ملاحظة من (كتابات): النص أدناه تفريغ صوتي.
..............................
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ….
حديثنا في هذا اللقاء عنوانه: (ثقافة الحوار)
أن تحاور الآخر فأنت في حاجة إلى (ثقافة)، هذه الثقافة تسمى (ثقافة الحوار) فليس كلّ من حاور الآخر يملك (ثقافة الحوار)، وليس كل من يملك (ثقافة الحوار) يلتزم بهذه الثقافة في حواراته.
فهنا عنصران أساسيان لكل حوار:
1/ التوفر على ثقافة الحوار.
2/ الالتزام بثقافة الحوار.
وإنَّ غياب هذين العنصرين يفقد الحوار (أصالته وقيمته).
من الظواهر المؤسفة في واقعنا (غياب مبدأ الحوار)، وإذا تحرك الحوار، فهو حوار فاقد لثقافة الحوار.
فما أحوج واقعنا المعاصر بكل اختلافاته المذهبية والثقافية والاجتماعية والسياسية إلى تنشيط (ثقافة الحوار).
والسؤال الذى نطرحه هنا:
ما هي ثقافة الحوار وفق المنظور القرآني والإسلامي؟
وبتعبير آخر: ماهي أسس الحوار في المنهج القرآني وفي المنهج الإسلامي؟
نحاول الإجابة عن هذا السؤال من خلال معالجة أهم هذه الأسس.
حينما نحاور الآخر الذي نختلف معه في الدين والعقيدة، أو الذي نختلف معه في المذهب، أو الذي نختلف معه في الانتماء السّياسي، أو الذي نختلف معه في الاتجاه الثقافي، أو الذي نختلف معه في الرأي الفقهي، أو في الرأي العلمي أو في الرأي الاجتماعي. فيجب علينا أن نفهم (منهج الحوار) كما أسس له القرآن، و كما أسس له الإسلام.
- فما هي أهم أسس الحوار في المنظور الاسلامي؟
الأساس الأول:
القلب هو الطريق إلى العقل، وأنت تحاور الآخر حاول أن تدخل إلى قلبه قبل أن تفكر في الدخول إلى عقله.
وكيف ندخل إلى قلوب الآخرين ونحن نريد أن نحاورهم؟
لكي نتمكن من الدخول إلى قلوب الآخرين نحتاج إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول:
أن نفتح قلوبنا للآخرين، أن نحاور الآخرين بروح الحب وليس بروح الحقد، أن نحاور الأخرين بقلوب مفتوحة وليس بقلوب معقّدة.
(فبما رحمةٍ من الله لِنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك) الآية 159 / آل عمران
(اذهبا إلى فرعون إنّه طغى وقولا له فقولاً ليّنا لعلّه يتذكرُ أو يخشى) الآية 44 / طه
فيجب أن لا نتعقد من الآخرين الذين يختلفون معنا في الرأي (اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون)
الأمر الثاني:
أن لا نتهم دوافع الآخر الذي يختلف معنا في الرأي أو في الموقف.
الدوافع مسألة قلبية لا يمكن اكتشافها بسهولة.
الصحة والخطأ مسألة تخضع لشروط موضوعية يمكن إدراكها، أما الدوافع فأمر لا يمكن التعرف عليه بسهولة.
إذا اختلف معك إنسان فمن حقك أن تقول له إن رأيك خطأ – لو اقتنعت فعلاً بخطأ رأيه – وليس من حقك أن تتسرع فتتهم دوافعه.
مشكلة الكثيرين أنهم لا يطيقون أن يجدوا من يخالفهم في الرأي، فيسارعون إلى اتهام الآخرين الذين يخالفونهم في الرأي أو في الموقف.
تصوروا كم كان موقف الخوارج قاسياً ومتشدداً ضد أمير المؤمنين، حتى بلغ بهم الأمر إلى أن كفّروا علي بن ابي طالب. ولكنّ عليًا لم يحاربهم إلَّا بعد أن أحدثوا فساداً في الأرض.
واسمعوا علياً عليه السّلام ماذا يقول في حق الخوارج الذين كفّروه: "لا تحاربوا الخوارج من بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه".
علي عليه السّلام بيّن موقف الخوارج وموقف معاوية:
الخوارج كانوا يطلبون الحق، ولكنهم أخطأوا الطريق.
أمّا معاوية فكان يطلب الباطل وقد أصابه.
