هل يدل خبر (فللعوام ان يقلدوه) على جواز ترك التقليد؟
نص الخبر: (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه). لاحظ آخر المقال للاطلاع على المصدر.
قد تتخيل النظرة السطحية دلالة هذا الخبر على جواز ترك التقليد فلا يجب على العامي ان يتبع فقيها ويقلد مجتهدا فإن الخبر نص على (فللعوام أن يقلدوه) ومن الجلي أنَّ مفاده الجواز لا الوجوب فتكون النتيجة جواز ترك اتباع الفقهاء وعدم تعين الأخذ بأقوالهم.
فمن أين أتى الفقهاء بمقولة وجوب التقليد وتعين الرجوع للفقهاء؟
أليس هذا الخبر ردا عليهم وتفنيدا لقولهم؟
ج: رغم سخافة هذا النحو من الاستدلال وخوائه إلا أننا سنتصدى لكشف زيفه وتعرية بطلانه ضمن طرح نقاط:
النقطة الأول:
الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبأنه كلف عباده بتكاليف الزامية كفعل الصلاة وترك شرب الخمر وغيرهما الكثير. هذا الإيمان يجعل في ربقة العبد مسؤولية امتثال تلك التكاليف وحيث إنَّ الطريق لمعرفة أغلبها مسدود على العامي بقي له - بعد فرض كونه غير مجتهد- طريق الاحتياط أو طريق التقليد للفقيه الجامع للشرائط، أما الاحتياط فهو صعب الفهم نظريا في كثير من مسائله لأغلب العوام كما أنه صعب التطبيق عمليا وإن كانت ميزته الامتثال اليقيني والعلم بالخروج من عهدة المسؤولية.
لكن مسلك الاحتياط لا يمكن السير فيه بلا تقليد نظرا للخلاف في جواز سلوكه فلا بد من الاتكاء على فتوى من يُجَوزه قبل العمل به وهكذا نعود إلى نقطة البداية وهي ضرورة التقليد للعامي وأنه لا سبيل له سواه إما بالاعتماد على التقليد في كل المسائل أو أغلبها وإما بالاعتماد على التقليد في مسألة جواز الاحتياط ثم الانطلاق في جادة الاحتياط.
النقطة الثانية:
الجواز له معنيان:
الف: الجواز بمعناه الأخص وهو تساوي كفتي الفعل والترك فيكون الفعل مباحا جائزا بنفس درجة جواز الترك وإباحته، ومثاله المشي أو شرب الماء اذ يساوي الفعل الترك مما يعني ترك الخيار للإنسان ليختار جانب الفعل أو الترك دون أن يوجه دينيا لا للفعل ولا للترك، هذا هو معنى الإباحة بالمعنى الأخص أو الجواز بالمعنى الخاص.
باء: الجواز بمعناه الأعم وهو عدم الإلزام، وينضم تحته:
- المستحب
- المكروه
إذ يجوز فعلهما بمعنى عدم الإلزام بتركهما كما يجوز فعلهما بمعنى انتفاء الإلزام بتركهما، كما ينضم تحته:
3- فعل الواجب، أي أنَّ فعل الواجب مسموح وليس ممنوعا فلا إلزام بترك الواجب، ولكن لا ينضم تحته ترك الواجب لوجود الإلزام بعدم الترك فترك الواجب غير مسموح.
وينضم تحته أيضا:
4- ترك الحرام فنقول ترك الحرام جائز بمعنى لا إلزام بفعله وأنَّ ترك الحرام مسموح ولا إثم فيه، ولكن لا ينضم تحته فعل الحرام فهو غير مسموح.
ومن الواضح دخول:
5- المباح بمعناه الأخص أو قل الجواز بمعناه الأخص في الجواز بمعناه الأعم وهكذا وجدنا خمسة مصاديق للجواز بمعناه الأعم.
النقطة الثالثة:
ما هو معنى التقليد وما هو معنى جوازه؟
ج: التقليد يعني حجية فتوى الفقيه لتكون مبرأة للذمة ومفرغة من المسؤولية حال العمل بها فإن وافقت الفتوى للواقع برئت الذمة منه، ومثال ذلك أن يفتي الفقيه بوجوب (سين) فيفعله المكلف وكان هذا ال(سين) واجبا في الواقع وحكم الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الحال امتثل المكلف وجوب (سين) اذ فعله وأتى به ولم يتورط في مخالفة المولى تبارك وتعالى.
ولكنه لو لم يتبع الفتوى وخالف التكليف الواقعي بوجوب (سين) فإنه لا عذر له في ذلك وحجة الله على عبده هي فتوى الفقيه بوجوب ذلك الشيء ويسمى ذلك بالمنجزية.
أما لو فرضنا أن الفقيه أفتى بعدم وجوب (سين) وكان واجبا في الواقع فترك العبد امتثاله تبعا للفقيه واعتمادا على قوله فإنه في هذه الحالة وإن خالف التكليف الواقعي إلا أنَّ عذره عند الله سبحانه وتعالى هو فتوى الفقيه وقول المجتهد فتكون للفتوى معذرية في حال مخالفة الواقع وهكذا نخلص إلى أن حجية فتوى الفقيه معناها جَنَاحَيّ المنجزية والعذرية معا.
