جاء الإسلام يوجه العقل نحو المسألة الإنسانية الكبرى التي تواجه البشرية في وجودها ومصيرها ألا وهي (عقيدة التوحيد)، تلك المسألة التي طالما غفل عنها الناس تحت وطأة المشاغل اليومية، أو نظروا إليها نظرة سطحية متذبذبة.
فعلى الرغم من خطورة القضية العظمى وما تفعله -إثباتا ونفياً- في الوجود الإنساني، فقد دأبت البشرية أن تلقى بقيادها فيها إلى رجال الدين، أو تكتفي بما ورثه الآباء والأجداد وتتبع آثار كبرائها وزعمائها جاء الإسلام ليضع الإنسان أمام المسألة وجهاً لوجه، ليتخذ فيها قراره سواء بالقبول أو الرفض عن إيمان واقتناع وإرادة.
وعقيدة التوحيد الإسلامية عقيدة إنسانية تنزل بمستوى العقل وتقوم على البرهان الإيمان بها أو جحودها وإنكارها يتم بفعل إرادي حر (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً)
والإنسان عندما يقبل هذه الدعوة أو يرفضها فإنه غير مكره على هذا القبول أو هذا الرفض (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) وهو إذا كفر بها أو أمن فإنما يفعل ذلك بعد أن يعرف هذا الكفر وهذا الإيمان (انا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا). وهي عقيدة إنسانية أيضاُ لأنها ترفض الانغلاق وتدعو إلى التعايش السلمي بين أتباع الأديان المختلفة (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) فالطغيان وادعاء الربوبية والسيطرة هو الممنوع في هذه الدعوة لأنه يؤدي إلى جعل حالة الحرب بين اتباع الأديان المختلفة بدل السلام وحتى في مقام الحوار والمناقشة فإنها تنهى من اتباع أساليب الإثارة أو عدم الاعتراف بالآخرين (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).. وعقيدة التوحيد الإسلامي عقيدة موضوعية علمية تأخذ البرهان العلمي في القبول والرفض ومن أجل ذلك تحض على التفكير والتدبر في الظواهر الكونية والاجتماعية النفسية واستجلائها (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)( وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً) (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) وهو يعلى من شأن العلماء ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) إلى غير ذلك من الآيات الحاضة على استعمال العقل مرشداً في قبول هذه المسألة ورفضها.
وهي تدعو إلى إزالة كافة الموانع المعوقة للفكر عن التدبر، فتذم أولئك مخاطر التفكير بالاكتفاء بما تلقوه من الأباء والأسلاف عن هذه القضية الخطيرة (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ) (قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى) كما تنعى على الذين أوكلوا رجال أديانهم بالنظر دونهم ثم قبلوا منهم ما توصلوا إليه من أمر القضية دون تمحيص أو تدقيق (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) وتنهى كذلك عن اتباع المناهج التي لا على العلم (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)، وترفض أن يتجاوز الإنسان في النقاش والمحاورة منطق العلم (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً).
فهذه المناهج الثلاثة وهي منهج التقليد ومنهج الوكالة واتباع ما ليس للإنسان به علم مناهج مذمومة وقبيحة لذاتها، ولا يغير قبحها أن يصل الإنسان منها إلى الحق أحياناً.
وتدعو هذه الدعوة إلى التحرر في النظر العلمي ورفع الوصاية والفرض القسري، بل لا ترى ذلك إلا طغياناً يجب حربه وإزالته ولو بالثورة عليه، وتجعله في مقابل الإيمان الحقيقي (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) (يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ). (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) ومعنى الفتنة هنا هو المنع من سلوك طريق الإيمان سواء عن طريق التعذيب الجسدي كما كان يحصل في بعض الدول العصرية، أو كان عن طريق الإغراء بالشهوات ومنع الحقوق والإذلال كما يحصل في أيامنا.
فالإيمان بالله يخرج الإنسان من ظلمة الجهل إلى نور المعرفة ومن ظلمة الأسر والعبودية إلى وهج الحرية الكرامة، وبعكس ذلك فان موالاه الطاغوت والتعاون معه إنما يزيد الإنسان بعدا عن تذوق نور العلم والفكر ويشدد عليه أغلال العبودية والاسترقاق، ومن أجل ذلك يبشر الإسلام بمجتمع لا تقوم عقيدته على الإرهاب والمنع من الحقوق لإثبات السيطرة والزعامة (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ). ويذكر القرآن المسلمين الذين كانوا مستضعفين بألا يكونوا كأعدائهم المشتركين عندما تكون لهم القوة في الارض فيوجه لهم سؤالا استنكاريا (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ). كما يأبى على امته أن تجعل الحرب طريقا لإرغام الناس على الدخول في الدين، ولكسب الأرض وإنما يحدد هدف الحرب بإزالة الطغيان عن رقاب الناس وفتح الطريق أمامهم ليؤمن منهم من يشاء دون خوف (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).
ولعل من أهم أهداف الدعوة التي طرحتها أهداف رئيسية ثلاثة: الوحدة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية.
بقلم: سماحة العلامة الشيخ سليمان المدني
مجلة المواقف
20 سبتمبر 1976 م