يُروى عن رسول الله (ص) قوله: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها). وعنه أيضا (ص): (يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين، كما ينفي الكير خبث الحديد).
وفي سياق مشابه يقول الإمام الصادق (ع): (إن فينا أهل البيت في كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتهال المبطلين، وتأويل الجاهلين).
تشير هذه الأحاديث إلى أنّ هناك سنة إلهية تتكرر جيلا بعد آخر، هي في الواقع تشكل عنصر الحفظ والدوام لدين الله سبحانه وتعالى، وهذه السنة ملقاة على عاتق المعصوم أولاً وعلى عموم المؤمنين تاليا، وهي في الواقع قضية فكرية تلح بشكل مستمر على عموم المفكرين كلما علا الفكر الإسلامي نوع من الصدأ، ليقوم المفكر بدور الكير الذي ينفي ذلك الصدأ فيعيد للدين حياته وجدادته.
الفكر الديني الإسلامي هو نتاج ما قامت به ثلة من العلماء والمفكرين الإسلاميين على التعاقب في محاولات متكررة وجهد فكري كبير اعتمد الهدم والبناء (النقد الفكري) وسيلة للرقي الفكري تارة، والتصحيح والتفهيم (التشييد) تارة أخرى، معتمدين في ذلك كله على مصادر التشريع الإسلامي الثابتة، فكان النتاج الفكري والمعرفي الإسلامي.
فعندما نتأمل جيدا الدور الذي قام به الماضون نجد أنه يسير على وفق هذا النظام الذي يجب أن يسير عليه مفكرو اليوم أيضا.
إنّه السنة التي أشرنا لها في بداية حديثنا وهي سنة التطوير والرقي والتجديد في الفكر الإسلامي، وهي نتاج طبيعي للحركة المستمرة للعقل التي يدعو لها القرآن الكريم في مواضع متعددة.
فإنّ الدعوة لتجديد الفكر الإسلامي لا ينبغي لها أن تخيف أحدا متى ما سارت على وفق ضوابطها الصحيحة، فإنّ الرسول الأكرم (ص) وحفيده (ع) قد افترضا ثبات الدين وإنّما يقوم به المجدد من دور هو التجديد بدفع الأوهام والتحريفات التي قد تنال الدين الإسلامي وهي ممارسة دور (التصحيح والتفهيم والتوضيح)، ويقدم أخرى معالجة راقية ومتطورة (بالنقد والتشييد) ليتناسب الدين والحياة المتجددة.
فلا نعني بالتجديد نفي الثوابت، أو اعتماد مصادر جديدة لا تمت إلى الدين الإسلامي بصلة، بل كما قلنا ونؤكد أن التجديد ما هو إلا تحريك العقل نحو التفكير الدائم والمعمق في مصادر التشريع الإسلامي لابتكار واستكشاف رؤى فكرية جديدة إسلامية أيضا.
يقول الشيخ شمس الدين (رحمه الله): (إنّ التطور في الإسلام لا يتم عن طريق (الحذف والإضافة في الأحكام والتشريعات) (الثوابت النسبية)، لأنه لا توجد رسالة خاتمة بعد الإسلام، لقد تحقق الختم بإرسال النبي (ص) فلا مجال للتطور من (خارج) برسالة أخرى، بل إنّ التطور يتم من (داخل) بالتوالد الذاتي الداخلي عن طريق الاجتهاد. إن الإسلام يتسع ويعمق بتجدده الذاتي).
خصوبة مصادر التشريع:
وربما قائل يقول: إنّنا بهذا الكلام عُدنا من حيث بدأنا إذ أنّ هذا الكلام يمثل عودا إلى الجمود في الفكر وحركة العقل؟
فنجيب: إنّنا عندما ندعو إلى التجديد الذي يعتمد على مصادر التشريع الإسلامي المعروفة فإننا لا ندعو للجمود إطلاقا، ذلك أننا لا ندعو للاستعانة بمصادر جامدة لا حراك فيها، وإنّما ندعو لمصادر مرنة وحية بطراوة لكل باحث ينهل منها كل ما هو جديد من دون أن تبخل عليه بشيء.
