حقُّ المناقشة العلمية
روى شيخنا الكليني (نوَّر الله مرقده الشريف) بسنده إلى جابر بن يزيد (رحمه الله تعالى)، عن أبي جعفر الباقر (عليه السَّلام)، قال: "اسْمَعْ وعِ وبَلِّغْ حَيْثُ انْتَهَتْ بِكَ رَاحِلَتُكَ؛ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السَّلام) خَطَبَ النَّاسَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) وذَلِكَ حِينَ فَرَغَ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ وتَأْلِيفِه، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّه الَّذِي مَنَعَ الأَوْهَامَ أَنْ تَنَالَ إِلَّا وُجُودَه وحَجَبَ الْعُقُولَ أَنْ تَتَخَيَّلَ ذَاتَه لِامْتِنَاعِهَا مِنَ الشَّبَه والتَّشَاكُلِ"، إلى أن قال: "ومَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوه الآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأِ"[1].
قال في مرآة العقول: "(من استقبل وجوه الآراء)؛ أي استشار الناس وأقبل نحو آرائهم وتفكر فيها ولا يبادر بالرد، أو تفكر في كل أمر ليقبل إليه الآراء والأفكار"[2].
أمَّا (الاستقبال) فهو التوجُّه نحو ما يكون المُتَوجَّهُ إليه (مُستَقبَلًا)، وبعد الإضافة فإنَّ التوجُّهَ ليس للآراء؛ ولكن لوجوهها، فيتحصَّل أنَّ التوجُّهَ والإقبالَ على مَا تَحْمِلُهُ الآراءُ المُخْتَلِفَةُ مِنْ وجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ طَريقٌ لمعرفة مواقع الخطأ، كما ومِن ذلك تتكون الخبرات وملكات التشخيص والتمييز.
ثُمَّ إنَّ المُستَقبِلَ لِوجُوه الآرَاءِ يقفُ على مواقع الخطأ، وتبدأ آراؤه الخاصَّة في التكون والتشكل والنشوء، فيكون بعد حين من ذوي الآراء الذين يَسْتَقْبِلُ العُقَلاءُ وجوهَها. وبذلك يتَّضح أنَّ الخللَ في حَرَكَةِ اسْتقْبَالِ وُجُوهِ الآرَاءِ مَرَضٌ سرعان ما يشلُّ الحِراك العلمي ويعطب مفاصله.
أنواع الخلل في حركة استقبال وجوه الآراء:
ضِيقُ القابلية العلمية:
قد يتميَّزُ مُحَصِّلٌ بقدرته على تتبع الآراء العلمية، وجمعها، ونظمها في تسلسل بحثي صحيح بعد تقليب وجوهها تقليبَ دراسة وفهم ونظر، حتَّى ينتهي إلى رأي وازن، إلَّا أنَّه يضعف عند تعرُّضِ وجُوهِ رأيِهِ للتقليب والمناقشة، فيضيق عن مواصلة استقبال وجوه الآراء، وسرعان ما يتحول الأمر عنده إلى مجابهة شخصية يكون حكمه فيها حكم من تأخذه العِزَّة بالإثم!
ولو أنَّه يتريث وينظر ببصيرة وحكمة، لوجد أنَّ في استقبال الآخرين لوجوه رأيه مقدمة لآراء سوف يستقبل هو عن قريب وجوهها، وهكذا تتنامى الحركة العلمية.
رِهابُ الفهم وطرح الرأي:
إنَّه لمِنَ المُسلَّم بِهِ قيام الاعتبار الخاص للرأي العلمي بالنظر إلى مصدره؛ فكُلَّما كان الاسم لامعًا، كان لرأي صاحبه شأن واعتبار، غير أنَّ هذا لا ينبغي أن يكون مانعًا عن طرح رأي في قباله، أو التعرُّض له بالمناقشة والنقد طالما أنَّ كلَّ ذلك يخضع لاعتبارات الأدب واللياقة والأخلاق.
