إنَّ الفلسفة التي أقصدها من العنوان تتناول جانب التحليل والنظر في الغايات وربط الشيء بغايته، وملاحظة كيفية تحقيقه للغاية، فهي محاولةٌ لفهم الشيء وتعقله.
وأعرض في هذا المقال والمقالات الآتية بإذن الله تعالى محاولات لفهم وتعقل الفريضة العظيمة التي فرضها الله علينا وهي فريضة (الصوم).
وأخصُّ هذا المقال بأن يكون مقدمة وتوطئة لما يأتي في المقالات القادمة، وأتصور أنَّها توطئة ضرورية لمعرفة قيمة المحاولات التي سأطرحها:
أتصورُ أنّ فعل الإنسان وممارسته من حيث تأثيره على نفسه وملكاتها وكمالها مرتبطٌ بقدر تعقله وفهمه والفلسفة التي يقدِّمها لنفسه حول ممارسته، وبقدر ارتباطه بفلسفته أثناء فعله سيرتقي بنفسه، وبقدر سعتها وعمقها سيكون فعله متجددًا ومؤديًا للغرض المراد منه.
فالحاصلُ أنَّ التنظير مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بالممارسة.
من هنا يمكن أن أقول أنَّ فلسفة الفعل والممارسة (كالصوم) لها جانبان:
الجانب الذاتي: أن تكون الفلسفة للفعل والممارسة من حيث نفسها وشأنها.
الجانبُ الشخصي: أن تكون الفلسفة للفعل والممارسة هي الفلسفة والفهم الذي يفهمه الفرد.
فيمكنُ أن نقرر فلسفة للممارسة والفعل من وجهة ذاتية، لكن على الجانب الشخصي لا نجدُ لها معتقدًا يُجري ممارسته على وفقها، وهذا لا يعني أنَّ هذه الفلسفة الذاتية ليست من شأن الممارسة والفعل.
وأضيفُ أنَّه يمكنُ أن تتعدد الفلسفات من وجهتها الذاتية ومن وجهتها الشخصية، وتعددها من الوجهة الأولى من حيث عمق الفلسفة ودقتها والمفاهيم التي تَمَّ الانطلاق منها، وتعددها من وجهتها الثانية الشخصية من حيث تعدد أنفس البشر وقدر تعقلهم وكلي شخصيتهم.
وما سنعرضه هو النوع الأول من الفلسفة فسيكونُ المعروض كافيًا لفهم المقصود من هذه الفلسفة، فلذا نمثل على النوع الثاني وهو الفلسفة الشخصية للممارسة:
قد تكون فلسفة البعض لصيامه أنْ يُسقط التكليف الذي كلفه الله به عن نفسه، ولا يريد من امتثاله غير ذلك. فهذا الشخص بقدر فلسفته تكون مشاعره وميوله تجاه ممارسته فما أن يأتيه الخاطر بالأكل ويشعر بالجوع إلَّا وتحسّرتْ نفسهُ وزاد انتظارهُ لوقت الإفطار ليتخلّص من العسر الذي هو فيه، وتجده يمنِّي نفسه كل يومٍ أن يهلَّ هلالُ العيد وينتهي من العذاب الذي هو فيه. (هذا لسان فلسفته).
هذه فلسفة شخصية متطرفةٌ قد لا يكونُ لها مصداق واقعي لكن يمكن القياس عليها ومعرفة الدرجات الأخرى الأقل تطرفًا.
ويهمُّنا الآن من هذه الفلسفة الشخصية أن نقيمها من حيث تأثيرها على الممارسة: إنّ حظَّ ممارسة هذا الشخص على نفسه وكماله بقدر فلسفته الناشئة عن شخصيته (ميوله، أهوائه، تعقله،...)، وقد أوصله تعقله أنْ يأخذ على نفسه أن يمتثل أمر الله بالصوم ولكن ذلك بميول سلبية تجاه هذا التكليف، فحظّهُ من آثار ممارسته وفعله هو حظُّ فلسفته، فإن تأثير صومه على نفسه وكمالها إيجابًا من جهة طاعته لأمر الله، لكنَّه لن يكون على ارتباطٍ بفعله بحيث يوصله إلى الترقي في مدارج الكمال وصفاء النفس وطهارة الروح إلا بلطف ورحمة من الله سبحانه، فكم من صائم ليس من صومه إلا الجوع والعطش.
وأختمُ المقال بمقطعٍ من حديثٍ لأمير المؤمنين (ع) ليكون لي مستندًا فيما سأطرحه في المقالات القادمة، قال (ع): "ألا لا خير في عبادةٍ ليس فيها تفكر".
........................................
تغيير الاتجاه و الانقسام الزمني
نبدأُ من هذا المقال كما أشرنا، أولى المحاولات لتعقل وفهم الصوم وآثاره وكيفية إيصاله للغاية التي دلت عليها الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
إنَّ ظرف التكليف بالصوم هو بعد خطابٍ على طوال السنة بالرخصة في الأخذ بالملذات التي أباحها الله سبحانه، فللإنسان أن يأكل ويشرب ما لذَّ له وطاب، بحسب حاجته، بل بحسب رغبته، فلا يكتفي برفع الجوع عن نفسه كيفما كان، بل فليأكل الطيب من الطعام، كما أن له أن يأتي زوجه متى شاء ورغب.
وهذه الحاجات في المقام الأول والرغبات في المقام الثاني أمورٌ متأصلةٌ في نفس الإنسان ينبعث لها بمحض نفسه وذاته دون حاجة لباعث خارجي، وهي ضروريةٌ ومرتبطةٌ ببقاء نفسه وبقاء نسله، وهي التي تمدهُ بالطاقة والقوة والاستقرار النفسي، والخطابُ الإلهي التشريعي على طوال السنة قد جاء من حيث الأصل موافقًا لحاجة الإنسان ورغبته وانبعاثاته، فأباح له أن يُخرِج انبعاثه من مقام الشعور الداخلي إلى مقام الفعل الخارجي، وفي هذا الظرف الزمني الطويل بالإباحة من جهة واعتياد الإنسان للجري على المباحات من جهة أخرى، يتغير الخطابُ الإلهي مخالفًا لشعور الإنسان الداخلي الذي يطلب الملذات، فيلزمهُ أن يكبتَ شعوره داخل نفسه ولا يخرجه إلى مقام فعله، بأمرٍ منه سبحانه للوصول إلى قربه وتحقيق التقوى في نفسه.