وهكذا نخلص إلى أنَّ جواز التقليد إنما يعني جانب احتجاج المولى تبارك وتعالى على عبده بالفتوى وجانب احتجاج العبد على مولاه سبحانه بفتوى الفقيه، وليس الجواز بمعناه الخاص الذي يساوي فيه الفعل والترك نظير شرب الماء الذي يباح شربه وتركه فيتساوى الفعل والترك في الجواز والإباحة.
فقد تبين لك أنَّ التعبير بجواز التقليد إنما يراد به الجواز بمعناه الأعم، أي أنه غير ممنوع ولا يعني جواز تركه فهو نظير جواز فعل الصلاة وعادة ما تأتي مثل هذه الصيغة لدفع توهم الحرمة كمن يسأل: هل تجوز الصلاة لمن لا يجد الماء؟ فيأتيه الجواب نعم، تجوز له الصلاة. والمقصود من الجواب دفع توهم حرمة الصلاة وليس المقصود الجواز الخاص المساوي لجواز تركها.
النقطة الرابعة:
خبر (فللعوام ان يقلدوه) ليس هو المعتمد لمشروعية التقليد وصحته، وإنما يذكر للتأييد وتقوية المطلب فاصل شرعية التقليد تنطلق من سيرة العقلاء برجوع الجاهل للعالم وهذه السيرة حيث لم يردع عنها الشارع المقدس صارت سنة تقريرية حيث إنَّ السُنَّة قول المعصوم عليه السلام وفعله وتقريره.
كما يستدل على شرعية التقليد بأدلة أخرى يراجعها من يشاء في مباحث الاجتهاد والتقليد.
أما خبر (فللعوام ان يقلدوه) فبرغم أنه للتايد إلا أنه من ناحية الدلالة لا يمكن أن يكون دالا على جواز التقليد بالمعنى الخاص الذي يسمح بتركه وذلك:
أولا: لما بيناه من لزوم الخروج من عهدة التكاليف الإلهية، وذلك لا يكون بترك التقليد والاجتهاد والاحتياط؛ فترك هذه الطرق يساوي التهاون في أمر الشريعة وعدم المبالاة بالأوامر والنواهي الإلهية، فهذا المعنى الواضح البطلان لا يمكن قبوله من حديث صحيح السند فكيف بهذا الخبر.
وثانيا: الخبر وارد في سياق ذم عوام اليهود بتقليدهم علمائهم رغم علمهم بانحرافهم السلوكي كالكذب الصراح وأن هذا النحو من التقليد للفسقة كما هو مذموم بالنسبة لليهود فهو مذموم بالنسبة للشيعة فيما لو اتبعوا فقهاء الضلال وعلماء الانحراف والفسقة من أهل العلم.
وفَرَّقَ الخبرُ بين هذا النحو من التقليد وبين تقليد الفقهاء العدول الحافظين لدينهم المخالفين لهواهم، فمنع الأول وجَوَّزَ الثاني، ومن الوضوح بمكان أنَّ هذا السياق لا يفيد سوى الإباحة بمعناها الأعم أو قل الجواز بالمعنى الأعم لدفع توهم حرمة مطلق التقليد ببيان الفَرْقِ وأنَّ احدهما جائز والآخر محرم، ولذلك فَهِمَ الأعلامُ والمحققون من هذا الخبر وجوب التقليد لا جوازه.
وفي الختام ننقل جزءا كبيرا من خبر التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام، فهو طويل نكتفي بنقل ما يوضح سياقه وهو كالتالي:
قال الامام عليه السلام: [ثم] قال الله عز وجل: يا محمد ومن هؤلاء اليهود (أميون) لا يقرؤون [الكتاب] ولا يكتبون، كالأمي منسوب إلى أمه أي هو كما خرج من بطن أمه لا يقرأ ولا يكتب (لا يعلمون الكتاب) المُنزل من السماء ولا المكذب به، ولا يميزون بينهما (إلا أماني) أي إلا أن يقرأ عليهم ويقال لهم: [إن] هذا كتاب الله وكلامه، لا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف ما فيه (وإن هم إلا يظنون)، أي ما يقول لهم رؤساؤهم من تكذيب محمَّد صلى الله عليه وآله في نبوته، وإمامة علي عليه السلام سيد عترته، وهم يقلدونهم مع أنه محرم عليهم تقليدهم.
قال: فقال رجل للصادق عليه السلام: فاذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماء هم؟ فإنْ لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.
فقال عليه السلام: بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة، أما من حيث إنهم استووا، فإنَّ الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماء هم كما [قد] ذم عوامهم. وأما من حيث إنهم افترقوا فلا.
قال: بين لي ذلك يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله!
قال عليه السلام: إنَّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام وبالرشاء، وبتغيير الأحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات. وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم. وعرفوهم بأنهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم [الله] لَمَّا قلَّدوا من قد عرفوا، ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.
وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه إن كان لإصلاح أمره مستحقا، وبالترفق بالبر والإحسان على من تعصبوا له، وإن كان للإذلال والإهانة مستحقا.
فمن قلد من عوامنا [من] مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.
فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه.
وذلك لا يكون إلا [في] بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فإنَّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا، ولا كرامة لهم، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لأن الفسقة يتحملون عنا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الأشياء على غير [مواضعها و] وجوهها لقلة معرفتهم وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.
التفسير المنسوب للإمام ابي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.