دعاء الندبة بصيغته المعروفة من أكثر النصوص جلالة ومن أعلاها شأنا ومضمونا، ولا زال العلماء يواظبون عليه وينصحون بقراءته، سواء منهم المثبت والنافي له والمتوقف.
وهو مروي بطريقين ومتنين، وكلاهما رواهما ابن المشهدي في المزار وابن طاووس في مصباح الزائر وغيرهما، صرح الأخير فيه أن المعروف بالندبة هي زيارة (سلام على آل ياسين)، وهي مروية بطرق عديدة، لكنه روى لاحقا دعاء الندبة المعروف اليوم وسماه (دعاء الندبة).
ولم يثبت للدعاء سند متصل ولا نقل عن كتاب مشهور معتمد، وأما متنه ومضمونه فالإشكالات عليه قابلة للدفع، وأما محاولات تصحيحه بعلو المضمون فظنية لا ترقى كدليل.
فاحتمال صدوره غير منفي، لكن نسبته للناحية المقدسة لم يقم عليها دليل ناجز ولا تقريب نقي، وكذا احتمال كونه من إنشاء بعض العلماء -وهو اختيار بعض المحققين- غير قابل للطرح ما لم يقم على خلافه دليل علمي.
وأما العمل به من باب الرجاء أو التسامح، فلا يثبت الصدور كما هو واضح.
ووصيتي للمؤمنين أن يداوموا على قراءته وقراءة غيره مما يشد صلتهم بالإمام القائم عجل الله تعالى فرجه.
وتفصيل الكلام:
تداول على ألسنة العلماء عدة إشكالات وردها سواء بالنسبة لإثبات صدور الندبة -أو دعاء الندبة – أو دلالة بعض مفرداتها وجملها.
أما من جهة الصدور:
فروايتها بلغتنا مرسلة عن كتاب محمد بن أبي قرة الثقة المعاصر للنجاشي، أكثر السيد ابن طاووس النقل عن كتابه (عمل شهر رمضان).
عن البزوفري، الذي اعتمد عليه الشيخ المفيد في الرواية وترحم عليه كثيرا وكذا روى عنه ابن الغضائري، وروى عنه والطوسي بواسطة، ولم يوثق صريحا، وهو ممن روى عن أبي علي أحمد بن إدريس شيخ الكليني، فهو من طبقته ومعاصر لزمان الغيبة الصغرى.
رواها ابن المشهدي (ت 610هـ) في مزاره (أو المزار القديم الذي نسبه البعض للراوندي) قال:
"قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي قُرَّةَ: نَقَلْتُ مِنْ كِتَابِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سُفْيَانَ الْبَزَوْفَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الدُّعَاءَ، وَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَجَّلَ فَرَجَهُ وَفَرَجَنَا بِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَى بِهِ فِي الْأَعْيَادِ الْأَرْبَعَةِ"[1].
ولم ينص المشهدي على طريقه لكتاب أبي قرة، ومن غير المعلوم اشتهار الاعتماد على كتابه يومئذ حتى يستغنى عن إسناده، بل إن عصر ابن المشهدي هو أوائل العصور التي شهدت التساهل في النقل والإجازات والمناولات.
وأرسله كذلك معاصره التالي له السيد ابن طاووس (ت 664 هـ) في الإقبال، ولم يسنده، قال في الإقبال في أدعية يوم العيد:
"دعاء آخر بعد صلاة العيد، و يدعى به في الأعياد الأربعة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَ لَهُ الْحَمْدُ رَبِّ الْعالَمِينَ، وَ صَلَّى اللَّهُ عَلى مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِيماً.
اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلى ما جَرى بِهِ قَضاؤُكَ فِي أَوْلِيائِكَ"[2].