يقول الباري سبحانه: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
أضف لذلك أنّها مصادر نقيه للمعرفة وصحيحة (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
وكذلك فإنّ التجديد والرقي فيما يمكن الاستفادة منها لا يقف عند حد لقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)، وقوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَل)، وقوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا).
فتجديد الفكر إذن حركة يجب أن تستمر دوما من دون توقف على مرّ الأجيال وفي جميع الأزمان ولا يشكل اعتماد مصادر التشريع الاسلامي الثابتة أي عائق.
التجديد ضرورة في كل الجهات:
الفكر الإسلامي هو تلك الرؤى التي رسمها المفكرون الإسلاميون ووجهات نظرهم واستنباطاتهم لنظرة الإسلام تجاه قضايا متعددة ومتنوعة.
والتجديد للفكر الإسلامي يشكل ضرورة يجب أن تمتد إلى جميع الجنبات بتعددها وتنوعها بتقديم الرؤى الجديدة التي تعيد للإسلام حياته، فالتجديد لا ينبغي أن يقتصر على الفقه فحسب، بل لابد أن يتناول القضايا العقائدية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية وغيرها.
والآن ننتقل إلى صلب الموضوع وهو:
إذا كانت مقومات التجديد في الفكر الإسلامي موجودة، والإسلام في تعاليمه لا يقف عائقا أمام المجددين له.
فإذًا ما هي العقبات والعوائق التي تقف أمام حركة التجديد؟
القرآن والسنة يحكيان العقبات والعوائق..
الدين الإسلامي الذي جاء به النبي الأكرم (ص)، في رؤاه وأفكاره يُعدّ أكبر تجربة تجديد عملية، بل هي في الواقع هداية عن ضلال، وقد واجه النبي الأكرم (ص) وآل بيته الأطهار (ع) أصنافا متنوعة وأشكالا متعددة من العقبات والعوائق، ولذلك يمكننا أن نستعين بالقرآن والسنة للاستفادة في معرفة جملة من العوائق والعقبات التي تعترض التجديد.
والقرآن لم يكتف بنقل ما كان يعترض النبي (ص) وحسب، بل نقل ما اعترض الأنبياء السابقين أيضا.
وتلك العقبات التي يذكرها القرآن أو تذكرها السنة ليست عقبات خاصة بتلك الحقبة الزمنية وفقط، ذلك أن مجموعة منها عقبات وعوائق سُننية تتكرر في كل زمان، ليجد المفكر نفسه في مواجهتا متى ما أراد الجديد.
عقبات التجديد على نحوين..
حيث إن التجديد هو حركة فكرية عقلية لابتكار ما هو جديد أو تطوير رؤى وأفكار ونظريات ثم تقديمها للمجتمع والجمهور، فهي على ذلك تمرّ بمرحلتين أساسيتين:
الأولى: مرحلة الإعداد والابتكار (مرحلة الإنتاج):
وهي مرحلة قائمة بذات المفكر، وذاته تعد (الفاعل والمنتج).
الثانية: مرحلة الطرح والخطاب (مرحلة التصدير):
وهي مرحلة الانفعال والتفاعل من قبل الجمهور.
ونجد العقبات التي يمكن أن تعترض المفكر في حركته نحو التجديد إمّا تعترضه في المرحلة الأولى أي أنها نابعة من ذاته، أو تعترضه في المرحلة الثانية فتكون عقبات خارجية.
فدعونا نذكر العقبات التي يمكن تصورها في كلتي المرحلتين.