إنَّ هذا الخطاب بالامتناع الذي يعقب الجري المعتاد على المباحات، هو تغييرٌ لاتجاه حركة الإنسان التي اعتادها طوال سنته، فبهلال شهر رمضان يسير عكس الاتِّجاه الذي كان يسيره، لا أكل، لا شرب، لا جماع، لا ملذات في فترة الصيام التي تبدأ بالفجر وتنتهي بالغروب المقترنان بارتفاع صوت الأذان.
إنَّ تغيير الاتِّجاه يعني فيما يعنيه تهيئةً ذهنية ونفسية مستجدة على نفس الإنسان، فأنا كنتُ في فترةٍ تقتضي شيئًا وأنا الآن في فترة أخرى لها خصوصية من حيث حاجاتي وانبعاثاتي وأفعالي وتقتضي لها شيئًا آخر.
إلامَ يفضي هذا التغيير لاتِّجاه الحركة؟
إنه يفضي إلى انقسامٍ و فصلٍ بتجربة الإنسان وممارسته وشعوره بين فترتين زمنيتين متضادتين من حيث التفاعل مع النفس، فبعد أن جرَّب اللذة يجرِّب ألم الانقطاع عنها، وبالضد الشعوري يُعرف الضد الشعوري الآخر من حيث قيمته الشعورية، وتتسع تجربة الإنسان الشعورية، فلا تبقى نفسه بالسعة المعرفية الأولى، فمن جرب الجوع ليس كمن لم يجربه.
وهنا أفرز عناوين تحتاجُ إلى تفلسفٍ أكثر وأعاودُ إلى ما كنتُ بصدده:
- تغيير الاتِّجاه.
- التهيئة الذهنية و النفسية المستجدة.
- السعة المعرفية بالتجربة الشعورية من جهة طبيعة المعرفة المتَّسِعة وآثارها على النفس.
- فلسفة الانقسام الزمني، وسأتناول ما انقدح في بالي عنه فيما يلي:
إنَّ هذا الانقسام الزمني الذي يفضي إليه تغيير الاتِّجاه يوصل إلى المقارنة بين زمنين: زمن طويل هو زمن الرغبات، ومدة زمنية مؤقتة قصيرة هي زمن الامتناع، وهذه المقارنةُ تقعُ على الواقع المركب المعقد لا على بساطة المبادئ النفسية فقط، ولسان التعقد والتركب أنْ نقول: أنَّ هنالك عبدٌ بل عبيدٌ تتوالى عليهم النعم تترًا من ربهم وخالقهم ومعبودهم بأوصافه المطلقة بطرقٍ ووسائط في حياتهم الدنيوية بعضها اعتياديةٌ وبعضها غيبية، وهم بالعافية التي وهبها لهم وبالطاقة التي جعلها في أبدانهم التي تحرك جوارحهم، والشهوة التي جعلها في أنفسهم لإقامة أبدانهم بجذب الملائم إلى أنفسهم يتنعمون بنعمه يأكلون ويشربون وينكحون، يفعلون ذلك متى ما احتاجوا ورغبوا وشاءوا.
ثمّ إنهم في زمنٍ آخر انقطعوا بمحض إرادتهم وبأمرٍ من بارئهم عن الجري على نعمه التي وهبها لهم تقربًا له وامتثالاً لأمره، وبتجربتهم للانقطاع شعروا باللقمة التي اعتادوا عليها، وبالشربة التي غفلوا عن قيمتها، فمن شأن هذا التكليف أن يُعرِّفهم بقيمة النعمة وعظمة المنعم، فيصلون بدلالة الأثر الشعوري إلى معرفة المؤثر.
إنَّ هذا الاستشعار لقيمة لقمة الطعام وشربة الماء وامتثال الإنسان لملذاته هو شعورٌ بقيمة النعمة وعظمة المنعم الذي وهبهم كل هذه الملذات وأباحها لهم، ولم يحظرها عليهم تشريعًا ورزقهم إياها تكوينًا.
إنَّ الإنسان بسبب اعتياده على هذه الملذات قد يغفل عن قيمتها ويغفل عن منعمها، فيحتاج أن يتغير الاتِّجاه بالنسبة إليه لكي يلتفت مرةً أخرى إليها، فيكونُ منتظرًا لها وفي شوقٍ لإشباع حاجاته بها، وعندئذٍ إذا حمد ربه كان عارفًا بقيمة النعمة وعظمة المنعم.
إنَّ هذه العبادة العظيمة تهيئ لذلك، وهي لا تهيئُ عبدًا واحدًا لاستشعار ذلك بل مجتمعَه بأكمله، فمن شأنها أن توصل إلى اتحاد العبيد في هذا الشعور الخيِّر، إنها فترة زمنية يتحدُ فيها من يقتدرُ على إشباع رغباته ومن لا يقتدر على إشباعها، يتحدُ فيها الفقير والغني من حيث الشعور، ففي وقت واحد يجدُ كل من الطبقتين ألم الجوع والعطش والابتعاد عن الملذات، فهم مكلفون بتكليفٍ واحد، ومشغولون بفعلٍ واحد، وهو تجربة الجوع والعطش تقربًا لخالقهم وامتثالاً لأمره، وفي هذه الفترة الزمنية تنمحي الطبقتين وتكونُ طبقة واحدة من حيث الشعور الواحد.
وما شأنُ هذا الظرف إذا تّمَّ تعقله والتفكر فيه إلَّا أن تتضامن الطبقات مع بعضها البعض، وينشأ العطف العامّ، والتكافل والتعاون، والخصال الحميدة التي تعنى بالمشاركة، فمن شأن هذا التشريع أن يساهم في تحقيق الاتزان المادي في المجتمع، وبانضمامه للمنظومة الإسلامية بأكملها يرتفع الفقر حسب ما نعتقد.
