بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على رسوله الأمين محمد وآله الغر الميامين
فهذه رسالة موجزة في بعض المهمات من مسائل طرق ثبوت الهلال، ألحقت بين سطورها وطياتها ما يكاد لا يخفى على الفاضل وقد يسهو عنه الغافل ويعين المتعلم ويرشد الجاهل
[يستحب الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان وهو أول العام القمري لا الهجري]
يستحب الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان، وهو أول العام القمري لا الهجري بما رواه الكليني عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ النَّوْفَلِيِّ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ رَفَعَهُ قَالَ:
"قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع:
إِذَا رَأَيْتَ الْهِلَالَ فَلَا تَبْرَحْ وَ قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذَا الشَّهْرِ وَ نُورَهُ وَ نَصْرَهُ وَ بَرَكَتَهُ وَ طَهُورَهُ وَ رِزْقَهُ وَ أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا فِيهِ وَ خَيْرَ مَا بَعْدَهُ وَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا فِيهِ وَ شَرِّ مَا بَعْدَهُ اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ عَلَيْنَا بِالْأَمْنِ وَ الْإِيمَانِ وَ السَّلَامَةِ وَ الْإِسْلَامِ وَ الْبَرَكَةِ وَ التَّقْوَى وَ التَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَ تَرْضَى".
[يثبت الهلال بالعلم الحسي أو الشياع ولا يكفي إخبار الواحد]
يثبت الشهر بالعلم بوجود الهلال في الأفق، ولا يكفي الظن، ولا شهادة الواحد مخبرا عن نفسه، بل لابد من الرؤية الحسية أو الشياع، ويدل عليه مجموعة من النصوص، منها:
ما رواه الشيخ بسند صحيح عن علي بن مهزيار عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ:
"إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَصُومُوا وَ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا وَ لَيْسَ بِالرَّأْيِ وَ لَا بِالتَّظَنِّي وَ لَكِنْ بِالرُّؤْيَةِ وَ الرُّؤْيَةُ لَيْسَ أَنْ يَقُومَ عَشَرَةٌ فَيَنْظُرُوا فَيَقُولَ وَاحِدٌ هُوَ ذَا هُوَ وَيَنْظُرُ تِسْعَةٌ فَلَا يَرَوْنَهُ إِذَا رَآهُ وَاحِدٌ رَآهُ [عَشَرَةٌ][1] وَ أَلْفٌ وَ إِذَا كَانَتْ عِلَّةٌ فَأَتِمَّ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ وَ زَادَ حَمَّادٌ فِيهِ وَ لَيْسَ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ هُوَ ذَا هُوَ لَا أَعْلَمُ إِلَّا قَالَ وَلَا خَمْسُونَ".
والتعبير فيها وفي روايات متكثرة جدا بالرؤية -في قبال الظن والرأي- قُصدَ به طرق الثبوت الحسية المورثة للعلم، ومن أقواها الرؤية العينية، بل هي الوحيدة التي لا يداخلها الريب في أمثال المقام، وفي الخبر عن ْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع فِي قَالَ:
"إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فَلَا تُؤَدُّوا بِالتَّظَنِّي".
[يثبت الشهر بالرؤية الشخصية]
ويثبت بالرؤية للشخص الواحد بالنسبة لنفسه ولو لم يرتب عليه الآخرون أثرا، إذا كان غير متوهم ولا شاك فيما رآه، يدل عليه ما رواه الصدوق والشيخ
والحميري -بتفاوت يسير- بأسانيدهم عن عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَخَاهُ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ ع:
"عَنِ الرَّجُلِ يَرَى الْهِلَالَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ لَا يُبْصِرُهُ غَيْرُهُ أَ لَهُ أَنْ يَصُومَ قَالَ إِذَا لَمْ يَشُكَّ فَلْيُفْطِرْ وَ إِلَّا فَلْيَصُمْ مَعَ النَّاسِ".
[يثبت الشهر بشاهدة رجلين مرضيين وبحكم إمام البلد]
ويثبت برؤية شاهدين -رجلين- عادلين مرضيين مأمونين ملتفتين سليمي الحواس يركن لقولهما مع عدم المعارض المعتبر، إذا لم يكونا ضمن المستهلين -المتشابهين في الظروف وقت الاستهلال داخل البلد- الذين لم يروه، فلو كانا في جهة من البلد خالية عن المانع قُبل قولهما، أو كانا في جملة المستهلين وهما أقوى بصرا أو أعرف بالهلال من باقي المستهلين، فإن المانع عن رؤية الجمع ضعف بصرهم أو جهلهم بمنازل الهلال وجهته مثلا.