فالإمام لم يتهم الخوارج وإن حاربوه وخالفوه وكفّروه، نعم خطّأ موقفهم وفرق بين تخطئة الموقف، و بين اتهام الدوافع.
وأمّا معاوية، فكان الإمام على بصيرة تامة أنّه كان يطلب الباطل، ويتحرك من أجل الباطل.
فيجب علينا أن نتعلم من هذا درساً كبيراً.
فالذين يختلفون معنا في الرأي وفي الموقف، فإن حصلت لدينا القناعة بخطّأهم في الرأي أو في الموقف، فمن حقنا أن نخطأهم، ولكن ليس من حقنا أن نتهم دوافعهم إلَّا إذا توفّرت الأدلة الكافية على ذلك.
القاعدة الإسلامية تأمرنا أن نحمل فعل المؤمن على الصحة، والأحاديث تقول: احمل فعل أخيك على سبعين محمل. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملا".
وفي حديث آخر: "من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال"، وهذه التوجيهات لا تلغي ضرورة الحذر من (محاولات الاختراق)؛ فقد يقتحم الأوساط المؤمنة أناس يتمظهرون بمظهر الدين والصلاح والالتزام وهم يحاولون الإساءة والكيد للمؤمنين وللدين.
فيجب أن يملك المؤمنون الوعي والبصيرة في رصد كل العناصر المشبوهة إذا قامت القرائن الكبيرة التي توجب الشك، ومع التأكيد – مرة أخرى – أن لا يتسرعوا في الاتهام، وأن لا يرتجلوا التقويم والمحاسبة، فقد هيمن على الكثير من الناسٍ حب الطعن والاتهام..
الأمر الثالث:
أن لا نلغي الآخر الذي نختلف معه في الرأي وفي الموقف.
إذا كان آخر ما توصل اليه منطق العصر، وشفافية التعاطي مع الآخر (أننا على صواب يحتمل الخطأ، والآخر على خطأ يحتمل الصواب"، فيجب أن لا نعتبر الصوابية المطلقة في جانبنا، والخطأية المطلقة في الجانب الآخر، بل نضع احتمال الخطأ عندنا ولو بنسبة واحد في المئة، واحتمال الصواب في الجانب الآخر ولو بنسبة واحد في المئة، وهذا يخفف من غلواء الموقف، ويخلق الانفتاح على الآخر.
أقول هذا آخر ما توصل اليه منطق الحوار وشفافية الحوار في هذا العصر. أمّا المنهج الإسلامي في الحوار فقد تجاوز ذلك بكثير..
لنقرأ هذا النص القرآني:
(وإنّا أوإيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)
فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وهو يمثل الحق كل الحق، والآخر يمثل الباطل كل الباطل، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله شاكاً فيما لديه، إلا أنّه صلى الله عليه وآله وهو يمارس الحوار يضع نفسه والطرف الآخر على حد سواء، في مسار البحث عن الحقيقة، هذا الأسلوب له معطيات كبيرة..
- يجتذب الآخر إلى دائرة الحوار
- يخفف من حساسيات الآخر الفكرية أو المذهبية أو السّياسية
- يفتح الآخر على أفكارنا
إنَّ غياب المنهج القرآني في الحوار عقّد حالة التواصل مع الآخر الذي نختلف معه عقيدياً، أو مذهبياً، أو سياسًيا، أو فقهياً، أو ثقافياً.
مشكلتنا أننا لا نتحاور، وإذا تحاورنا لا نفهم أسلوب الحوار..
نواجه الآخرين دائماً بالرفض المطلق، ونضيق حينما يناقش الآخرون أفكارنا.
حينما نطرح قضايانا العقيدية، أو المذهبية، أو السياسية، والتي نؤمن بها إيمانا قطعيًا، حينما نطرحها قضايا قابلة للنقاش والأخذ والعطاء، هذا لا يعني أننا نعيش حالة الشك فيما عندنا وإنّما الأسلوب الحواري القرآني الذي يجذب الآخرين إلى دائرة الحوار، ويشدهم إلى أجواء الأفكار التي نؤمن بها.. وهكذا من خلال هذه الأمور الثلاثة:
- أن نفتح قلوبنا للآخر
- أن لا نتهم دوافع الأخر الذي يختلف معناً في الرأي أو في الموقف
- أن لا نلغي الآخر
نستطيع أن ندخل قلب الآخر وبالتالي يسهل الطريق للدخول إلى عقله، أمّا إذا فشلنا في الدخول إلى القلب فإنّه سوف يتعسر علينا الدخول إلى العقل.