إنَّ تغيير الاتِّجاه يفضي إلى الانقسام الزمني، والانقسام الزمني يوصل إلى المقارنة الشعورية بين القسمين، والمقارنة الشعورية تفضي إلى التقوى فردًا ومجتمعًا.
وكما يفضي تغيير الاتجاه إلى الانقسام الزمني فإنَّه يفضي أيضًا إلى انقسامٍ في بواعث الإنسان، وهذه هي المحاولة القادمة التي سيأتي عليها الكلام في المقال القادم بإذن الله تعالى.
........................................
تغيير الاتجاه والانقسام في البواعث
إنَّ الإنسان المؤمن يجري من شهر شوال إلى شهر شعبان على وفق انبعاثاته النفسية التي يشعرُ بها يوميًّا من شهوة الطعام والشراب والنساء، وذلك اتِّباعًا للخطاب الإلهي بالرخصة، وفي خصوص شهر رمضان يتغير اتِّجاه الخطاب من الرخصة إلى المنع، فتتغير حركة المؤمن بأفعاله وانبعاثاته وحاجاته، فيكفُّ عن الفعل و يكبِتُ الانبعاث ولا تُشبعُ الحاجة، فيتحقق فصلٌ من حيث التجربة والشعور بين شهر رمضان وغيره أو ما عبَّرنا عنه بالانقسام الزمني، وممَّا يفضي إليه هذا التغيير في الاتِّجاه أيضًا هو الانقسام في البواعث، وهو ما نتناوله في هذا المقال.
إنَّ البواعث التي يتمُّ كبتُها في شهر رمضان في فترة الصيام هي بواعثٌ ضروريةٌ في حياة الإنسان ولها قيمتها وأهميتها وشأنها في وجوده وبقائه، بل استقامة نفسه واستقرار ذهنيته وقدرته على التفكير وأداء وظيفته، وهي البواعث الغريزية، وطبيعة هذه البواعث أنّها بواعث مُلِحّةٌ في النفس، تتحقق فيها بمجرد الحاجة، كما أنها تشغلُ جانبًا كبيرًا من حياة الإنسان، فمقدماتها تحتاجُ إلى سعي دائم، أعني بذلك المقدمات البعيدة كالسعي لتحصيل المال.
ثُمَّ إنَّ كبت هذه البواعث يؤدي إلى الإرهاق والتعب، وقد يؤثر على ذهنية الإنسان وممارسته وحياته اليومية عمومًا.
وإذا تأمّلنا في هذه البواعث الغريزية وجدناها تصبُّ في حبِّ الإنسان للبقاء واستمرار حياته، وهو حبٌّ لهُ تأصلٌ في بنيته البدنية الجسدية، ويمثلُ السلامة النفسية والحالة السوية للنفس الإنسانية.
وفي نفسِ الإنسان بواعث من نحوٍ آخر متعلقها هو غير متعلق البواعث الغريزية، فإذا كانت البواعث الغريزية تصبُّ في كفة حبِّ البقاء الدنيوي، فإنّها تصبُّ في كفة حبِّ الكمال، ويمكن أن نقول حب البقاء في عالمٍ آخر غير عالم الدنيا يمثلُ سمو الإنسان.
وهذا النوع من البواعث التي قد نربطها بالعقل والقلب والروح يمكنُ لنا أن نسميها بواعث إنسانية، نظرًا إلى تمحضها في هذه الكفة وارتباطها بعالم المعنى.
إنَّ هذه البواعث مختلفة عن تلك البواعث من حيث إلحاحها وشدتها التي يجدها الإنسان في نفسه، بل كثيرًا ما تغيبُ عن ساحة النفس لتلهي الإنسان عنها ببواعثه الغريزية، فيجعلها في طرف الإهمال واللامبالاة، فهي بواعث تحتاج إلى مزيد عنايةٍ وتوجه من الإنسان، وبحسب طبيعتها لا تتحقق هذه العناية بالجري النفسي التلقائي كما في البواعث الغريزية، بل تحتاج إلى توجهٍ من الإنسان بنفسه.
ونتساءل الآن: ما هو موقع الصوم من هذه البواعث؟
إنَّ الصوم يحققُ انقسامًا نفسيًا بين هذين النوعين من البواعث بإرادة الإنسان لامتثال أمر الله تعالى والتقرب له، ففي إرادته لذلك إهمالٌ مؤقتٌ لبواعثه الغريزية رغم إلحاحها في النفس وارتباطها بقوته وطاقته ولذته من أجل طاعةِ الله سبحانه، والتي منشؤها أيضًا حاجةٌ في نفس الإنسان وميلٌ وباعثٌ فيه وهي فطرته وعقله وقلبه وروحه التي تدعوه للكمال المطلق والترقي في مدارجه.
فيتحققُ فصلٌ شعوريٌّ بين حبين متأصلين في الإنسان: حبه للبقاء الدنيوي وحبه للكمال المعنوي، وينتصر الصائمُ مقويًّا الكفة الثانية على الأولى، ولسانُ هذا الوضع النفسي: أنا لا أجري على وفق رغباتي الآنية دون نظرةٍ كليَّةً حول نفسي وحول وجودي، فإنني موجودٌ في هذه الدنيا أراعي شهواتي ورغباتي، ولكن لأجل كمال نفسي وسمو روحي وصفاء قلبي وطهارة نيتي، وبتعبير يشملها جميعًا لأجل عبادة ربي.
ومن هنا يتعلّم الصائم الموازنة بين حبيه وباعثيه، فإرادتهُ لا تتوجه بحسب الباعث الملح، بل إرادته بحسب تعقله وإدارته التي توصلُهُ إلى كمال نفسه، ويتعلمُ من خلال تجربته هذه أن يُجاهد لكي يكون فاضلاً، فالصومُ سعيٌ حقيقيٌ نحو التقوى.
وهذه الموازنةُ بين الكفتين تحتاجُ إلى فريضة الصوم من جهة أنّ الجانب الغريزي له سلطة على الإنسان طوال حياته حيث أنَّه مرتبطٌ ببقائه حيًّا، فلذا يعطي مؤشراته دائمًا للإنسان لإشباع حاجته، فيضطر للانشغال به عن جوانبه الأخرى التي تمثل سموه الروحي والقيمي.