أولا: العقبات في مرحلة الإعداد والابتكار (مرحلة الإنتاج):
1/ فقد القدرة والكفاءة العلمية:
الباحث والمجدد يجب قبل أن يسبر الفكر الإسلامي ليبتكر الجديد أن يعي الفكرة والرؤية الإسلامية التي يريد أن يطورها ويجددها مما يحتّم عليه أن يكون ذا معرفة جيدة، واطلاع وثقافة واسعة.
فإذا توافرت العلمية الجيدة والكفاءة العالية لدى الباحث المجدد عندها تتوافر الثقة بالنفس والفكر. والثقة هذه هي المنطلق الأول نحو أي تجديد وتطوير، ومتى ما ضعفت.. عندها ضعفت قوة الذات على التجديد بالنقد والتطوير.
فإنّ الباحث المجدد تارة يتحرك نحو الهدم (أي هدم فكرة أو رؤية)، وتارة يتحرك نحو تشييد (وبناء) رؤية.
ففي الفرض الأول يجب أن يعي أنه عندما يتعامل مع الفكر الإسلامي هدما فإنه يتعامل مع نتاج قد تعاقبت عليه أيدٍ كثيرة من العلماء والمفكرين فأحكموا بناءه وسدوا أغلب نوافذ الخلل، فلابد أولا من فهم الفكرة والرؤية جيدا قبل هدمها.
وفي الفرض الثاني يجب أن يعي الباحث أنه بصدد تشييد بناء محكم تتوافر فيه أسباب البقاء لفترة فلابد أن يكون على كفاءة وقدرة علمية في كلا الفرضين.
وعندما يفقد المجدد كفاءته ولا يمتلك القدرة العلمية على فهم الأفكار والرؤى فبدلا من سير حركته نحو التطوير والرقي ستسير في اتجاه عكسي مثيرة لبعض الشبهات من دون أن تقدم حلا وارتقاءً فكريا.
ذلك أن جهل الإنسان يشكل عائقا نحو أي تقدم وتطوير في الفكر، بل أن نتاج جهله هذا قد يشكل عائقا لآخرين.
وفي هذا السياق يقول أمير المؤمنين (ع): (لو أن العباد حين جهلوا وقفوا، لم يكفروا ولم يضلوا).
والقرآن الكريم ينقل لنا ما جرى على قوم موسى (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
هنا نجد أن قوم موسى (ع) لما رأوا حالة الملازمة والتوجه الذي كان يمارسها قوم تجاه الأصنام، اقتنعوا بهذه الفكرة ورأسا اقترحوها على موسى مما أدخلهم بعد ذلك في متاهة من الشبهات والانحدار.
وعندما نتأمل نجد رد موسى عليهم أن (قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، فالجهل هنا كان سببا للوثنية.
التجديد على ذلك يحتاج إلى (الوعي) الذي لا يتوافر إلا من خلال التزود بالعلم والمعرفة.
2/ عصبية الذات وردات فعل:
نجد بعض الباحثين أحيانا كثيرة يُسهب في نقض أفكار شيدها باحثون آخرون، وعندما تتأمل في طريقة نقده هذه تجدها لمّا تنبع من عقله بقدر ما نتجت عن مساحة صدره وقلبه.
نعم هي العصبية تلك العقبة الكبيرة التي تقف ضد الإبداع والتطوير، وهي ممارسة تكون تارة ضد الآخر فتكون ردت فعل تحجب الباحث عن مكامن النور والمعرفة التي قد تكون في فكر الآخر.
وتارة عصبية إلى الذات والفكرة التي طرحها الباحث نفسه فتمنعه من ترميم فكره وتحجبه عن الرقي والتطوير لأفكاره ورؤاه.
عناد وعصبية وردات فعل وتسرع هو ما يمارسه بعض المفكرين مما يوقعهم في الكثير من الأخطاء ويحجبهم عن التجديد والرقي في المعرفة، لينشغل المفكرون الإسلاميون في مساجلات لا فائدة منها، مثيرة بذلك لمجموعة من المشاحنات والتحزبات التي لا تتبع الفكرة والرؤية بقدر ما هو تعصّب للأشخاص والذوات.
