ومن الأسس المهمةِ عند البحث في المسائل العقديّة الالتفات إلى مسألة التقديسِ والشك. أما الشك، فالمراد (بادئ القول) منه ترك التسليم بقضية ما دون البرهنة الصحيحة بالمقدمات السليمة عليها. وأما التقديس: فيراد به (بادئ القول) وصفُ تلك الحالة الجليلة من حالات التعظيم والتنزيه والاحترام الفائق، والخضوع التام لحقيقة من الحقائق دون التفكير في الشك فيها.
والوهلة الأولى للجمع بين الشك والتقديس، يبدو منها التعارض بينهما؛ حيث إن التقديس يقف عائقًا أمام الشك، فما يُقدّسُ لا يُشكُّ فيه.
إلا أن الصحيح كون الشك والتقديس يكمّلُ بعضهما الآخر، وذلك أن الإنسان عندما يصل بعقله لنتيجةٍ وفق مقدماتٍ صحيحة منتجة، من اللازم له إحاطة تلك النتيجة بهالة تقديسٍ وحدودٍ عالية. وقد تسأل لماذا؟
إن التقديس يعني (فيما يعنيه) خضوعً تامًا، يكون الخاضع فيه قوى النفس العمليّة، والمخضوع له القوى الإدراكية. كيف هذا؟
الإنسان – أي إنسان – له عدة قوًى نفسيّة، منها عقليّة وشهوية وغضبية ووهمية، والقوة العقلية تتشعب شعبتين: العقل النظري والعقل العملي، أما العقل النظري:
فهو ما يستفاد منه في مواضع الإدراك والعلم. وأما العملي: فهو ما يستفاد منه في مجال الفعل والأفعال. ووظيفة العقل النظري (العِلْمي) الإدراك والتفكير والتوصُّل للنتائج العقلية. ووظيفة العقل العملي، وبقية القوى النفسية أن يخضعوا لسلطان العقل النظري؛ باعتباره القائد العامّ في الإنسان، الذي به يوزن، وبه يثاب، وبه يُعاقب، سواء من الله (جل وعلا) أم من غيره.
فلو أدركت نفسٌ حقيقةً ما، وأذعنت لها بواسطة العقل النظري، تقتضي طبيعتها وفطرتها خضوع العقل العملي وبقية القوى للحقيقة المُدرَكة آنفًا؛ وعلة هذا أن بقية القوى وإن كانت مقتدرةً على الإدراك؛ إلا أنها تعرف أكفئية العقل النظري وأقدريته على تمييز المدركات وتعرّفها، ولو لم تسلّم لهذا لكانت في غيٍّ وضلال.
تقديسٌ أعمى، وتقديس بصير
وقد صار واضحًا الفرق بين تقديسين: تقديسٌ مبنيٌّ على خرافاتٍ، أو فلنقل مقدماتٍ عقيمة. وبين تقديسٍ أقامته الحجّةُ والبرهان.
الشك: حسنٌ وقبيح
تارةً يكون الشكُّ في ما أنتجته المقدمات الصحيحة، وأخرى في غيره: سواء فيه المقدس أم غيره.
أما الأوّل، فلا شكّ في استقباح العقل له واستهجانه إليه؛ فإن وصولَ الإنسانِ لحالةٍ من العلم الصحيح ثمّ الشكُّ فيه، يجعله في حالةٍ من التذبذب الدائم والمرض النفسي، ما ينتج منه السلبي من الأمور والمنكَر العظيم، يقول الله تعالى: (وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون).
أمّا الثاني، فهو قنطرةُ الحقيقة، وسبيل المعرفة؛ حيث إن الغاية من الشك الوصول إلى نتيجةٍ صحيحة يُستقرُّ عليها، تُذعن النفس لها وبها تلتزم.
إن الإدمان على الشكِّ مرضٌ نفسيٌّ خطير الأثرِ والنتيجة، قد تمتد عواقبه الوخيمة على النفسِ في دنياها وأخراها: أما ما في الدنيا فالاضطراب الشخصي والتزلزل الاجتماعي. وأما ما في الآخرةِ فقد يكون في بعض حالاته إنكارًا لوجود الله سبحانه وتعالى، كما يروى عن أحد الفلاسفة المسلمين إدمانه على الشكِّ، ما أدّى لموته منكرًا لوجود الفاطر عزّ وجلّ!
