بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم المؤبد على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
إننا كبشر نحتاج إلى قدوة في حياتنا نقتدي بها في كافة المجالات، فالرياضي يحتاج إلى قدوة يستلهم منه حركات الرياضة، وفي الحياة نحتاج إلى قدوة تسير بنا نحو حياة أفضل وفي طلب العلم نحتاج إلى موجه نقتدي به ليوجهنا نحو السبيل الأفضل لاختيار تخصص يفيدنا، أما في أمور الآخرة التي ترتبط بالله عزوجل فإننا بحاجة إلى قدوة يكون ذا شأن عظيم ومكانه عالية عند الله.
وخير قدوة وقادة نقتدي بهم هم أئمتنا (عليهم السلام) فهم الأعلم بالله والأقرب إليه فكيف لا نتخذهم سبلاً للوصول إليه.
فيأتي بعض الشباب بطرح فيقول لا طاقة لي بعبادة و أخلاقيات الأئمة فهم معصومون وأنا لست بمعصوم، فلا أستطيع أن أكون مثلهم. ثم إن المعصوم يخبرنا أنا لا نقدر على عبادته فعن علي (عليه السلام): "ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك"[1] ثم يعقبون على قول الإمام فيقولون هو يقول أننا لا نقدر على عبادته فكيف تأمروننا بالاقتداء بعبادته؟!
لكنهم لو أكملوا العبارة لوجدوا الجواب على سؤالهم فهو يقول بعدها "ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد"[2] فالإمام لم يطلب منا تقليده حرفياً في عبادته، بل طلب منا أن نجِدَّ ونجتهد في العبادة حتى نفوز معهم في الدنيا والآخرة.
فيحتاج الفرد المؤمن إلى من يقتدي به لكي يعلم سبل الوصول إلى تلك المقامات العالية، فمن هي تلك الشخصية التي نقتدي بها بعد المعصوم كي نفوز باتباعها فوزاً عظيما؟
لابد لهذه الشخصية أن تكوم محل تبجيل وتعظيم لدى المعصوم وأن يشهد لها المعصوم بقوة إيمانها وعمق بصيرتها.
العباس بن علي.. شخصية اجتهد في عبادته وثابر للحصول على أعلى المراتب، تعلم حتى وصل إلى مرتبة غبطه عليها كل من كان قد عرف مقامه عند الله، وقد حصل على شهادات من المعصومين من ناحيتين:
من ناحية العلم فعنهم (عليهم السلام): "إن العباس بن علي زُق العلم زَقا"[3]
ومن الناحية العبادية والإيمانية، استطاع بعبادته واجتهاده أن يصل إلى أعلى المراتب الإيمانية فقال عنه المعصوم (عليه السلام): "كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان"[4]، فلم يكن ذا بصيرة فقط ولم يكن ذا إيمان فقط، بل تخطى ذلك حتى تخطت بصيرته حجب الظلال فكانت "نافذة" وحارب بإيمانه كل أنواع الكفر والعصيان فكان "صلبا".
فاستكمل بذلك كل مراتب الإيمان وحاز على كل مراتب العلم حتى نال العصمة الصغرى فكان تالي تلو المعصوم.
وفي بيان مراتب الإيمان قال علي (عليه السلام): قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: "الايمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان"[5] ، فبداية الإيمان نطق بالشهادتين فيكون بذلك المرء مسلما {قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَٰكِن قُولُوٓاْ أَسْلَمْنَا}[6]، فإذا دخل الإيمان في القلب واعتقد الإنسان بالولاية يكون مؤمنا، {وَلَمَّا يَدْخُلِ ٱلْإِيمَٰنُ فِى قُلُوبِكُمْ}، لذلك نرى علماؤنا وفقهاؤنا في رسائلهم العملية[7] يشترطون على الفقيه في ما يشترطون أن يكون مؤمنا -أي شيعياً اثنا عشريا-.
لكن العباس بن علي تخطى هتان المرتبتان ففاز بكل مراتب الإيمان ووصل إلى أعلاها وهي العمل بالأركان، قال العلماء في شرح هذا المقطع: "أي العمل بالواجبات والانتهاء عن عمل المحرمات" فإذا أصبح الإنسان كذلك نال العصمة الصغرى التي تكون مكتسبة يكتسبها الإنسان بجهده وعبادته وانقطاعه إلى الله عزوجل.
كيف لا، ونرى العباس في إقدامه على الموت وفي ساحات الوغى يرتجز بأراجيز تدل على قوة إيمانه وعمق يقينه العقائدي، فتراه بعد قطع يمينه يقول:
والله ان قطعتـم يميـني أني أحامـي أبداً عـن ديني
وعن إمام صادق اليقـينِ نجل النبي الطاهـر الأمـين[8]
فلا نعجب بعد ذلك أن نرى المعصوم يفدي العباس بنفسه فيقول له: "يا عباس.. اركب بنفسي أنت - يا أخي"[9] لما عرف من مكانته العظيمة عند الله، والجدير بالذكر نرى أن شبه هذا اللفظ تكرر في حق شخصية أخرى غير معصومة أيضاً وهي فاطمة بنت الإمام الكاظم (عليهما السلام) إذ قال لها ثلاثاً "فداها أبوها"[10].
فالذي يفديه المعصوم بنفسه أحق أن يقتدى به من غيره.
وقد كان العباس ربيب بيت العلم والعبادة والتقى فأبوه علي بن ابي طالب وأخواه الحسن والحسين وأمه العالمة الجليلة القدر أم البنين فاطمة الكلابية، وأخته عقيلة الطالبيين العالمة غير معلمه زينب الكبرى، فنراه ينهل من علومهم ويتخلق بأخلاقهم ويزكي نفسه ويوطنها على عبادة الله بعبادتهم لله فوصل لما وصل إليه من المقام الرفيع بجهده ومثابرته في تعلم علوم أهل البيت (عليهم السلام).
فمثل هذه العلوم لا تورّث إلّا لمن خصه الله بذلك وهم أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، أما غيرهم فلا ينال ذلك إلا باجتهاد الفرد نفسه على طاعة الله وتعلم تعاليم دينه، فقد كان العباس من الفقهاء في عصره وكانت له حلقة تدريس في المسجد يقول العلّامة المامقاني في شأنه (عليه السلام): "وقد كان من فقهاء أولاد الأئمة". وقال العلّامة محمد باقر البيرجندي: "إنّ العباس من أكابر الفقهاء و أفاضل أهل البيت، بل إنّه عالم غير معلّم، وليس في ذلك منافاة لتعلم أبيه إياه"[11] .
وفي الختام أوصي نفسي وإياكم أيها المؤمنون بالتقرب إلى الله والتمسك بأهل البيت وقراءة القرآن فإنه نجاتنا، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الميامين وسلم تسليما كثيرا.
..........................................................
[1] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٣٣ - الصفحة ٤٧٤
[2] - المصدر السابق
[3] - ثمرات الأعواد. ج1 ص105
[4] - تنقيح المقال ج2 ص 128.
[5] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٦٦ - الصفحة ٦٨
[6] - (الحجرات - 14)
[7] - مثلاً: المسائل المنتخبة ــ السيد علي السيستاني ــ ص13 ــ مسألة رقم (11)
[8] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٥ - الصفحة ٤٠
[9] - موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) - لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (ع) - الصفحة ٤٧٤
[10] - مهدي بور، كريمة أهل البيت، ص 63 و64 نقلاً عن كشف اللئالي.
[11] - العباس بن علي بطل النهضة الحسينية، للسيد أبي القاسم الديباجي. ط 1 – 1997-ص36 – 37