الأساس الثاني من أسس الحوار:
أن يكون هدف الحوار هو (البحث عن الحقيقة).
الحقيقة بنت البحث والحوار.. لا يمكن أن نفرض الحقيقة على الآخرين فرضاً بلا بحث ولا حوار. فيجب أن لا نتعقّد من الحوار مادام حواراً يبحث عن الحقيقة، والحوار الباحث عن الحقيقة يجب أن يكون (حواراً موضوعياً).
والحوار الموضوعي له معطيات:
1/ يوفّر لنا فرصة (المحاسبة الذاتية لأفكارنا
2/ يهيئ نفسية وعقلية الآخر لقبول أفكارنا
3/ يجنبنا اعتماد الوسائل غير المشروعة في الحوار
من الأسس الهامة في الحوار، أن نتحاور بموضوعية.. أن نجعل الوصول إلى الحقيقة، والخطوط العامة للحوار الموضوعي الهادف:
- أن لا نتحاور من أجل الحوار، و إنما من أجل الوصول إلى (الحقيقة)
- أن لا نتحاور من أجل ان نؤكد (أنفسنا) وإنما من أجل أن نؤكد (الحقيقة)
- أن لا نتحاور من أجل أن (ننتصر) وإنما من أجل أن تنتصر (الحقيقة)
- أن لا نتحاور في القضايا الاستهلاكية على حساب القضايا (الحقيقة)
- أن لا نتحاور في (العناوين الصغيرة) وننسى (العناوين الكبيرة)
إنّ حوارتنا غالباً ما تنحرف عن الموضوعية نتيجة وجود مجموعة مؤثرات ضاغطة ومن هذه المؤثرات:
- المؤثرات اللاشعورية؛ فالمخزون اللاشعوري له دور خطير في توجيه أفكار الإنسان وعواطفه وسلوكه، فالمهم هنا ونحن نتحدث عن الحوار أن نؤكد أنَّ (المؤثرات اللاشعورية) قد توجه الحوار توجيهاً بعيداً عن الموضوعية.
- المؤثرات الفكرية؛ فمن الصعب جداً أن يتجرد الإنسان من موروثاته الفكرية، و من الصعب جداً أن يحاسب الإنسان هذه الموروثات، وبالتالي تشكّل هذه الموروثات قوة ضاغطة على مسار الحوار.
(وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنُا ما وجدنا عليه أباءنا) المائدة / 1.4
(قالوا أجئتنا لتلفتنا عمّا وجدنا عليه آبائنا) يونس / 78
(قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنّا على آثارهم مهتدون)، (قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنّا على آثارهم مقتدون) الزخرف / 22 ، 23
فحتى لو كانت هذه الموروثات تشكّل (الحقيقة) من خلال القناعة العلمية ففي حالة الحوار يجب على الإنسان أن يحاور بروح متجردة، حتى يمكن أن يوصل قناعاته للأخرين.
الأجواء الضاغطة:
تشكّل الأجواء المتحركة حول الإنسان قوة ضاغطة تؤثر في وعي الإنسان وفي نفسيته، وفي مواقفه. ونعني بهذه الأجواء:
- الأجواء الثقافية
- الأجواء الاجتماعية
- الأجواء السياسية
- الأجواء الإعلامية
وربمّا تكوّن هذه الأجواء (عقلاً جَمْعيًا) يفقد من خلاله الإنسان (عقله الخاص)، وقد أشار القرآن إلى هذه الظاهرة (ظاهرة هيمنة العقل الجمعي)، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وآله في حواراته مع المشركين، يدعوهم إلى أن ينفصلوا عن الجو الاجتماعي الذي يعيشون فيه، حتى يستطيعوا أن يفكروا بحرية بعيداً عن تأثيرات العقل الجمعي الذي يهيمن عليهم.
(قل إنّما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلَّا نذير بين يدي عذاب شديد)
كم في واقعنا الاجتماعي من أجواء تشوش حرية الإنسان في التفكير النزيه ومن خلال هذه الأجواء تأتي الحوارات وتأتي التقييمات للأفكار وللأشخاص بعيدة كل البعد عن الموضوعية والنزاهة والتجرد، وحينما يقع الناس تحت تأثير هذه الأجواء يتبلّد فهمهم للأمور، و حتى حينما يقرأون أو يسمعون يمارسون ذلك بطريقة مشوشة.