وكلنا يعلم أن آدم أُخرج من الجنة لماّ عصى ربه، ولكن ما الذي أخرج إبليس؟ إنّه الاستكبار والتعصب يقول الباري: (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ).
هكذا حال هذه العقبة الكؤود، فلا تكتفي بحجب المفكر عن الرقي والتجديد، بل تأخذ به نحو التسافل والانحدار في الفكر والثقافة والأخلاق.
فلابد للباحث إذا أراد أن يسير نحو التجديد أن يتخلص من كل الأحقاد والضغائن أولاً وقبل كل شيء، ويكون ذا ضمير حيّ يقض.
3/ التصورات والنتائج المسبّقة:
يعيش الإنسان في عقله ركاما من المعلومات والثقافة والفكر من مصادر مختلفة، من بيئته ومجتمعه، ومن قراءاته ومطالعاته وغيرها.
هذا الركام إما أن يكون أثره إيجابيا بالنسبة لمريد الإبداع والتطوير، وإما أن يكون أثره سلبيا بالنسبة إليه، ففي بعض الأحيان يفرض الباحث الفكرة المختزنة فكرة صحيحة قبل البحث وسبر الأدلة وسوق البراهين، مما يعني أن مرحلة بحثه بعد ذلك ستسير نحو توظيف الدليل والبرهان بما يتناسب والفكرة المسبقة، وهذا ما يعبر عنه بـ(ليِّ الدليل)، بينما يُفترض بالباحث أن يلوي الفكرة للدليل لا العكس.
فينبغي بالباحث أن يوظف ركام المعلومات التي لديه في الانتقال لمرحلة استفادة الفكرة الحقّة التي تتمتع بعناصر الموضوعية والإنصاف.
وفي هذا السياق ينقل لنا القرآن فكرة مسبقة كان يعتقدها البعض حجبتهم عن الإيمان بالرسول، وهي اعتقاد أن الرسول يجب أن يكون فوق البشر ذا ميزات تخالف البشر، وذا مال كثير كحال رسل مماليك الروم والفرس: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا).
4/ الخوف من الإرهاب الفكري:
من يقدم تجديدا في الفكر الإسلامي قد يخضع ما يطرحه لمناقشة مفكرٍ ما، مناقشة فكرية تعتمد النقد البنّاء طريقة في معالجة مواقع الخلل في الفكرة والرؤية، وهذا طبعا لا يشكل أي مشكلة لدى الباحث والمجدد.
ولكن ما يحصل في بعض الأحيان أن ما يُطرح من قبل مفكرٍ ما، لا يسير بنحو المناقشة والمواجهة الفكرية، وإنما هي ردات فعل ومواجهات محمومة تتعدى الحدود وتصل إلى مستوى الاتهام بالتخوين والتكفير وطلب المال ونحوها من كلمات، تُرهب المفكر المجدد وتوقفه عن تقديم أي تجديد آخر، بل مستويات الإرهاب الفكري قد تصل لمستوى التهديد بالقتل والتصفية الجسدية.
وهذا الأسلوب اتبعه المشركون والكفار في مواجهة دعوة النبي الأكرم (ص) وغيره من الرسل والأنبياء (عليهم السلام)، فقد اتهموهم بالجنون والسحر والكذب وغيرها وسعوا لقتلهم.
يقول الباري سبحانه:
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ).
(وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ).
هذه الممارسة التي يقوم بها المجتمع تجاه المفكرين، أو المفكرون تجاه بعضهم البعض، يُوجد عقبة نفسانية كبيرة لدى المفكر وهي عقبة (الخوف) والرهبة التي تحجب فِكره وتقيد لسانه عن التفكير والنطق بما يتبناه ويدعمه الدليل.
يقول الباري: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ).