وصرح في مصباح الزائر أنه رواه عن بعض أصحابنا عن أبي قرة أبو الفرج، قال: "نقل بعض أصحابنا قال: قال محمد بن أبي قرة: نقلت من كتاب محمد بن الحسين بن سنان البزوفري رضي الله عنه دعاء الندبة، وذكر أنه الدعاء لصاحب الزمان صلوات الله عليه، ويستحب أن يدعى به في الأعياد الأربعة".
ومن غير البعيد أن يكون نقله عن ابن المشهدي.
والملاحظ أن ابن طاووس روى في مصباح الزائر في الفصل السابع عشر (في زيارة مولانا صاحب الأمر ع) عدة زيارات.
الزيارة الأولى: مرسلة تشبه في كثير من جملها ومقاطعها دعاء الندبة، قال بعد الاستئذان: "سلام الله وبركاته وتحياته وصلواته على مولاي صاحب الزمان".
والزيارة الثانية: قال فيها: "وَ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالنُّدْبَةِ خَرَجَتْ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمَحْفُوفَةِ بِالْقُدْسِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحِمْيَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَ أَمَرَ أَنْ تُتْلَى فِي السِّرْدَابِ الْمُقَدَّسِ وَ هِيَ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعْقِلُونَ وَ لَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ تَقْبَلُونَ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ سَلَامٌ عَلَى آلِ يَاسِين) ..." ورواها ابن المشهدي في مزاره بطرق عديدة يقرب اعتبارها.
ثم قال ابن طاووس بعد الزيارة السادسة:
"ويلحق بهذا الفصل المشار إليه دعاء الندبة، وما يزار به مولانا صاحب الأمر كل يوم بعض صلاة الفجر، وهي سابع زيارة له في هذا الكتاب، والعهد المأمور بتلاوته في حال الغيبة" وهي عين مسميات المشهدي للأدعية في كتابه، وهذا يؤيد أنه مقصوده ببعض الأصحاب هو ابن المشهدي صاحب المزار.
ورواها كذلك ابن السيد ابن طاووس في زوائد الفوائد، ذكره صاحب البحار وقال أنه لا يعرف اسمه[3].
ورواها أيضا علي بن السكون، قال المجلسي في بعض نسخ البحار: "ووجدته هكذا أيضا نقلا من خط علي بن السكون قدس سره"، ورجح المحدث الأرموي أن ما وجده المجلسي ونقله هو عين عبارة الشيخ محمد علي الجباعي في مجموعه (مجموع الشهيد الأول) الذي كان عنده، ونسخته موجودة اليوم في مكتبة كتاب خانه ملي في طهران، وتوفي ابن السكون في حدود (606 هـ) كما في كتاب هدية الأحباب للمحدث القمي.
والظاهر أن الأصل في الرواية هو مزار ابن المشهدي والآخرون إنما أخذوا عنه، أو أن بعض من قارب عصره لابن المشهدي قد رواه عن كتاب محمد بن علي بن أبي قرة، واحتمل هذا القول أيضا المحدث الأرموي في شرحه القيم لدعاء الندبة[4].
فالحاصل: أنه على كل طريق الحجية لا تثبت صحة إسناد لهذه الزيارة، ويبقى البحث في صحة الاستناد لها من وجوه أخر.
ولا يخفى أن المجلسي في (زاد المعاد) قد اشتبه في نسبة هذا الدعاء للصادق عليه السلام وأنه يقرأ في الأعياد!
وجوه أخر:
وقد تمسك جمع من العلماء بما ذكره ابن المشهدي أول الدعاء: "وَ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُ الدُّعَاءُ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَجَّلَ فَرَجَهُ وَ فَرَجَنَا بِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُدْعَى بِهِ فِي الْأَعْيَادِ الْأَرْبَعَةِ".
فإن العبارة الأولى تدل على انتسابه للناحية المشرفة، والثانية في سياق الرواية تثبت الاستحباب، ولم يعهد أن يتسامح العلماء في نسبة الأمور التوقيفية أو الأحكام الشرعية عن غير أهل العصمة عليهم السلام.