مشكلة الكثيرين أنهم مأسورون لهذه المؤثرات حينما يحاورون وحينما يقيمّون، وإن كانوا يوهمون أنفسهم ويوهمون الآخرين أنهم ينطلقون من دوافع مبدئية، وكثيراً ما يغلّف بعض الناس أهدافهم الشخصية بأغلفة مبدئية بشكل شعوري أو لا شعوري، ومتى يكتشف هؤلاء أنفسهم أو يكتشفهم الأخرون؟ حينما تصطدم الأهداف الشخصية مع الأهداف المبدئية، فهل يضحي هؤلاء بأهدافهم الشخصية في سبيل الأهداف المبدئية أم العكس هو الصحيح؟
التقوى والورع الضمانة الوحيدة لحماية الإنسان من الوقوع في أسر هذه المؤثرات الخطيرة، المسألة تحتاج إلى وقفة جريئة وصادقة مع النفس لمحاسبة الدوافع في داخلنا والتي لا يعلمها إلا الله تعالى.
الأساس الثالث من أسس الحوار:
أن نؤكّد على نقاط الاتفاق أولاً، هذا هو المنهج القرآني في الحوار.
(قل يا أهل الكتابِ تَعَالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألاً نعبدَ إلَّا الله، ولا نشركَ به شيئاً، ولا يتخِذَ بعضنُا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون) آل عمران / 64
حينما نواجه نقاط الخلاف رأساً نعقّد حالة الحوار، فحتى يحقق الحوار أهدافه فيجب أن يتوفر على الأجواء الملائمة.
إن من أهم أسباب التوتر في الحوار أن نبدأ بالنقاط الحادة الساخنة.
يجب أولاً أن نؤكد على نقاط الاتفاق والتلاقي، وهذا المنحى في الحوار له عدة معطيات هامة:
1/ يخّف الكثير من التشنجات
2/ يفتح القلوب والعقول
3/ يزيل التعقيدات
فحينما نريد أن نحرك الحوارات الفكرية، أو العقائدية، أو المذهبية، أو السياسية، أو الاجتماعية، فيجب أن نفتش عن (الأرض المشتركة) أولاً ثم نتحاور فيما نختلف فيه.
فحينما يكون الحوار (حواراً إسلامياً – علمانياً) فهناك القيم الإنسانية والوطنية تمثل أرضاً مشتركة.
وحينما يكون الحوار (حواراً إسلامياً – مسيحياً) فهناك الإيمان بالله والأنبياء والمعاد يمثل أرضاً مشتركة.
وحينما يكون الحوار (حواراً شيعياً – سنياً) فهناك الأصول الإسلامية العامة والأساسيات الدينية تمثل أرضاً مشتركة.
وحينما يكون الحوار (حواراً شيعياً – شيعياً) فهناك الأسس الكبيرة جداً والتي تمثل الأرض المشتركة.
من المؤسف جداً أنّ الحوارات المتحركة في واقعناً تحاول دائماً أن تحرق الأرض المشتركة، وأن تنسف القواسم الموحدة، و هذا المنهج خاطئ جداً ويعبّر عن جهل بالمنهج القرآني في الحوار، وعن التطرف تجاه الآخر، كما يعبّر عن (العقد الداخلية) فالحوار لا ينطلق من (موقع العقل) ولا ينطلق من (روح موضوعية)، ولا من دوافع نظيفة، وإنّما ينطلق من دوافع شخصية بحته، من هنا تبرز حالات الإلغاء والإسقاط والتشهير.
هنا تثار إشكالية تقول:
أليس من (الأساسيات الإيمانية) أن يكون الإنسان المؤمن (مبدئيا وحِدّياً في مواقفه) بحيث لا يتنازل ولا يساوم؟ وقد أكّد القرآن ذلك (أشدّاء على الكفار رحماء بينهم).. (قل يا أيّها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين)!
والجواب؛ هناك حالتان:
الأولى: حالة المواجهة والتحدّي والصراع، وفي هذه الحالة يجب أن يكون الإنسان المؤمن حدّياً صارماً في موقفه.
الثانية: حالة الحوار والدعوة والتبليغ، وفي هذه الحالة يجب أن يكون الإنسان المؤمن مرناً منفتحاً شفافاً.
ولا تعني المرونة والانفتاح المساومة والتنازل، وإنّما هو الأسلوب الحكيم المنفتح. (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
الأساس الرابع من أسس الحوار:
أخلاقية الحوار.