والإرهاب هذا مرة يمارس من المجتمع ومرة من السلطة والقوى السياسية، فتكثر الخطوط الحمراء والمساحات الممنوعة والأفكار المصادرة، سيرا على وفق السياسة الفرعونية حيث (قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ) فـ"إنّ فرعون الجبار الغارق في جنون السلطة كان يدعي أنه لا يحق للشعب أن يتصرف أو يعمل أو يقول شيئاً من دون إجازته وإذنه، بل لا يحق لهم أن يفكروا ويؤمنوا بدون أمره وإذنه أيضاً!!
وهذه هي أعلى درجات الاستعباد والاستحمار، أن يكون شعبٌ من الشعوب أسيراً وعبداً بحيث لا يحق له حتى التفكير والإِيمان القلبي بأحد أو بعقيدة".
وفي ممارسة استبدادية أخرى للسلطة السياسية أنّها تقوم بشراء المفكر وتوظيفه لصالحها. يقول الشهيد المطهري في هذا السياق: (ولو تابعتم الأحداث لوجدتم أنّه بمجرد ظهور عالم حاذق في حقل من الحقول كحقل الاختراق مثلا أو علم النفس فإن القوى السياسية المتسلطة تبادر فورا إلى كسبه ووضعه تحت تصرفها، مطالبة إيّاه أن يسخر علمه في خدمة أهدافها وتوجهاتها).
ثانيا: العقبات في مرحلة الطرح والخطاب (مرحلة التصدير):
بعدما يفرغ المفكر من إنتاج الفكرة أو الرؤية متجاوزا كل عقبات الإنتاج، يصل إلى مرحلة التصدير لما تبناه من رؤى وأفكار، وأساليب التصدير متنوعة ومتعدد، فقد تكون كتابا يؤلفه أو خطبة ومحاضرة يلقيها، أو مدونة يعرضها على شبكة الإنترنت وغير ذلك.
تتعدد الأساليب لكنها تشترك في أنّها عبارة عن طرحٍ للرؤى والأفكار فهي مرحلة الخطاب والتصدير.
في هذه المرحلة تعترض الباحث المفكر عدة عقبات تحول دون حصول الانفعال والتقبل لرؤاه وأفكاره من قبل الجمهور والمتلقي، وفي الواقع نجد العقبات في هذه المرحلة تلامس ثلاث جهات أساسية:
أولاً: البنية المعرفية للمتلقي والجمهور وسنذكر منها عقبتان:
1- ثقل الموروث وقداسته.
2- الصمم والعمى وسد المنافذ.
ثانيا: الفكرة في محتواها وعمقها وسنذكر منها عقبتان:
1- افتقاد أسباب الإقناع والموضوعية.
2- ضخامة الفكرة (تناسب المحتوى).
ثالثا: الفكرة في شكلها وصورتها والعقبة التي تلامسها هي فقد اللغة المعاصرة.
فدعونا نذكر العقبات هذه تفصيلا:
1/ ثقل الموروث وقداسته:
ينقل القرآن الكريم عذرا استعذر به بعض المشركين عن إتباع الإسلام (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ). وقد تكرر نقل هذه العذر، مما يعني أن التمسك بما كان عليه الآباء شكّل مشكلة ليست بالهيّنة.
لماذا؟
إنّهم كانوا يجعلون هالة قاسية تمنع أي شيء من أن ينفذ نحو الموروث فيهدمه، إنّها هالة القداسة وعقبة الموروث.
ولا نعني بذلك أن كل ما كان عليه الآباء من فكر وعقيدة أو رؤية ليس بصحيح؟! فإنّ المشكلة ليست في هذه الجهة.
وإنما المشكلة أن تتعاظم مساحة الثوابت وتكثر كثيرا بحيث لا يجد الباحث أي مساحة يستطيع التحرك فيها.
والحال أننا لو أردنا أن نمسك الفقه مثلا منذ زمن الشيخ الطوسي وحتى زمن السيد الخوئي (رحمهما الله) فإننا نجد أنّ كثيرا من مسلمات علماء زمن الشيخ الطوسي قد نُقضت حتى زمن السيد الخوئي.