إذن: إنَّ تغيير اتِّجاه الحركة التي يتحركها الإنسان طوال السنة من الرخصة إلى الامتناع يفضي إلى أمرين لا على نحو الحصر:
- الانقسام الزمني: وهو يكون بين شهر الصيام وغيره من الأشهر، وهذا الانقسام انقسامٌ شعوريٌّ بتجربة الإنسان وليس انقسامًا ذهنيًا وحسب.
- الانقسام في البواعث: وهو يكون بين الباعث الغريزي في الإنسان والباعث الإنساني، وانقسامٌ بتجربة الإنسان وإرادته لمراعاة جانبه الروحي والإنساني وتقويته.
هل هنالك انقسامٌ آخر يحققه الصوم؟
نعم إنَّه يحققُ انقسامًا شعوريًّا آخر بتجربة الإنسان، وهو ما أسميه بـ (انقسامُ اليوم).
هذا ما سنتناوله في المقال القادم.
........................................
انقسام اليوم
إنَّ التكليف الإلهي بالصوم هو تكليفٌ مؤقتٌ من حيث عدد الأيام، ومؤقت من حيث ساعات الصيام، ويبدأ التوقيت الأول من هلال رمضان وينتهي بهلال شوال، ويبدأُ التوقيت الثاني من الفجر وينتهي بالغروب، وعَبَّرنا عن الحالة الأولى من التوقيت في المقالات السابقة بالانقسام الزمني وقارنّا بين أشهر الفطر وشهر الصيام من حيث الشعور وتوسع المعرفة، وهنا نقول أنَّه كما يتحقق انقسام زمني يتحقق انقسامٌ في اليوم بين وقت الصيام ووقت الإفطار، وهذا هو موضوعنا في هذه السطور.
يمكنُ أن نقسم المراحل التي تمرُّ بها نفس الإنسان من حيث صدور الفعل عنه إلى مستويات ثلاثة:
المستوى الأول: مستوى الحاجة، كحاجة الطعام والتي تظهر في النفس شعوريًّا بالجوع.
المستوى الثاني: مستوى الانبعاث، كانبعاث نفس الإنسان نحو الطعام وطلب نفسه لذلك، كشهوة الأكل.
المستوى الثالث: مستوى الفعل، وهو جري الإنسان على وفق المستوى الأول برفعه للحاجة، وعلى وفق المستوى الثاني بتحقيق الانبعاث والرغبة إلى فعلٍ خارجي بجوارحه وبدنه.
إنَّ ما يقعُ تحت إرادة الإنسان المباشرة من هذه المستويات هو فعله، فيمكنُ له بحسب إرادته الإقدام والإحجام كيفما شاء، والصائمُ في فترة الصيام يمتنعُ عن الفعل فتبقى الحاجة والرغبة في نفسه.
ثم بعد فترة الصيام يأتيه خطابُ الرخصة بغروب الشمس، وتكونُ الرخصة مستمرة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ويمكنه في هذه الفترة أن يحقق حاجاته وانبعاثات نفسه الغريزية على مستوى الفعل، وله الحرية في ذلك.
يكون الصائم في فترة الصيام في كبتٍ لبواعثه الغريزية لجهة الخطاب المتوجه إليه من الله بذلك، ولأنَّ التكليف بالصيام مستمرٌ لمدة شهر، فإنَّه يجري على ذلك مدة شهر كامل، ثُمَّ إنَّ فترة الإفطار والرخصة يجري فيها على ذلك نفس المدة.
وما يقعُ في الفترتين (فترة الصيام وفترة الإفطار) هو تنبهٌ من الإنسان لبدايتهما ونهايتهما، فإنَّ صيامه يبدأ من الفجر فعليه أن يلتفت له لكي لا يأتي بالمفطر، وينتهي بالغروب وهو بحسب نفسه منتبهٌ إليه لباعثه الغريزي نحو الملذات.
والتنبهُ الأول هو تنبهٌ عاقلٌ يراعي الباعث الإنساني الذي يحتاجُ الإنسان في مراعاته إلى توجهٍ وتنبهٍ منه، والتنبه الثاني وهو التنبه لوقت الإفطار هو تنبهٌ غريزي.
والملاحظُ أن كلا التنبهين مرتبط بوقتين لهما خصوصيتهما الشرعية، فإنهما مرتبطٌان بارتفاع صوت الأذان وإقامة الصلاة، فأنت في بدايتك للصيام تفتحه بالصلاة، وختامك له تختمه بالصلاة، وبها تبتدأ وقت الإفطار وتختمه أيضًا، وهكذا تدورُ في شهرك هذا المدار.
إذن: إنَّ تعقلك و توجهك إلى باعثك الإنساني مرتبط ومقترن بوقت الصلاة وارتفاع صوت الأذان، بمعنى أن تنبهك لأول وقت الصيام هو تنبهٌ منشؤه الباعث الإنساني وهو مقترن بالصلاة، ثم إنَّ جريان نفسك على الباعث الغريزي وانتظارك لآخر وقت الصيام مرتبطٌ ومقترن بوقت الصلاة وارتفاع صوت الأذان.
ومن هنا نقول إننا نقرنُ كلا الباعثين بالصلاة والعبادة والأذان (الذي هو عبارةٌ عن رمز ذي معانٍ سامية يرمز إلى دخول وقت الصلاة).
وبين هذين التنبهين من الصائم، التنبه لبداية الصيام ونهايته يجرِّب خلال اليوم الواحد الامتناع والرخصة، أي أنَّه يجرِّب شعوريًّا الضدين، وتجربته الضدين موجهةٌ على نحوٍ يكون في فترة الصيام غير منبعثٍ نحو انبعاثاته الغريزية لغاية طاعة الله والوصول إلى مصلحة هذه العبادة وهي التقوى فيقفُ منتصرًا لكفة البواعث الإنسانية، فيحاول خلال هذه الفترة أن يعلم نفسهُ بهذه الطاعة (التجربة) أن يلتزم بما تبعثه فطرته وعقله وروحه نحوه.