لقد كان لطرح الرأي الرصين دور بارز دائمًا في تحرك عجلة النمو العلمي، ومن أبرز الشواهد على ذلك ما فعله الشَّيخ محمَّد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلِّي والمعروف بابن إدريس (543 – 598 للهجرة) مِن تحرير الجهود العلمية من دائرة آراء شيخ الطائفة الطوسي محمَّد بن الحسن بن علي بن الحسن (385 – 460 للهجرة)؛ بعد إحداثه لحركة نوعية تاريخية في الفقه الشيعي؛ وذلك بتصديه لمناقشة آراء شيخ الطائفة ونقدها، والطرح في قبالها، ما جعله في ذلك الوقت محلَّ تساؤل وعدم ارتياح من بعض الأعلام، إلَّا أنَّنا اليوم نعيش الحياة التي بثَّها (رضوان الله تعالى عليه) في رئة الحركة العلمية الشيعية.
قد يُخَطِّئ أحدُ العلماءِ كلَّ آراء ابن إدريس (رحمه الله تعالى)، وينتصر لكلِّ ما ردَّه من آراء الشَّيخ الطوسي (رحمه الله تعالى)، غير أنَّ حتَّى هذا ليس إلَّا ثمرة من ثمار ما صنعه ابنُ إدريس (رحمه الله تعالى). فتأمَّل.
لم يقل الحلِّيُّ: أين أنا مِنْ عَلَمِ الأعْلَام الطوسي (طيب الله تربته)؟ بل قال في خاتمة كتابه السرائر: "إلى ها هنا يحسن الانقطاع، ويذعن بالتوبة والإقلاع من زللٍ إن كان فيه أو خلل، ونقسم بالله تعالى على من تأمَّله أن لا يقلِّدنا في شيء منه، بل ينظر في كلِّ شيءٍ منه نظر المستفتح المبتدئ، مطرحًا للأهواء المزينة للباطل بزينة الحق، وحب المنشى والتقليد، فداؤهما لا يُحسِنُ علاجه جالينوس، وتعظيم الكبراء وتقليد الأسلاف والأنس بما لا يعرف الإنسان غيره يحتاج إلى علاج شديد.
وقد قال الخليل بن أحمد العَروضي (رحمه الله): الإنسان لا يعرف خطأ مُعَلِّمه حتَّى يجالس غيره"[3].
نعم، لا ينبغي، ولا يحسُنُ مِمَّن لا يمتلك أدوات الفهم العلمي ومقدماته التجرُّؤ على ساحة العلماء، وإنَّما الكلام لمن فازوا بحظٍّ من العِلمِ والمعرفة.
مغالطة الضعف والقوَّة:
ما لم يطرح طالبُ العلمِ فهمه، وما لم يُعرِّضه للنقد، والردِّ، فإنَّ يوم تكامله حينها أبعد ما بين المشرقين!
نسمع كثيرًا من أهل العلم والفضل منعهم لطلابهم وتلامذتهم عن نشر مقالاتهم وبحثوهم العلمية؛ لكونها ضعيفة، ولكونهم لا يزالون في أطوار التحصيل، وعليهم الانتظار حتَّى يقوى عود العلم فيهم.
هذا، في النظر القاصر، غلطٌ، وفهمٌ خاطِئٌ لواقع التنامي العلمي في شخصية طالب العلم والتحصيل؛ حيث إنَّ هذه القوة التي يطلبها الأساتذة لتلامذتهم لا تتكون بغير تعريضهم للنقد، وللأفهام المتنوعة، والأذواق المعرفية المتعدِّدة، وكلَّما اشتغلوا بقراءة نقود وأفهام الآخرين لما يكتبون، تنامت في نفوسهم ملكات التصحيح والإنضاج لما يحملون من أفكار وأفهام، بل ومن المهمِّ الانتباه إلى أهميَّة الخطأ في كافَّة المراحل العلمية؛ حيث إنَّ التصحيح ثمرةٌ لاكتشاف الأخطاء، كما وإنَّ انحسارها ثمرةٌ أخرى لاكتشافها والاهتمام بتصحيحها.
نَقَلَ ثاني الشهيدين (قدَّس الله نفسه الزكيَّة) رواية عن الحسن بن علي (عليهما السَّلام) أنَّه دعا بنيه وبني أخيه، فقال: "إنَّكم صِغَارُ قَومٍ، ويُوشَكُ أنْ تَكُونُوا كِبَارَ قَومٍ آخَرين، فَتَعَلَّمُوا العِلْمَ؛ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُم أنْ يَحْفَظَهُ فَليَكْتُبهُ وليضعه في بيته"[4]. والوجه في نقلنا لهذه الرواية هو أنَّ الصغار في مدارج العلم لن يكونوا كبارًا ما لم يتعرَّضوا لِما يُنضِجهم ويقيم أصلابهم، وليس ذاك إلَّا بالمناقشة وما في حكمها.