والغريب من البعض من المفكرين إقدامه على تقديم جملة من أفكاره ومبتنياته على أساس أنها مسلمة ولا ينكرها العقل، ويصفها بالوضوح والجلاء والبداهة، والواقع قد يكون خلاف ذلك، فلا هي قضية متواترة ولا مدركا عقليا بديهيا ولا نحو ذلك.
فوجود مثل هذا النحو من التعامل لدى المجتمع وبعض المفكرين مع بعض الأفكار والنظريات الإسلامية يشكل عائقا كبيرا.
نعم نحتاج في بعض القضايا التي هي في الواقع قضايا ضرورية أن نعطيها القداسة حتى تمتنع من عبث المحرفين والمدلّسين والمشككين، وهذا لا يعيق الباحث المنصف والمخلص.
2/ الصمم والعمى وسد المنافذ:
يقول الباري: (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا).
يحكي القرآن الكريم في هذه الآية المباركة ما كان يقوم به المشركون بغرض عدم سماع حديث النبي، إنّهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم وبذلك يسدون منفذ الأذن من السماع ولا يكتفون بذلك، بل يستغشون ثيابهم فيضعونها فوق رؤوسهم، حتى يمنعوا ما يمكن أن يتبقى من همهمة الصوت. إنّها إحكام لسد المنافذ الموصلة إلى العقل والفكر وأيضا فهم: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ).
وهذه الممارسات لم تتوقف فهي ما زالت مستمرة في مجتمعنا، حيث تجد بعض أفراد المجتمع يأبى من تقبل الفكرة لا لشيء، ويقوم بإغلاق كل القنوات التي يمكن للفكرة أن تنفذ من خلالها فيحجب كل السبل المرئية والمسموعة والمقروءة وكل سبل إيصال الفكرة والتجديد، ليجد الباحث والمفكر نفسه أنّه في مقابل حائط رفيع يصعب تجاوزه.
فهذه هي المشكلة عندما لا يجد المجدد من يسمعه، لأنّ الممسكون بقنوات إيصال المعرفة والوعي للمجتمع لا يسمحون بذلك.
3/ افتقاد أسباب الإقناع والموضوعية:
قد يعاتب المفكر المجتمع والجمهور لعدم تفاعله مع ما يطرح، ولمّا نعود إلى ما طرحه نجده مجموعة أفكار لم تعتمد أسلوب الترتيب المنطقي والعقلي، ولا هي تتمتع بالموضوعية الكافية للإقناع.
فالعذر عندها يكون عذر الجمهور.
فلا ينبغي بالمفكر أن يهمل عقول الناس ويفرض نفسه دوما نائبا عنهم في التفكير وما عليهم إلا السمع والطاعة والتسليم بالنتائج؟!
إنّ النبي الأكرم (ص) والأئمة (ع) رغم أن أقوالهم لا تحتمل الخطأ لأنها مسددة إلا أنّهم في كثير من الأحيان يبيّنون علل التشريع وحِكَمه، ليُعينوا الناس على قبوله والتسليم به.
فكيف بالمفكر الذي تمثل أفكاره اجتهاداته واستنباطاته الشخصية؟!
فلابد من اعتماد المفكر على أسلوب ذكر الدليل والبرهان لتتوفر أسباب القبول والتلقي لما يُطرح، فإنّ العقيدة الإسلامية لم تُبنَ إلا على البرهان (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ويقول السيد الشهيد الصدر (رحمه الله) في هذا السياق: (لا بد في رأي الإسلام لإنشاء الفكر الحر أن ينشئ في الإنسان العقل الاستدلالي أو البُرهاني الذي لا يتقبّل فكرةً دون تمحيص ولا يؤمن بعقيدة ما لم تحصل على برهان ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرية الفكرية وعاصماً للإنسان من التفريط بها، بدافع من تقليد أو تعصب أو خرافة).