ثُمَّ يأتيه خطابُ الرخصة (وقت الإفطار)، وهو عندئذٍ يجرِّب نفسه من حيث موازنته بين بواعثه الغريزية والإنسانية، ففي هذا الشهر تَدْخُلُ نفسك في تجربتين تنتصر في إحداهما للباعث الإنساني (وقت الصيام)، وفي التجربة الأخرى (وقت الإفطار) تُخلَّى عن التكاليف فترى ميول نفسك إلامَ تميل؟ وفي الدوران بين الصيام والإفطار ظرف يهيئ الإنسان لكي يعود إلى الأشهر الأخرى على نحو يوازن بين بواعث نفسه.
إذن: هذا ظرفٌ مهيئٌ للإنسان لقياس مقدار تعقله بين هذين الطرفين الزمنيين من التكليف والترخيص، فهلُ تتوافق حالة إفطاره مع حالة صيامه من حيث إنَّ الصيام قد كان لتقوية الباعث الإنساني فيه، هل يطلق العنان لغريزته مرةً أخرى دون مراعاة للباعث الإنساني؟
إنَّ المؤمن يجرِّب ذلك طوال الشهر، بين هاتين الفترتين، إنَّه قبل أن يصل إلى زمن الإباحة المطلقة للملذات وهي الأشهر التي بعد شهر رمضان يجرب في هذا الشهر الذي تغلُّ فيه الشياطين نفسهُ هل هي ميّالةٌ للخير؟ هل يمكنُه أن يديرها إدارةً توصلهُ إلى كماله؟ ما هو مقدار تعقله؟ هل يمكنه في فترة الإفطار أن يوازن بين باعثه الغريزي وبين باعثه الإنساني؟
وبتعبير آخر: هل ينسجم صيامه مع إفطاره؟
وهذا الظرف يقضي على الإنسان العاقل أن يتنبه إلى نفسه في فترات صومه وإفطاره ويغير من نفسه في كل يومِ جديد يمر عليه خلال شهر رمضان.
فالحاصل: إنَّ المقصود من انقسام اليوم هو أن تجربة الإنسان وممارسته تكون على قسمين: قسمُ الصيام وقسم الإفطار، ويبتدأُ القسم الأول وينتهي بالصلاة والأذان، وكذلك القسم الثاني، وهذا يمثل أجواء هذين القسمين، فيكون انتظار المؤمن وتنبههُ في يومه مرتبطٌ دائمًا بالطاعة والعبادة.
وخلال القسمين يجربُ بواعثه النفسية عمومًا (أعم من الباعث الغريزي والباعث الإنساني) ولكن تختلفُ تجربته في كلا القسمين، ومجموع هذه التجربة تهيؤه للمستقبل وما يأتي من الأشهر بعد الشهر الكريم.
في المقال القادم بإذن الله تعالى سنُأسس تأسيسًا جديدًا لنبني عليه، وعنوانه: (التجربة الشعورية وانتزاع الكلي).
........................................
التجربة الشعورية وانتزاع الكلي – كسر العادة
إنَّ الإنسان يدرك نفسه ويدرك الأشياء التي حوله التي هي خارجة عن نفسه، لكن هل إدراكاته على نحوٍ واحد أم أنها مختلفة؟
يمكن لنا أن نقرب معنى الإدراك بقولنا أنَّه انكشافُ شيءٍ للإنسان لم يكن منكشفًا له في اللحظة التي أُدْرِكَ فيها، ولتوضيح الفكرة نضربُ مثالاً يقربها لأذهاننا: أنا أعلم بنفسي وأحوالها وشؤونها وما يعرضُ عليها، ولا أجدُ فيها حاليًا أيَّ شعورٍ، ثُمَّ حدث لي في نفسي شعورُ الخوف أو الخجل، فانكشف لي في نفسي شيءٌ لم يكن منكشفًا من ذي قبل، وهو هذا الشعور الجديد.
إنَّ هذا النوع من الإدراك المتعلق بالمشاعر يُسَمَّى في علم المنطق بالعلم الحضوري، لكنْ ما معنى ذلك بالدقة؟ إننا سنفهمه عندما نتعرّفُ على ما يقابله.
إنَّ الإنسان كما يُدْرِكُ على النحو السابق فإنَّه يدرك على نحو آخر، فعندما أفتحُ الثلاجة وأجدُ على الرفِّ تفاحةً حمراء، فإنَّه يحصل لي انكشافٌ جديد لم يكن من ذي قبل وهو إدراكي لوجود التفاحة على رفِّ الثلاجة، وهذا نوعٌ من العلم يباين النوع السابق ويُسَمَّى بالعلم الحصولي.
نتساءلُ الآن: ما هو الفرقُ بين العلمين؟
إنَّ علمي الأول المُسَمَّى بالعلم الحضوري يختلف عن العلم الحصولي، إذ أنَّه إذا شعرتُ بالخوف أو الخجل أو غير ذلك من المشاعر فإنني أجدُ ذلك في نفسي حاضرًا، ولكن عندما أدرك التفاحة الموجودة على الرفِّ فإنَّ التفاحة لا تكونُ حاضرة في نفسي، بل ما يحضر هو صورةٌ تحكي لي عن التفاحة الموجودة في الخارج، أو يمكن أن تقول يحضر لي معنىً أو شيء يُعَبِّرُ عن الأمر الخارجي إذا لم ترتضِ التعبير السابق.
إذن: إذا علمتُ علمًا حضوريًا حضر عندي نفس الشيء، فشعور الخوف يحضر عندي بنفسه، لكن إذا علمتُ علمًا حصوليًا فإنَّه لا يحضر عندي نفس الشيء، بل صورته ومعناه.
نقول الآن: يُقسِّم علماءُ المنطق عِلمَ الإنسان إلى قسمين:
علم حصولي: وهو حضور صورة الشيء لدى العالِم.
علم حضوري: وهو حضور نفس الشيء لدى العالِم.
ثُمَّ إنَّهم يُقَسِّمُونَ أيضًا مفاهيم الإنسان إلى قسمين:
كُلِّي: وهو المفهوم الذي ينطبق على أكثر من واحد، مثل: (مفهوم الشجر) الذي ينطبق على شجر التفاح والبرتقال والليمون...، فمفهوم الشجر كلي.
