَّا الله، أحياء كانوا أو أمواتا، فالميت ينقطع عمله إلَّا من ثلاث؛ أي أنه يظلُّ محتاجًا لقضاء بعض المبرَّات وإهدائها له، وسبيل تلك ثلاث كما ذكرت بعض الروايات، ومن الواضح بأنَّ قيام طالب العلم بخدمة أحد كتب العلماء، الماضين منهم والمعاصرين، فيه من إحياء ذكرهم ما لا يخفى، لا سيما إذا جرَّ - بهذه الخدمة - المنافع والفوائد، العائدة على طلبة العلم ومجتمع المؤمنين، وهي بذلك عائدة بأجرها على العالم المصنِّف للكتاب الأصل، وغيرُ بعيدٍ أنَّ خدمة العالم بهذه الصورة مقتضية لخدمة الخادم في دنياه وأخراه، بنيل الفضيلة العلميَّة والسُّمعة الطَّيبة الحسنة في الدنيا، والمثوبة الجزيلة والشَّفاعة في الآخرة، فغدًا تنفع الأعمال، فاخدِم الكتاب يخدمْك، وهذا - لعمري - من التَّوفيق الربَّاني.
الثانية:
قد ألمحتُ فيما مضى إلى محاكاة العلماء في كتاباتهم، فمن فوائد خدمة الكتاب هو الجري على سننهم في التَّأليف، فمن لم يكن يهتدي سبيل التَّأليف قد يمزك بزمامه إذا لخَّص له كتابًا وكتابين وثلاثة، سيكتشف خلال هذه المحاكاة أين مواضع السَّبك والحبك، والعنوَنة والتفصيل، سيتفطَّن للمواطن الأساسية في الكتاب، وبذلك سيكتسب مهارةً وخبرةً بالكتابة والتأليف والتصنيف، وذلك ببركة محاكاته لمن سبقه من العلماء المصنِّفين، ألا ترى أنَّ الشاعر إذا أراد أن يمتطي الشعر على أصوله، وجب عليه أن يحفظ الشيء الكثير من الشعر العربي الجيّد، ثم يحاول أن يعارض قصيدة أو يخمّسها أو يحاكيَها، ليجد نفسه بعدئذ واحدًا منهم غير قاصرٍ عنهم، فمحاكاة العلماء في كتاباتهم يُكسب منافع كثيرة، منها أنك تكون منهم ولو بعد حين.
الثالثة:
إنَّ بخدمة الكتاب يكتشف الطَّالب اللَّون المحبَّب والمقرَّب إليه، والذي يكون فيه أجود ما يكون، فإذا جرَّب نفسه بطريقةٍ من طرق الخدمة، فليجرِّب الأخرى، والثالثة والرابعة وغيرها، سيصل إلى الطريقة التي يجد نفسه فيها متقنًا ومؤدِّيًا خدمة جليلة للعلم وأهله، وأمَّا بالانكفاء على لون واحد من ألوان الخدمة، أو عدم الخوض أصلًا في هذا الباب، فإنَّ سيحرمك من سدِّ هذه الخلَّة.
ولذلك نجد عدًدا من المصنِّفين والكتَّاب برعوا في فنون كتابيَّة معيَّنة؛ ذلك أنَّهم جرَّبوا أنفسهم في أكثر من مضمار، ورأوا نجاحها في البعض دون الآخر.
الرَّابعة:
غيرُ خفيٍّ أنَّ العلوم في حالةٍ ترقٍّ ونموّ، واللَّبيبُ مَن بنى على جهود السَّابقين شاكرًا لهم حُسن صنيعهم، ومتلافيًا زلَّاتهم وثغراتهم، كي يكون البنيان أشدَّ وأسدّ، فخدمة الكتاب فيه بناءٌ على جهودٌ الماضين، بخلاف الكتابة المستحدثة قد يكون فيها من التكرار غير النافع، أو الوقوع في عين الأخطاء التي وقع فيها الغير.
خاتِمةٌ:
أحاديث وخواطر لطالب العِلم
أمَّا وقد بلغنا خاتمة هذه المقالة، قد عنَّت لي بعض الخواطر أحببتُ أن أدوِّنها قبل مسك الختام، وبعد التوكل على الله سبحانه أقول:
الأولى:
قد تكون السنيّ الأولى من سنوات دراسة طالب العلم هي الأنسب للاشتغال بخدمة الكتاب؛ كونه لم يهتدِ جادَّة التأليف المستقل والبحث العلميّ الرَّصين، فيلتمسه بخدمة الكتب بأنواعها، وقد وَصَلَتْنَا خدماتٌ كثيرة لعمالقة الطائفة كالشيخ الطوسي والعلامة الحلي والشهيدين الأول والثاني، وغيرهم الكثير الكثير، وبحسْب تتبُّع بعض تواريخ تصانيفهم الخَدَميَّة نجدهم كتبوها أيام صغرهم، ولعلَّ ذلك يؤيِّد ما نصبو إليه في هذه المقالة من أنَّ الاشتغال بمتنٍ موجود فعلًا من شأنه أن يصنع من كاتبه عالمًا مفكِّرًا جادًّا، ولا ننسى التَّوفيق الإلهي في ذلك.