وأجاب عنه جماعة، منهم التستري صاحب قاموس الرجال – في رسالة معمولة للرد على الدكتور علي شريعتي حين شكك في صدور الدعاء – قال: "وظاهر قوله … يدل على أن البزوفري رواه عن صاحب الزمان ع وهو من إنشائه كدعاء الافتتاح، ويحتمل أن يكون من إنشاء البزوفري بمعنى لزوم قراءة هذا الدعاء له (عليه السلام) أي لفرجه وظهوره" [انظر ترجمة الرسالة للعربية في مجلة العقيدة العدد1 – 1435 ص 289 – ونشر الأصل في كتاب بيست رساله فارسي بتحقيق الشيخ رضا استاذي]
أقول:
مع تردد احتمال القائل للجملتين بين أبي قرة والبزوفري يتوسع الإشكال، وما ذكره التستري أحد الاحتمالات في نسبة الدعاء وليس ببعيد؛ فكتاب المزار للمشهدي وغيره من كتب الأدعية لم تلزم نفسها ذكر الروايات بأسانيدها، ولا التزم مصنفوها بعدم التصرف بالتعليق أو الاجتهاد بالبيان في أوائلها وأواخرها، بل كان بعضهم كابن طاووس والمجلسي لا يرون بأسا في إنشاء الأدعية والزيارات، حتى عاب الشيخ يوسف على ابن طاووس تبرعه بتوقيت الأعمال والمستحبات من قبل نفسه، وهو أمر لا يخفى صدق وقوعه على من طالع كتبه رحمه الله !، وقد يعتذر لهم في ذلك أنها مصنفات لم تعمل للرواية ونقل ألفاظها أكثر مما هي إرشادات وأعمال قربية تدخل تحت عمومات النوافل ولا يحرم فعلها فيتسامح في دليلها.
وقد يؤيد احتمال كون الدعاء من إنشاءات بعض العلماء وأنه احتمال غير منفي في سيرة بعضهم.
ما نقله السيد ابن طاووس عن كتاب أبي قرة (أدعية شهر رمضان) في دعاء الافتتاح، أنه نقل تلك الأدعية عن كتاب السفير الثاني رضي الله عنه، قال السيد:
"فمن ذلك الدعاء الّذي ذكره محمد بن أبي قرّة بإسناده فقال: حدّثني أبو الغنائم محمّد بن محمّد بن محمّد بن عبد اللَّه الحسني قال: أخبرنا أبو عمرو محمد بن محمد بن نصر السكوني رضي اللَّه عنه، قال:
سألت أبا بكر أحمد بن محمد بن عثمان البغدادي رحمه اللَّه ان يخرج إلىّ أدعية شهر رمضان التي كان عمّه أبو جعفر محمد بن عثمان بن السعيد العمري رضي اللَّه عنه و أرضاه يدعو بها، فاخرج اليّ دفتراً مجلداً بأحمر، فنسخت منه أدعية كثيرة و كان من جملتها:
و تدعو بهذا الدّعاء في كلّ ليلة من شهر رمضان، فانّ الدعاء في هذا الشهر تسمعه الملائكة و تستغفر لصاحبه، و هو:
اللَّهُمَّ انِّي افْتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمْدِك ..."[5]. ورواه الشيخ الطوسي رحمه الله في التهذيب مرسلا ملصقا له بدعاء رواه الكليني فيوهم أنه من تتمة الحديث وليس منه، ورواه مرسلا في المصباح.