وجزئي: وهو المفهوم الذي ينطبق على شيءٍ واحد، مثل: مفهوم الشيخ يوسف البحراني صاحب كتاب الحدائق الناضرة، فهذا المفهوم ليس له إلا مصداقٌ واحد وينطبق على شخص واحد، فهو مفهوم جزئي.
إلى هنا تناولنا تقسيمين منطقيين على بساطتهما، ونحاول الآن أن نعقد ذلك ونربط التقسيمين ببعضهما:
إنَّني إذا شعرتُ بشعورٍ كالخوف ثُمَّ بعد مدةٍ شعرتُ بشعور الخوف أيضًا، فهل هنالك فرقٌ بين الشعورين؟
إنَّنا عندما نتأمل نجدُ أن كليهما يصدق عليه مفهوم (الخوف)، لكنهما أيضًا مختلفان من جهة أخرى وهي أنَّ كلاً منهما شعورٌ حصل للإنسان في لحظةٍ خاصة، ولأنَّهما وقعا في زمنين مختلفين كانا اثنين ومتغايرين.
فأنا عندما أشعرُ أشعرُ في زمنٍ خاص وظرفٍ خاص وبسبب خاص، فلذا يكونُ شعوري هذا مفهوم جزئي، وتجربة خاصة في لحظة خاصة.
إذن: هنالك مفهومٌ عام للخوف، أو حسب الاصطلاح مفهوم كلي، وهنالك جزئيات ينطبق عليها ذلك المفهوم وهي مختلفة لكن يجمعها مفهوم الخوف الكلي.
إنَّ هذا الانتزاع للمفهوم الكلي عن طريق المشاعر، وقد أنتزعه لا عن هذا الطريق، بل عن طريق الأمور المحسوسة التي أجدها في الخارج، كما لو رأيتُ كائنًا حيًّا لم يره أحدٌ من البشر من قبل، و أنا أولُ من رآه، فإنَّني أمتلك صورةً عنه خاصةً به، و أكوّنُ صورة أخرى عامة وهي أنَّ لهذا الكائن الحي كائنات أخرى تشابهه وتشترك معه في الحقيقة والنوع، وهذا المعنى الثاني هو المفهوم الكُلِّي الذي ينطبق على الكائن المرئي وغيره.
فهنالك نوعان من انتزاع المفاهيم الكُلية: انتزاعٌ من الشعور وانتزاعٌ من غير ذلك، فلذا يمكنُ أن نقول: أنَّ الكلي المنتزع قد يكونُ كليًّا شعوريًّا وقد يكون غير ذلك، وما يهمُّنا هو النوع الأول.
إلى هنا وصلنا إلى الافتراض الذي نفترضه وهو: (التجربة الشعورية وانتزاع الكلي) وتَبَيَنَ أن المقصود من الكُلِّي هو الكُلِّي الشعوري، وأقفُ هنا للتفرقة بين نوعين من الكُلِّي الشعوري:
أوَّلاً: الكُلِّي الشعوري المرتبط بذواتنا.
ثانيًا: الكُلِّي الشعوري الذي نُسقِطُه على الآخرين.
عندما نشعرُ بمشاعر الخوف وتتكونُ في أنفسنا تجربةٌ حول هذه المشاعر، فإنَّ تجربتنا جزئية خاصةٌ بنا متلائمةٌ مع ملكاتنا النفسية من الشجاعة وثبات الجأش والوقار وما يقابل ذلك، فنحن ننتزع الكُلِّي بحسب تجربتنا وإذا صح لي أن أعبر: (كُلِّي شخصيتنا).
ثُمَّ نُوسِّع هذا المفهوم لغيرنا من البشر، بل حتَّى الحيوانات ونحاولُ أن نتصور معنىً عامًّا مشابهًا لِمَا جَرَّبْنَاه لكنَّه لا يتساوى معه لكي نوسِّعه إلى أوسع من تجربتنا الشخصية.
إنَّ النوع الأول هو الكُلِّي الشعوري المرتبط بذواتنا، والنوع الثاني هو الكُلِّي الشعوري الذي نُسْقِطُهُ على الآخرين، وما أقصده في المقال هو الكُلِّي الشعوري المرتبط بذواتنا، ولنصطلح عليه بالكُلِّي الذاتي اختصارًا وتسهيلاً.
ما هي ميزةُ الكُلِّي الذاتي التي مَيزتهُ عن مُقَابِلِهِ؟
ميزتهُ أنَّه مرتبطٌ ارتباطًا مباشرًا بتجربة الإنسان والاقترانات التي اقترنت بهذه التجربة، فمفهوم الخجل بالنسبة للشخص الخجول يعني له معنىً ناشئ عن تجاربه وارتباكاته وتلعثمه، والمحتملاتُ الذهنية تجاه موضوع يحتاج إلى جرأة بالنسبة للشخص الخجول تختلف عنها بالنسبة للشخص الجريء، كما أنّ الشخص الجريء بطبعه لم يشعر بمشاعر الخجل التي يجفُّ معها اللسانُ بالحلق وتجعل الفرائص مضطربة.
ومن هنا نقول: إنَّ الإنسان يمرُّ بمشاعر جزئية يجمعها كُلِّيٌ ذاتيٌ واحِدٌ ينتزعه منها، ويمكن أن يكون هذا الكلي الذاتي مؤثرًا على ما يتوقعه بالنسبة لنفسه في المستقبل.
إنَّنا عندما نصومُ نشعرُ بمشاعر خاصة ناشئة عن صيامنا، فما هي الكليات التي يمكن أن ننتزعها منها؟ وماذا ستأثر على مستقبلنا وتوقعنا حول ذواتنا؟ هذا ما سنتناوله في المقال القادم بإذن الله تعالى.
........................................
الكلي الذاتي- كسر العادة و خلق العادة
إنَّ الإنسان يمرُّ بمشاعر جزئية يجمعها كلي ذاتي واحد ينتزعه منها، ويمكن أن يكونُ هذا الكلي الذاتي مؤثرًا على ما يتوقعه بالنسبة لنفسه في المستقبل.