من هُنا لم يمكن القول بتجميد التقديس للإبداع العلمي الناتج عن الشك، فإن ما تُوصِّل إليه فليُبحث في غيره!
على أن الخلط قد يقع، فقد يتوصّل بالشك إلى موضوع جزئيٍّ من كلي، فيُتركُ الكلّي عن البحث ويُقدّسُ بأكمله؛ لأن جزءً من أجزائه قد تُوصّل لنتيجته! وما أكبره من خطيئة، حيث قد يستغله الممارون.
تلك أمةٌ قد خلت!
فإن قلت: إن كل ذاك الكلام كان على المبنى الفلسفي الأفلاطوني القائل بانقسام النفس لقوىً متعددة، فلا يشمل هذا ما عليه النهضة العلمية الحديثة من فلسفةٍ ماديّة بحتةٍ منكرةٍ لمثل هذه الأمور!
قلت: إن الفلسفة المادية، وإن كانت منكرةً فيما يظهر منها لهذه الأمور؛ إلا أنها تعترف (بين سطورها) بهذه الحقيقة، بل وتؤكد عليها، لكن بمسميات أخرى. لكن هذا الكلام لا يعني استهانةً بالتطوّر العلمي الذي أحرزته هذه الفلسفة، سواء على صعيد المادة أم على صعيد النفس، غير أنه في نفس الوقت لا يعني قبولًا لكل شيء.
أضف إليه أن الفلسفة المادية القائمة اليوم، لو رُجِع لتأريخ قيامها الفعلي، لوجدنا أن عاملًا قويًّا في ظهوره كان ردّة الفعل العكسية ضد التصرفات الكنسيّة الشنيعة التي طالت أوروبا في القرون الوسطى، والتي توّجت بقيام الثورة الفرنسية. وقد حرت هذه الردّة بفصل الدين (الحامل الأكبر لهذه الفلسفة) عن باقي شؤون الحياة، وجعله علاقةً فردية بين العبد وربه فقط لا غير، ومن غير الخفي الخلط الواضح بين المفهوم والمصداق (النظرية والتطبيق)، وإن شئت فراجع كتاب (صور من الجاهلية في القرن) فيه تفصيل أكثر.
لا للتبعية العمياء!
وبمقدار ما يحتاجُ المرءُ الواعي في حياته للشكِّ الحسن المحمود، يتضح السقم الواقعي المرير في المجتمعات، سواء فيها المسلمة وغيرها، الذي يجعل الجيلَ تابعًا للجيل السابق دون معرفةٍ وتحرٍّ، بل لأنّهم وجدوا آباءهم على أمة وهم على آثارهم مقتدون.
إن الاتّباع تارةً يكون اتباعًا عن معرفةٍ وعلم، وأخرى يكون تقليدٍ وجهل.
في الأمور العقديّة (أصول الدين)، لا بد أن يكون الاتّباع للإسلام عن معرفةٍ وعلمٍ ولو بأدنى مراتبه، وفي الفروع لا مانع من أن يكون الاتباع تقليديًا؛ حيث إن العقيدة هي أساس المجتمع، ونواةُ حياة الأفراد، والعلاقات التي تشكل المجتمع، والتي دونها لا تستقيم شريعة ومنهاج.
بين (التماثل VS الشك – التقديس – التبعية)
بقي معرفة أن نظرية التماثل الاجتماعية، والتي جعلها بياجيه مكوّنًا أساسيًا مع ثلاثة مكونات للمعرفة الفردية لا يمكن لنا إمضاؤها من منظور إسلامي إن أريدَ بها تقرير الحتميّة والجبرية المعرفية في النتيجة؛ لما تمثله من تعارضٍ واضح لكل ما سبق.
***بتصرف من كتاب (إثارات في العقيدة الإسلامية) / مخطوط.
حسن الشيخ محمد آل سعيد
1 مايو 2014م
المدينة المنورة