وكذا في تعقيب صلاة الفجر يوم العيد:
"مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي قُرَّةَ فِي كِتَابِهِ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَبِي عَمْرٍو مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ السُّكَّرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُخْرِجَ إِلَيَّ دُعَاءَ شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي كَانَ عَمُّهُ الشَّيْخُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ الْعَمْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَ أَرْضَاهُ يَدْعُو بِهِ فَأَخْرَجَ إِلَيَّ دَفْتَراً مُجَلَّداً بِأَحْمَرَ فِيهِ أَدْعِيَةُ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ جُمْلَتِهَا الدُّعَاءُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْفِطْرِ اللَّهُمَّ إِنِّي تَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِمُحَمَّدٍ أَمَامِي وَ عَلِيٍّ مِنْ خَلْفِي وَ عَنْ يَمِينِي وَ أَئِمَّتِي عَنْ يَسَارِي ...".
فأسند الدعاء للسفير الثاني رضي الله عنه لا للناحية المقدسة.
ولهذا خطئ المجلسي لما نسب دعاء الافتتاح للقائم عليه السلام، قال: "الْإِقْبَالُ، نَقْلًا مِنْ كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْعَمْرِيِّ عَنِ الْقَائِمِ ع مِنْ أَدْعِيَةِ لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ- اللَّهُمَّ إِنِّي أَفْتَتِحُ الثَّنَاءَ بِحَمْدِك …"، وعلق عليه المحشي أن "فإسناده إلى القائم عليه السلام وهم". [البحار 24: 166 هامش 6].
لكن يمكن القول:
أن محمد بن عثمان العمري رحمه الله، ثاني السفراء وأطولهم نيابة عن الإمام عليه السلام، عارف زاهد عابد توفاه الله سنة 305 هـ، كانت ترد عليه الكتب وتعرض الناس عليه الروايات والأدعية.
فمما كان يرد عليه من الأدعية ما رواه الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد، قال: "أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ عَنِ ابْنِ عَيَّاشٍ قَالَ مِمَّا خَرَجَ عَلَى يَدِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ النَّاحِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ مَا حَدَّثَنِي بِهِ جُبَيْرُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَتَبْتُهُ مِنَ التَّوْقِيعِ الْخَارِجِ إِلَيْهِ- بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ادْعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَجَبٍ- اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أَمْرِك …" [مصباح المتهجد 2: 803 دعاء أول يوم من رجب].
فما عرض عليه من الأدعية ما رواه ابن طاووس في مهج الدعوات، قال: "ومن ذلك الدعاء المفضل على كل دعاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) وكان يدعو به أمير المؤمنين (عليه السلام) والباقر والصادق (عليهما السلام) وعرض هذا الدعاء على أبي جعفر محمد بن عثمان قدس الله نفسه فقال ما مثل هذا الدعاء وقال قراءة هذا الدعاء من أفضل العبادة، وَهُوَ هَذَا: اللَّهُمَ أَنْتَ رَبِّي وَ أَنَا عَبْدُكَ آمَنْتُ بِكَ مُخْلِصاً لَكَ عَلَى عَهْدِكَ وَ وَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْت" [مهج الدعوات: 118].
فاحتمال أن يكون العمري قد روى تلك الأدعية التي كان يقرؤها لا من إنشاء نفسه، بل من أمر الناحية المقدسة قد يزيد ويظهر عن احتمال خلافه.
هذا في حق السفير الثاني رحمه الله.
وأما غيره من الأخيار والصالحين الذين لا يعلم منهم هذا الالتزام في سيرتهم، فلا يمكن التوثق من نسبة ما يروونه -وإن كان في كتب الأدعية المروية- أنه صدر عن الحجة ع؛ فلا أبو الفرج محمد بن أبي قرة ولا البزوفري تسالم الأصحاب على قبول مروياتهم ولا يظهر أنهم اعتمدوا مرسلاتهم، ولا قرينة على اتصال البزوفري بالناحية وإن كان الأقوى أنه أدرك آخرها وروى عن مشايخها.
فاحتمال انتساب الدعاء للناحية كاحتمال عدمه في نتيجة العمل؛ يفتقر للدليل، وإن كان فيه قوة.
