نَقَلَتْ كتبُ السيرةِ[1] عدداً من الألقاب التي كان يلقبُ بها عاشرُ أئمة أهل البيت عليهم السلام كان أشهرها (الهادي)، بل إن شهرة هذا اللقب الشريف فاقت شهرة نفس اسم الإمام (ع) حتى صار اللقب كالبديل للاسم[2].
ويُعرِّف اللغويون الهداية[3] بأنها: (الإرشاد والدلالة على ما يوصل إلى المطلوب)، فحينما يسأل شخصٌ شخصاً آخر عن الطريق الموصل للمدينة الفلانية فيصفه له فهو بذلك قد هداه وفقا لهذا التعريف، وهذا ما كان عليه رسول الله (ص) وأوصياؤه الطاهرون؛ فهم الأدلاءُ على الله كما عبرت بعض الزيارات، وقد جاء في الزيارة الجامعة للأئمة (عليهم السلام) الصادرة عن إمامنا الهادي (ع) لما سأله الراوي[4] أن يعلمه قولا بليغا كاملا يزورهم به: (السَّلَامُ عَلَى أَئِمَّةِ الْهُدَى وَمَصَابِيحِ الدُّجَى) وجاء فيها أيضا: (السَّلَامُ عَلَى الْأَئِمَّةِ الدُّعَاةِ وَالْقَادَةِ الْهُدَاةِ).
ومن خلال قراءة سيرة الإمام الهادي (ع) نجد أنه كان كجده رسول الله (ص) وآبائه الطاهرين (ع) يمثل مصدر إشعاعٍ وهداية وإرشاد عبر طريقين:
1/ صلاحه الذاتي: حيث أن صلاح شخص الإمام (ع) واستقامته الدينية مثَّلا عاملَ جذبٍ للدين تأثرتْ به شخصياتٌ كانت في غاية البعد عن الله، ومن ذلك ما روي[5] أنه لما استشهد الإمام الجواد (ع) عيَّنَ المعتصم العباسي على الإمام الهادي (ع) -وكان حينها دون العاشرة من عمره- مؤدبا وهو أبو عبد الله الجنيدي الذي كان حينها شديد العداوة والبغض لأهل البيت (ع)، وكان مرامُ المعتصم من وراء هذه الخطوة الحيلولة دون لقاء الشيعة بإمامهم، فلما رأى الجنيدي في الإمام (ع) شدةَ الدين والتقوى والورع وسموَ الأخلاق تأثر به تأثراً كبيرا حتى قال عنه: (هذا و الله خير أهل الأرض وأفضل مَنْ خلق الله)، فما دارت الأيام والليالي حتى قال بإمامة الإمام (ع).
2/ توجيهاته ومواقفه وكلماته: فهي مصدر للمعارف الوحيانية الحقة، لأن الإمام من أئمة أهل البيت (ع) شأنه كشأن رسول الله (ص) لا ينطق عن الهوى، فهذا مقتضى كونه وصيه (ص)، بل هذا مقتضى العصمة التي هي من مسلمات عقائد الإمامية، وسوف نستعرض فيما يلي اثنين من الموارد الكثيرة التي تبين ممارسة الإمام الهادي (ع) عمليا لوظيفة الهداية.
المورد الأول: جاء في كتاب الكافي للكليني (رض) أن إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتبت إلى الرجل[6] (عليه السلام) أن من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول جسم ومنهم من يقول صورة، فكتب عليه السلام بخطه: سبحان من لا يحد ولا يوصف، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم -أو قال- البصير.
تدل هذه الرواية أولا على شدة معاناة أهل البيت (ع) وشيعتهم في ذلك الزمان حتى أن الراوي قد عبر عن الإمام (ع) بـ(الرجل) تقيةً وحفاظاً منه على نفسه، كما تدل ثانيا على أن الاشتباه في العقيدة من الممكن أن يحصل حتى لبعض الموالين؛ فيكون التحرك على التصحيح لهم ملقى على عاتق إخوانهم من أهل الولاية، فهذه الرواية تدل على أن فريقا من المؤمنين في زمان الإمام (ع) كانوا يعتقدون بالتجسيم وهو ما يستلزم عدة محاذير كلامية منها حدوث الصانع وعدم قدمه (معاذ الله)، وهو محذور يبدو أن الفريق الثاني الذي ذكرته الرواية قد تنبه له فقال بالصورة؛ وهو ما يستلزم أيضا محاذير أخرى منها التشبيه، ولذا فإنه قد جاء جواب الإمام (ع) بما يرد كلا الفهمين حيث قال: (سبحان من لا يحد ولا يوصف، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم).
المورد الثاني: من الابتلاءات التي ابتلي بها الإمام (ع) ظهور الغلاة وترويجهم للبدع والانحرافات في العقيدة، ومن هؤلاء القاسم اليقطيني وعلي بن حسكة القمي، فقد جاءت في كتاب (اختيار معرفة الرجال) عدة روايات تصف حالهما، حيث كان أصحاب الأئمة (ع) يبعثون إلى الإمام الهادي (ع) برسائل تبين ما كان هذان الرجلان يبثانه من أفكار فاسدة[7] مثل أن الإمام (ع) هو الرب تعالى وأنهما الباب إليه وأنهما نبيان من قبله، وقد كان (ع) يرد على هذه الرسائل -وأحيانا يبتدئ بنفسه بالإرسال إلى أصحابه- بثلب الرجلين وبيان خطرهما على شرع الله وأن هذا الذي هما عليه ليس من الدين في شيء.
وهنا قد يُسأل: ما هو السبب في ولادة فكرة الاتصال بالأئمة (ع) والبابية لهم؟ فمنذ أيام أمير المؤمنين (ع) وإلى يومنا يظهر بين الحقبة والثانية من يروج في المجتمع لفكرة أنه على صلة بالمعصوم وأنه الباب الذي يلزم من يريد الوصول للمعصوم أن يدخل منه.
الجواب: إن أسباباً عديدة تقف وراء هذه الفكرة التي تحولت مع الزمان إلى ظاهرة، ومن هذه الأسباب طمع هؤلاء في العوائد الماليَّة الكبيرة التي سوف يتحصلون عليها من وراء البسطاء المخدوعين بهذه الظاهرة الدجالة وبمدعيها.
صادق القطان
١٠ فبرابر ٢٠٢٢م
..............................
[1] - منها: المناقب/كشف الغمة/ينابيع المودة.
[2] - سيرة الأئمة الاثني عشر للشيخ محمد حسن آل ياسين.
[3] - معجم اللغة العربية المعاصرة لأحمد مختار عمار.
[4] - موسى بن عبد الله النخعي كما في (من لا يحضره الفقيه).
[5] - (إثبات الوصية) للمسعودي و(التاريخ الإسلامي) لليوسفي الغروي عن بعض المصادر.
[6] - المراد من (الرجل) هو الإمام الهادي (ع) وذلك بقرينة طبقة الراوي.
[7] - يراجع لتفاصيل ذلك كتاب (اختيار معرفة الرجال) للشيخ الطوسي (رض) وهو الكتاب المعروف بـ(رجال الكشي).