غير أنَّني أودُّ القول بأنَّ خدمة الكتب غير مقتصرة على مرحلةٍ معيَّنة، وحتى بعد النُّضج الفكريّ والعلميّ، فإنَّ لطالب العلم أن يخدم، لا سيما تلك التي ليست أهلًا إلَّا للعلماء الكبار، فصنيع صاحب الجواهر - مثالًا - لا يأتي به إلَّا هو أو كفؤه، ولا نشكُّ أنَّ العلماء الكبار خدموا كتبًا بمختلف أنواع الخدمة، في أوج قوتهم وعنفوان عبقريَّتهم.
ولذلك فخدمة الكتاب متاحةٌ طوال العمر لطالب العلم، فلا ييأس من تقدُّم العمر، ولينظُر ما يمكن أن يقدِّمَه في يومه وغده.
الثانية:
أفضل ما يمكن أن يصنعه كلُّ كاتبٍ نهاية كتابته، أن يذهب بمكتوبه إلى معلِّم أو صديقٍ ناصح، لا بدَّ أن يكون ناصحًا؛ لأنَّ هذه صفة الصِّدق التي يرتجيها كلُّ عاقل، فإن لم يكن ناصحًا فلا خير فيه، وأمَّا إذا كان كذلك ففيه الخير كلُّه، وذلك أنَّه إن كان عالمًا فسيصدقك بنصحك لمواطن الخلل والضَّعف؛ لتكملها وتسدَّها، على أقلِّ تقديرٍ هو يراها - بنظره الصَّادق - مواطن ضعف، وأمَّا إذا ذهبت بها لصديقٍ ناصحٍ فكذلك الأمر، إنَّه إن لم يكن أهلًا لمراجعة مكتوبك فلن تعدم منه النَّصيحة والتَّشجيع، ولعلَّه يرشدك لمن هو أهلٌّ أن يُرجع له.
ليس من العقل أن أكتب لأُؤيَّد فحسب، خصوصًا من حامَّتي وخاصَّتي، فإن حصل ذلك فلله الحمد والشُّكر على ذلك، وأمَّا إن بلغتني ممن استنصحتُه كلمةٌ فيها نوعٌ شِدَّة فهذا صحيحٌ ومطلوب كذلك، هذا ليس تأييدًا لقسوة الملاحظات بقدر ما هو تشجيع على استنصاح الرجل الصَّادق الذي لا يبتغي وراء ما يقول إلَّا الله سبحانه، ولا يخفى بأنَّ النَّاصح يَزِنُ ما يقول بحكمةٍ ورويَّة، هذا ما ينبغي له.
وختامًا أقول: ارجِع لكتاب العِشرة من أصول الكافي الشَّريف، واهضم حديثهم - صلوات الله عليهم - هناك؛ لتقف على من تجب مصادقته، ومن تكره مصادقته، حينئذ سترى أنَّ دائرة الاستنصاح ستضيق من جهة، وتتَّضح من جهة أخرى، هذه الفئة، عضَّ عليها بالنَّواجد، لا تتركنَّها ففي ذلك تربح أو تكون من الخاسرين.
إلى هنا أجفّف مداد قلمي، سائلًا الله سبحانه أن يمنَّ عليَّ ببلوغ مرادي ومقصودي من وراء هذه الكلمات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وآله الطَّاهرين.
كتبه: أبو محمَّد رضا أحمد نصيف
ليلة ميلاد إمامنا محمد الجواد (عليه السلام)
الجمعة 10 من شهر رجب لعام 1443هـ
..................................................
[1] كاشف الغطاء، الشَّيخ علي: كشف ابن الرِّضا عن فقه الرِّضا: 6. ت: مصطفى الصرَّاف، منشورات مؤسسة كاشف الغطاء العامَّة، ط1، 1432هـ، بيروت.
[2] للسيد صادق الشِّيرازي - رعاه الله -.
[3] تعبيري بالحاشية من باب أنَّه رِدفٌ للتعليق لا أمر مغاير، فتنبَّه.
[4] جمعي إياهما لنفس النُّكتة في العنوان السَّابق.
[5] جَمعُ فَلٍّ: بمعنى المنهزِم، واستعملتُها بمعنى الضَّعيف الذي لا قوَّة له؛ لمكان المناسبة.
[6] للدكتور أحمد مطلوب العراقي.
[7] نقلتُه بتصرُّفٍ في الاختصار، راجع: المقدمة التحقيقية لكتاب (تحفة الأديب) للسيوطي 15:1، ت: الدكتور حسن الملخ والدكتورة سهى نعجة، منشورات عالم الكتب الحديث - إربد (الأردن)، ط2، 1429هـ.