نعم، يحتمل أن محمد بن الحسين البزوفري قد روى هذا الدعاء عن أبيه أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البَزَوْفَري؛ فإنه كان يروي بعض أدعية ما يرد من الناحية، فمنها ما رواه ابن طاووس في مهج الدعوات عن أَحْمَدُ بْنُ الدَّرْبِيِّ عَنْ خَزَامَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَزَوْفَرِيِ قَالَ: "خَرَجَ عَنِ النَّاحِيَةِ الْمُقَدَّسَةِ مَنْ كَانَ لَهُ إِلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَلْيَغْسِلْ لَيْلَةَ الْجُمُعَة ...".
وفي مزار ابن المشهدي: "ذَكَرَ ابْنُ عَيَّاشٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ سُفْيَانَ الْبَزَوْفَرِيَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ وَ يَقُولُ: هُوَ مِنْ أَدْعِيَةِ يَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ شَعْبَانَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الْحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
اللَّهُمَّ مُتَعَالِي الْمَكَانِ، عَظِيمُ الْجَبَرُوتِ، شَدِيدُ الْمِحَالِ، غَنِيٌّ عَنْ الْخَلَائِقِ"[6].
التصحيح المضموني واللحني:
وتمسك جماعة لتصحيح بعض الروايات بمتانة الأسلوب وعلو المضامين التي تشهد على صدور الكلام عن مقام الحجة، قال الكليبري -على ما نقله المحدث الأرموي عنه في شرحه لدعاء الندبة-: "والإنصاف أن متن الدعاء ومضامينه مضافا إلى ما مر يشهد بصدوره عن معادن العصمة والحكمة وينابيع الفصاحة والبلاغة، وأن اعتماد السيد ره عليه ونقله الدعاء في كتابه الذي صنفه للعمل من أعظم الشواهد"[7].
ثم أيد المحدث الأرموي ره هذا القول بكلمات جماعة من الأعلام في كبرى تمييز أهل العلم والخبرة لكلام المعصوم ولحن قوله من كلام غيره، وأنها ملكة يميز بها الصحيح من الضعيف.
أقول: قد تبين لك المبالغة في التسليم لما يورده السيد ابن طاووس رحمه الله في كتبه، وأما الكبرى المذكورة فلا ريب أنها ممكنة الوقوع ثبوتا خاصة في موارد التعارض، لكنها لا تثمر أكثر من الاحتمال والظن إثباتا، بل موارد تطبيقها والانتفاع بها في تمييز الصادر من غيره في الكلام البليغ يكاد يكون معدوما، ولو كان لها تطبيق واسع وتداول بين الأعلام لبان، بل هي قريبة مما غلط به الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمه الله الشيخ أحمد الأحسائي في عقيدته من قدرته على تمييز الصحيح من غيره من كلام أهل البيت من نور حبر المخطوط، والقصة معروفة !
غاية الأمر، قد يحصل الاطمئنان الشخصي لا النوعي من بعض القرائن التي لا يمكن الاحتجاج بها على الغير الذي لا تورث تلك القرائن له ذلك الاطمئنان المطلوب.
وأما دعاء الندبة -وغيره- فتصحيحه اعتمادا على هذه القاعدة، فمجازفة لا ينبغي الاعتماد عليها في التحقيق؛ فإنا شهدنا خطأ الاعتماد عليها بالوجدان، وهي أسوء من الاعتماد على القياس والظنون التي تمحق الدين، لأن تلك إن كانت معتمدة على ركن غير متين يقاس عليه، فهذه بلا ركن أصلا، فكيف يركن لها في الدين!