إننا عندما نصومُ نشعرُ بمشاعر خاصة ناشئة عن صيامنا، فما هي الكليات التي يمكن أن ننتزعها منها؟ هذا ما ختمتُ به المقال السابق وأبتدأ به هذا المقال.
نحنُ نصومُ (أي نمتنع عن الملذات) بنية التقرب إلى الله سبحانه، فنكف أنفسنا عن المفطرات بعد أن كنا على عادةٍ جاريةٍ طوال السنة من إشباع رغباتنا وانبعاثات أنفسنا.
إننا بالصيام نكسرُ عادتنا السابقة و نبدأ شيئًا جديدًا خارجًا عن عادتنا، و هو مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا بأنفسنا، فنشعر بالإرهاق و التعب في أول أيام الصيام و نلتفت كثيرًا للجوع و العطش الذي نشعر به، وهي مشاعر مرتبطة ببنيتنا الجسدية و ينبهنا دماغنا عن طريق الشعور بحاجة البدن للطاقة و القوة التي يستمدها من الطعام و الشراب، فهي ليست حاجات ثانوية بل أساسية، لكننا مع ذلك نكسرُ عادتنا على إشباعها، و نبدأُ بدايةً جديدة تخطو نحو بناء عادةٍ في فترةٍ، وبعد مدةٍ من الصيام –في الغالب- يقلُّ شعورنا بالإنهاك و التعب و الجوع و العطش، ونعتادُ على ذلك بقدرٍ ما، فنخلق بإرادتنا لطاعة الله سبحانه عادةً جديدة منافيةً لحاجة بدننا الضرورية التي لا تبقى الحياة بدونها، إننا ننافي أكثر الأشياء ربطًا ببقائنا من أجل الله سبحانه.
إذن: إننا شعوريًّا نكسرُ عادةً ونبني عادة أخرى منافيةٌ لها تمامًا.
ما هي العادة؟
العادة هي أمرٌ في نفس الإنسان ينشأُ عن تكرار سلوكٍ معين يجعله يفعله في المستقبل بتلقائيةٍ.
ويمكن من خلال هذا الشرح لمفهوم العادة أن نقول أنّ العادة ترتبط بفعل الإنسان في المستقبل، فهي تؤثر في الافتراض الذي يفترضه عن نفسه لكيفية أدائه في المستقبل، وإنْ تتطور أداؤه فهو مرتبطٌ بعادته وما يلائمها ما دام هو جارٍ على عادته نفسيًا.
وهنا أستدركُ شيئًا وأقول: إن العادة لا تتعلقُ بالسلوك وحسب، بل هي أبعدُ من ذلك، وتتعلق بغير ذلك، فإن العادة له أثرٌ على فهم الإنسان وشعوره، ولعل تعبير الأثر قليلٌ في حقها، ولكن يمكن لنا أن نفهم ارتباط العادة بنفس الإنسان من خلال ما سنمثل به.
إن عالم الطبيعة قائمٌ على قانون الأسباب والمسبَبات، فالنار سببٌ والحرارةُ مسببُها، والثلج سببٌ والبرودة مسببه، وهكذا ...
لكن في مقام الفحص عن السبب والمسبب ومعرفته يتوجه الإنسانُ إلى الشيء وما يصدرُ عنه، فإذا وجد أن الصادر عنه في المرة الأولى شيء، وفي المرة الثانية شيءٌ آخر، فإن مسببه الأساسي لن يكون معروفًا له، ويحتاجُ إلى فحصٍ أكثر لكي يحدده ويتعرف أيضًا على السبب الذي جعل المسبب في المرة الثانية مختلفًا عن المرة الأولى، وفي المرة الثالثة عندما يفحص السبب ويجرب الصادر عنه، فإنه يحتملُ صدور كلا الأثرين بلا فرق من ناحية المحتمل العقلي ولا مرجح لأحدهما على الآخر، فلو صدر الأثر الأول، فلعله في المرة الثانية يصدر الأثر الثاني، فأحتاج أن أجرب مرة رابعة لأتحقق، ففي مقام المعرفة تتوقف معرفتي بارتباط السبب بمسببه على أن أجدهما مقترنان معًا أكثر من مرة وأعتاد على ذلك، وبعد حينٍ أجدُ في نفسي أنني أتوقع المسبب والأثر بمجرد تصور السبب والمؤثر، وسأحكم بملازمة الأثر للمؤثر في المستقبل دائمًا، فهو أثره الملازم له.
إذن: تتدخل العادةُ في فهمي لقانون الطبيعة وارتباط الأسباب بمسبباتها.
ويمكنُ لي أن أقول إنني أعرف المستقبل بحكم العادة، فكيف لي أن أحكم بأنّ الغد ستشرق فيه الشمس؟ وكيف لي أن أحكم بأنّ النار في الغد ستكون محرقةً كما هي في هذا اليوم؟ وكيف لي أن أحكم بأن القانون الطبيعي ومجريات الحياة التي هي سارية اليوم ستكون سارية في الغد أيضًا؟ فالعادةُ تشكلُ ارتكازًا نفسيًّا متعلقًا بفهم المستقبل الذي لم يأت بعد إلينا، ولم يدخل في حيز الوجود.
تنبيه: إنني أتكلمُ عن جانب المعرفة لا عن العلاقة بين السبب والمسبب، وهل توجد بينهما سنخية أو لا توجد؟ وهل هي مجرد اقترانات لا علاقة لها ببعضها البعض اكتشفناها بجريان العادة أم غير ذلك؟
وكما تتعلق العادة بفهم الإنسان تتعلقُ أيضًا بشعوره، فمشاعر الإنسان تجاه شخصٍ عامله بقسوةٍ وغلظة لمدةٍ طويلةٍ في كلامه وتعابير وجهه ونبرة صوته ومواقفه ستكونُ سلبيةً على نحو تَنْفِر نفسه منه بمجرد رؤيته، فقد اقترنت وصدرت منه أفعال وأقوالٌ كان لازمها في الغالب شعورٌ سيء، فاعتادت النفس على الشعور بذلك كلما قابلتْهُ، فلو غيّر هذا الشخص نفسيتهُ بأكملها و صار رجلاً خيرًا، فإن الشعور السيء سيصاحب الشخص المساء له كلما قابله إلى أن يقترن شعورٌ آخر به وإن كان يريدُ المساء له أن يرفع من نفسه الشعور السيء ويتصالح معه، لا أقول أن هذه قاعدة تجري دائمًا بالنسبة للشعور لكن يحدث ذلك كثيرًا و ما أريد إظهاره هو قيمة العادة.