4/ ضخامة الفكرة (تناسب المحتوى):
ورد عن رسول الله (ص): (أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم).
في هذا الحديث النبي الأكرم (ص) يشير إلى ما قد يقع فيه المفكر عندما يقوم بطرح ما لديه وذلك عندما يطرح فكرة أكبر من حجم المتلقي والجمهور بأضعاف حجم عقولهم ومعرفتهم عندها يقع فيما يقوله وعنه (ص): (ما أنت محدّث حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة).
إنّ ضخامة الفكرة كثيرا توقع المتلقي في مجموعة من الشبهات والتساؤلات التي قد يجد لها ما يرفعها وقد لا يجد فتبقى وتستحكم لتشكّل انحرافا عن خط التجديد كان المفكر سببه.
فتناسب الخطاب مع الجمهور أمر في غاية الأهمية، فعندما يكون الجمهور متنوعا في مستوياته الثقافية فلابد عندها من لحاظ ما يكون ملائما لهذا التنوع واللجوء للأفكار المبسطة واعتماد أسلوب التمثيل والتكرار لتصل المعلومة للجميع بالنحو الصحيح.
وإذا كان الجمهور نخبويا فعندها قد يمعن المفكر في ذكر جزئيات وتفاصيل لرؤيته ويكون ذلك أمرا مشروعا وفي موضعه الملائم.
5/ فقد الخطاب للغة المعاصرة (جاذبية الصورة):
بقيت عقبة قد يقع فيها المفكر في خطابه، وهي عقبة فقد الخطاب للغة المعاصرة، ففي بعض الأحيان لمّا تفتش فيما طرحه مفكرٌ ما تجد أنه يتمتع بعناصر تجديدية كثيرة، ولكنّ الإمتاع في الطرح وجذب المتلقي كان هو العنصر المفقود، وعندها لا نجد الجمهور يُقبل على ما طرح.
فالفكرة والرؤية الجديدة كصناعة الحلي والمجوهرات فإنّ الصائغ يعتني بالشكل والصورة كما يعتني بالمضمون والمحتوى، فإذا كانت الحِليَة في مضمونها ولا أرقى! وفي شكلها ولا أروع! عندها ما أسرع مشتريها ولو بأغلى الأثمان.
وهكذا هي الصناعات تتطور في المحتوى والشكل وتتقدم وهذا سبب بقائها، وعندما تتوقف في مضمونها وشكلها عند مستوىً لا ترتقي فيه ولا تتطور عندها يكون ذلك إنذارا بفنائها وكسادها.
فنحتاج أن نعتني بالشكل والصورة، ونستخدم الوسائل الحديثة التي تبسّط الفكرة وتوفر إعمال حواس إضافية لدى المتلقي لتحافظ على انتباهه وانجذابه، ونعتمد أساليب متنوعة وحديثة كورش العمل واللقاءات الحوارية والنقاشية ونحو ذلك.
والقرآن الكريم لإعجازه جهات عديدة، ولكن أهم جهاته (إعجاز المحتوى والصورة)، يقول الباري سبحانه: (قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا).
يا سبحان الله لم تكن هناك مسافة بين سماعهم للقرآن وإيمانهم به، ذلك لقوة محتواه وعذوبة كلماته وجمال صورته.
وفي حديث عن عكرمة قال: (جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له: اقرأ علي فقرأ عليه: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" فقال: أعد، فأعاد، فقال: والله إنّ له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، إنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمعذق وما يقول هذا بشر!).
ختاما..
إنّ التحرر من هذه العقبات التي ذكرناها يعني توافر المناخ المناسب لينطلق المفكر فيعمل قدراته الإبداعية والتجديدية ويكون عندها له التأثير أيضا على الجمهور والمتلقي، إنّ التخلص من هذه العقبات يعني حرية الفكر والتفكير وسير الإنسان والمجتمع والمفكرون والفكر الإسلامي نحو الرقي والتطور.