(أبِرَضوى)
وهناك إشكالات أخر ليست ذات بال وخطر؛ منها ذكر رضوى وطوى، وجبل رضوى هو المكان الذي كان يعتقد الكيسانية أن محمد بن الحنفية -ويسمونه ابن خولة- غائب مختف فيه، ومن ذلك قول السيد الحميري قبل اهتدائه للحق:
ألا قل للوصيّ فدتك نفسي | أطلت بذلك الغار المقاما |
أضرّ بمعشر و ألوك منا | و سمّوك الخليفة و الاماما |
و عادوا أهل هذا الارض طرا | مقامك عندهم ستين عاما |
و ما ذاق ابن خولة طعم موت | و لا وارت له أرض عظاما |
و لكن حلّ في شعب برضوى | تراجعه الملائكة السلاما |
و قال الكثير بن عبد الرحمن فيه-و كان ممن يقول بإمامة ابن الحنفية-:
ألا إن الائمة في قريش | ولاة الأمر أربعة سواء |
عليّ و الثلاثة من بنيه | هم الاسباط ليس بهم خفاء |
فسبط سبط إيمان و برّ | و سبط غيبته كربلاء |
و سبط لا يذوق الموت حتى | يقود الخيل يقدمها اللواء |
يغيب لا يرى فيهم زمانا | برضوى عنده عسل و ماء |
والجواب أن مجرد ذكر رضوى أو طوى لا يدل على ضعف الندبة ولا يشهد لوضعها؛ فإن في أخبارنا ما يدل على أن جبال رضوى إحدى مواضع غيبته، فعن العياشي والنعماني بسندهم في حديث عن أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ع أَنَّهُ قَالَ: "يَكُونُ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ غَيْبَةٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الشِّعَابِ وَ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةِ ذِي طُوًى".
وفي غيبة الطوسي ره بسنده عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى مَوْلَى آلِ سَامٍ قَالَ: "خَرَجْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فَلَمَّا نَزَلْنَا الرَّوْحَاءَ نَظَرَ إِلَى جَبَلِهَا مُطَلِّلًا عَلَيْهَا فَقَالَ لِي تَرَى هَذَا الْجَبَلَ هَذَا جَبَلٌ يُدْعَى رَضْوَى مِنْ جِبَالِ فَارِسَ أَحَبَّنَا فَنَقَلَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا أَمَا إِنَّ فِيهِ كُلَّ شَجَرَةٍ مُطْعِمٍ وَ نِعْمَ أَمَانٌ لِلْخَائِفِ مَرَّتَيْنِ أَمَا إِنَّ لِصَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ فِيهِ غَيْبَتَيْنِ وَاحِدَةٌ قَصِيرَةٌ وَ الْأُخْرَى طَوِيلَةٌ".
وقد كان بعض الأصدقاء يقصدونه للتشرف، ولكن هيهات هيهات فقد وقعت الغيبة التامة!
ومن الإشكالات أيضا غرابة صدور الندبة عن القائم عليه السلام ولسانها لسان ندبة غيره له، وهو إشكال متجه لو كان النص من المخاطبات والمشافهات كروايات الفروع والإجابات، لكن لمقام التعليم والدعاء خصوصيات وأغراض أخرى، وليس هذا بعزيز فإن تعليم الصلاة على النبي ص قد علمها النبي ص نفسه للناس وكذا الأدعية والزيارات.
هذا ما حضرني الآن من التفصيل.
والحمد لله رب العالمين
محمد علي العريبي
30/4/2019 م -24 شعبان 1440 هـ
............................................
[1] - المزار الكبير: 573
[2] - إقبال الأعمال 1: 540
[3] - بحار الأنوار 1: 7
[4] - شرح دعاء الندبة: 170
[5] - الإقبال
[6] - قال الشيخ في المصباح: "قَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ سَمِعْتُ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ سُفْيَانَ الْبَزَوْفَرِيَ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع يَدْعُو بِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَ قَالَ هُوَ مِنْ أَدْعِيَةِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ شَعْبَانَ وَ هُوَ مَوْلِدُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام)". ويحتمل الخطأ في النسخة، وأن الصحيح: (الزوفري أبا أعبد الله يدعو به).
[7] - شرح دعاء الندبة للمحدث الأرموي 1: 139