القصور في الطموح العلمي:
يعتقد بعضٌ بأنَّ طالبَ العِلمِ البَعيدِ عَن الحَواضِر المعروفة لا يُطلب منه أكثر من التبليغ نقلًا عن الغير، ولا شيء غير ذلك.
لقد أدَّى هذا النظر الميِّت إلى تراجعات متوالية في مجموعة أمور على مدى عقود من الزمن، من تلك التراجعات:
- التراجع في صلابة إيمان الناس.
- التراجع في قيام الحلول الفقهية لمشاكل الناس.
- التراجع في حضور الكلمة الفقهية الحاكمة.
- التراجع في مقاومة البِدَع والانحرافات.
وغير ذلك من تراجعات أضرَّت بالمؤمنين فعلًا. وما كان ذلك ليكون لو انَّنا حافظنا على راية الحراك العلمي الوازن في بقعة يكون لطلبة العلم فيها حضور.
لا يصحُّ، ولا يمكن القبول بقصر الدرجات العليا للعلم على مناطق أو أزمنة خاصَّة ومعيَّنة، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفات صريحة لعموم النصوص الشريفة الواردة في الحث على طلب العلم والنظر إلى تحصيل أرفع درجات الفقاهة، حتَّى نُقِل عن بعض مشايخنا البحارنة قولهم: (يجب أن يكون في كلِّ صِقعٍ فقيه).
إنَّ لعقلية استنقاص النفس من الآثار ما جعلنا في هذا التراجع المؤذي، كما وأنَّها قد أقعدت ذوي الهمم واكسلت شخوصهم.
موت، أو ضعف الهِمَم الفاعلة:
مِنَ الأهمية بمكان أن يعلم كلُّ ذي عقلٍ بأنَّ السعي لتكوين حواضر علمية في غير مكان ومكان، لا يعارض الحواضر العلمية القائمة فعلًا، بل أنَّ في قيام الحاضرة الواحدة تكاملٌ مع غيرها من الحواضر.
لذا؛ فإنَّ من يمتلك حبًّا حقيقيًا لمواقع التحصيل العلمي على وجه البسيطة، ينبغي له أن يستشعر مسؤوليته تجاهها بتحمُّل ما يمكنه تحمُّله في سبيل تكثيرها وتحقيق التعاضد العلمي فيما بينها بما يوسِّع آفاق الفهم والمعرفة.
عود على بدء.. حقُّ المناقشة:
إنَّ للمناقشات العلمية من الحقوق التي ما إن نؤدِّي شيئًا منها إلَّا وكان سببًا في تكوين أجوَاءٍ عِلميَّةٍ بِحَسَبِهِ، وكلَّما ازدادت وتيرة الوفاء بتلك الحقوق، ازداد معها التنامي في نشوء حِراكٍ علميٍّ له وزنه وحضوره.
أقولها عن قناعة راسخة: لا يحتاج الأمر إلى أكثر من استنهاض للهمم، وتشمير عن سواعد الجد، واتِّخاذ خطوات ثابتة نحو القراءة لنتاج بعضنا البعض، والتعرُّض له بالتقديم، والنقد، والتعليق، والمناقشة، وغير ذلك ممَّا يخلق فينا الأجواء العلمية المطلوبة.
أمَّا الانكفاء على النفس بشتى أشكاله، فلن يزيدنا إلَّا تراجعًا في عقب تراجع. ولو أنَّ الفم يخلو من الماء... ولكنَّه ليس كذلك، فأُمسِكُ القَلَمَ ليعود كالقطا..
السَّيد محمَّد بن السَّيد علي العلوي
غرَّة شعبان 1443 للهجرة
البحرين المحروسة
...........................
[1] - الكافي - الشيخ الكليني - ج 8 – ص 18 - 22
[2] - مرآة العقول – الشيخ المجلسي – ج25 ص50
[3] - كتاب السرائر الحواي لتحرير الفتاوي – ابن إدريس الحلِّي – ج3 ص686
[4] - منية المريد - الشهيد الثاني - ص 340