إذن: العادةُ تتعلق بالمستقبل وتصورنا وشعورنا تجاهه، وعلى أساسها نفترض ما سيكون حتى بالنسبة لأنفسنا، فملكاتنا الذهنية والنفسية نجريها في المستقبل ونتوقعها كما هي لا تخوننا وتفلت منا خصوصًا إذا افترضنا أنفسنا في موقفٍ ما.
ما هو ربطُ ذلك بالصوم؟
إنني بالصوم أكسر عادتي وأجربُ شعور كسر العادة السابقة، وأبني لي عادةً جديدة محدودة بفترة زمنية (شهر رمضان)، وذلك بالاستعانة بالعامل الزمني وتكرر السلوك فيه، وبهذا تتحقق العادة الجديدة.
فهنا طرفان: الطرف الأول: كسر العادة، والطرف الثاني: خلق العادة.
وهذان الطرفان خاصان بمتعلق الصيام وهو المفطرات، فأكسر تعودي على الأكل والشرب، وأسعى في خلق عادةٍ جديدة في النفس وهي الامتناع عن المفطرات.
ونسأل الآن: ما هي قيمة المكسور بالنسبة للنفس؟
إنَّ العادة المكسورة هي عادة النفس على أربط الأشياء بها وأقربها وأكثرها ضرورةً، والكاسر لها هي إرادة الإنسان الاختيارية لطاعة الله سبحانه، والمكسور به هو أبعد الأشياء عن نفس الإنسان وحاجتها، وهو الامتناع عن الملذات.
ومن هنا كانت التجربة الشعورية والجزئي الشعوري الذي يمرُّ به الإنسان له قيمته وأثره على النفس، ومن شأنِ هذا الجزئي الشعوري أن يُنتزع منه كليٌّ شعوري ذاتي، والكلي المنتزع هو كلي كسر العادة المتعلق بحاجة النفس، فالمجرب للصوم ليس كمن لم يجربه، فالمجرب له يتخيلُ نفسه يكسرُ المعتاد والارتكاز النفسي والشعوري الذي يجري عليه بتلقائية وسهولة إذا كانت له في ذلك غاية، إنه يجد في نفسه هذه القدرة، فينتزعُ هذا الكلي الذاتي من تجربته الشعورية، ولأنه مرتبط بشعوره ولأنه كسر أقرب الأشياء وأكثرها ضرورةً لنفسه وهي حاجته ورغبته الغريزية فإنّ نفسه ستتغير في نظره وفهمه بل ستتغير أبعد من ذلك، فإنه يتعلم بالإرادة الملزمة القائمة على داعي التقرب والطاعة لله الذي هو داعٍ عقلي في جهةٍ من جهاته على خلق عادةٍ نفسية جديدة مخالفة لأكثر الأشياء ضرورة لنفسه.
ونسأل الآن: ما هي قيمة (كسر العادة) و(خلق العادة) بالنسبة للإنسان؟
أكرر في الجواب ما ذكرته سابقًا: "العادةُ تتعلق بالمستقبل وتصورنا وشعورنا تجاهه، وعلى أساسها نفترض ما سيكون حتى بالنسبة لأنفسنا، فملكاتنا الذهنية والنفسية نجريها في المستقبل ونتوقعها كما هي لا تخوننا وتفلت منا خصوصًا إذا افترضنا أنفسنا في موقفٍ ما".
إنَّ ملكاتنا الذهنية والنفسية ليست على نحوها المثالي، فجرينا الاعتيادي عليها وافتراضنا الدائمي لها يعني ثباتنا عليها، وإنْ تحركنا فلن نتحرك بعيدًا عن اعتيادنا، لكن إذا جربنا كسر العادة وخلق العادة بإرادتنا، فإننا نتعلم كيف نبني ذواتنا ونسعى لسمونا الروحي وكمالنا ونفترضُ افتراضات لأنفسنا خلاف اعتيادنا، بل بحسب ما يوجهنا له عقلنا، فإنني أخرجُ من التلقائية التي يمكن أن تجري عليها نفسي وشعوري وسلوكي إلى أمرٍ أبنيه بتعقلي.
إنَّ القدرة على كسر العادة وخلق العادة بالمعنى الذي ذكرناه ضرورةٌ للبناء الأخلاقي للإنسان، وامتثالنا للصيام يصبُّ في بناء هذه القدرة من ناحية التصور الذهني حول المستقبل، نظرًا إلى أن كسر العادة يكسر المتوقع ويوسع من محتملات الذهن حول النفس، ومن ناحية قوة الإرادة ومن ناحية التجربة الشعورية التي تمكّنُ النفس بسهولة من انتزاع الكلي الذاتي المؤثر على سعة النفس والتصور المأخوذ عن قدرتها ومداها.
ويمكنُ لنا فهمُ هذه الحقيقة أيضًا عندما نقرأُ روايات أهل البيت (ع):
فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (ع): "للعادة على كل إنسان سلطان".
وقد مرَّ بيان تسلّط العادة على ذهنية الإنسان وتصوره عن نفسه، وتسلطها على قدرته وفعله.
وقد ورد عنه (ع): "الفضيلةُ غلبة العادة"، وورد عنه (ع) أيضًا: "بغلبة العادات الوصول إلى أشرف المقامات".
إذن: يمكن لنا أن نخرج في هذا المقال بقاعدة أخلاقية ضرورية في هذا المجال وهي: قاعدةُ كسر العادة وخلق العادة، وهذه القاعدة تنبني في أنفسنا بامتثالنا لأمر الله سبحانه بالصيام، ومن هنا نفهم جانبًا من كيفية إيصال الصوم لغايته.