المنهج القرآني في الحوار يؤكد على (أخلاقية خاصة للحوار)، وفي أخلاقية الحوار يؤكّد المنهج القرآني على مسألتين:
- لغة الحوار
- أدب الإختلاف
لغة الحوار:
ومن الشروط الأساسية في لغة الحوار كما يؤكد المنهج القرآني:
أولاً: أن تكون لغةُ الحوارِ نظيفة، فلا يجوز أن يعتمد الحوار (لغة السب والتشهير والتسقيط)، فالقرآن يشجب لغة السب حتى مع الكفار.
(ولا تَسُبُّوا الذين يَدْعونَ من دُونِ اللهِ فَيسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بغير علم).
ولغة السب تعبّر عن عجز وإفلاس، كما تساهم في تأجيج الخلافات وتشنيج العلاقات، وبالتالي لا نستطيع أن نتعرف على الحقيقة.
فالقرآن يشجب لغة السب ويؤكد على اعتماد (اللغة النظيفة)
(وجادلهم بالتي هي أحسن)
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن)
وحينما يؤكد القرآن على (اللغة النظيفة) لا يعني هذا عدم (البراءة والرفض) للكفر والضلال والانحراف ومواجهة قوى الشر والفساد في الأرض.
ثانياً: أن تكون لغة الحوار لغة لينة.
(فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك)
(اذهبا إلى فرعون إنّه طغى فقولا له قولاً ليناً)
فمن خلال (الكلمة اللينة) نستطيع أن نفتح القلوب، وبالتالي نفتح العقول.
ومن خلال الكلمة اللينة نخفف التشنجات ونعالج الأفكار في جو هادئ.
إنَّ الجو المنفعل يعقّد الكثير من التفاهم والتحاور.
وهنا نؤكد مرة اخرى أنَّ اللغة اللينة هي لغة الحوار والدعوة، أما إذا كان الموقف هو المواجهة والصراع والتحدّي فلا بد من الكلمة القوية الشديدة التي تعبر عن (عنفوان) الإيمان، وصلابة العقيدة.
وحتى في حالات الحوار والدعوة حينما يؤكد المنهج الإسلامي على (الكلمة اللينة) فإنّما هو في طبيعة الألفاظ، وأمّا الأفكار والمضامين فيجب أن تكون قوية صلبة في الصياغة وفي الحجة والبرهان، وكذلك يجب أن لا تحمل أيّ لون من ألوان المساومة والتنازل.
المسالة الثانية: أدب الاختلاف.
حينما نختلف في الرأي يجب أن نملك (أدب الاختلاف)، وحينما نعجز أن نتفق فيجب أن نتعلم كيف نختلف، ومن أدب الاختلاف، الابتعاد عن لغة (التشهير والتسقيط)، وهذا لا يعني عدم التعرية للأفكار والمبادئ الضالة والمنحرفة.
هنا نواجه أفكاراً ومبادئ ضالة ومنحرفة من خلال النقد والمناقشة، ومن خلال لغة العلم والفكر، وليس من خلال لغة التشهير والتسقيط، وربما يتوهم البعض أنّ (احترام الرأي الأخر) يعني المجاملة الفكرية أو المجاملة السياسية أو المجاملة الاجتماعية.. الأمر ليس كذلك..
إنَّ احترام الرأي الأخر لا يعني الإقرار بالأفكار التي تتنافى صراحة مع المبادئ والقيم التي نؤمن بها.. ولا يعني السكوت عن مواجهتها والتصدّي لها، وتحصين المجتمع من أخطارها، وليس هذا إلغاء الآخر، ولا يتنافى هذا مع أدب الاختلاف.
فمن الجور على الحقيقة أن يصادر الإنسان قناعاته العقيدية والمذهبية والثقافية والاجتماعية والسَّياسية، بدعوى الشفافية والمرونة و احترام الرأي الآخر.
الرأي الآخر تارة يمثل وجهة نظر فيما هي المسألة الثقافية وفيما هي المسألة الفقهية، وفيما هي المسألة الاجتماعية، وفيما هي المسألة السياسية. وتارة يمثل الرأي الآخر التنافي الصريح مع المبادئ والقيم والثوابت التي يؤمن بها الإنسان المؤمن، فإذا كانت الحالة الأولى تسمح لنا باحترام الرأي الآخر وإن اختلفنا معه، فالحالة الثانية لا تسمح بذلك.