ويثبت بإقامتها عند الحاكم، ولو لم يحضر أحد مجلسه ولم يسمع الشهادة غيره، ولم يعارض شهادتهما استهلال كثير من أهل الصقع الواحد متساوي الصفات والمكان ولم تتحقق لهم الرؤية؛ فإنهم كالمنكر في قبال تلك البينة.
ويدل عليه -إضافة للسابق الدال على أن ثبوته ليس بالظن ولا بالرأي ولم يرخص لنا العمل بهما مطلقا، فلابد في ثبوت الرؤية من تحقق العلم وأن يكون
عاما في حال الاشتراك في ظروف الرؤية- أخبار كثر، منها:
ما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن الحسين بن سعيد عَنِ الْحَسَنِ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ قَالَ:
"صُمْ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَ أَفْطِرْ لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ شَهِدَ عِنْدَكَ شَاهِدَانِ مَرْضِيَّانِ بِأَنَّهُمَا رَأَيَاهُ فَاقْضِه".
ومنها:ما رواه الصدوق والشيخ بسنديهما عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله ع قال سمعته يقول:
"لا تصم إلا للرؤية أو يشهد شاهدا عدل".
ومنها: ما رواه الصدوق بسنده عن حماد بن عثمان عن الحلبي عن أبي عبد الله ع قال:
"إن عليا ع كان يقول لا أجيز في رؤية الهلال إلا شهادة رجلين عدلين".
وتخصيص الشهادة بالرجال دون النساء لما يدخل على نوع النساء من التوهم وتزلزل القول في مثل هذه الأمور.
[يسري حكم الحاكم على كل البلدان المشتركة في الليلة]
للحاكم الحكم بثبوت الرؤية عند خلو الدعوى عن المعارض المساوي المسقط لحجيَّة الدعوى أو ما يصلح للمعارضة حكما، ويجب على باقي المكلفين الإفطار إلا إذا علم عدم صحة الحكم، ولا يكفي ظن الخلاف في رد دعوى الرؤية وإن علا هذا الظن إلا إذا سلب الوثوق.
ولو أثبتها الحاكم الإمام المرضي المقدَّم، وجب على أهل البلد وما بحكمها العمل بحكمه، بل وجب الإفطار على المكلفين في بقية البلدان المشتركة في خصوص الليلة، إلا إذا علم اشتباه حكمه أو مبناه.
[تحصيل الشهادات والحكم فيها من وظائف الحاكم الإمام]
الحكم بثبوت الهلال من وظائف الحاكم المقررة شرعا، ولا شك أن مما يكون محلا للشهادة الشرعية -خاليا عن منكر قائم بشخصه- هو ادعاء رؤية الهلال، وللحاكم المرضي المقدم في الفصل والخصومات -والهلال منها- البت فيها بعد التبين وفحص صدقها، وهي من وظائفه المنصوصة، يدل عليه وعلى ما تقدم:
ما رواه الكليني في الكافي عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه
السلام، قَالَ:
"إِذَا شَهِدَ عِنْدَ الْإِمَامِ شَاهِدَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِلَالَ مُنْذُ ثَلَاثِينَ يَوْماً، أَمَرَ الْإمَامُ بِالْإِفْطَارِ، وَ صَلّى فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إِذَا كَانَا شَهِدَا قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِنْ شَهِدَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، أَمَرَ الْإِمَامُ بِإِفْطَارِ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَ أَخَّرَ الصَّلَاةَ إِلَى الْغَدِ، فَصَلّى بِهِمْ".
[من هو الحاكم ؟]
والإمام هنا: هو المقدم في قومه لإمامتهم في أمور دينهم تقدم الفاضل على المفضول والعالم على الجاهل، ويحصر في عالم البلد المطاع بل في فقيهها الذي تنقاد إليه أكثر الناس وترجع له في أمور دينها وفصل القضاء والخصومات، وهو المصداق الأوضح للإمامة فيهم، فلو تقدم لم ينازعه أحد في قضائه؛ وإلا لم تكن ثمرة لأمره -المذكور في كلامه عليه السلام- للناس بالإفطار.
يدلنا عليه ما تكثر من لفظ الإمام في الروايات منها ما رواه الشيخ بسنده عن مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِلَالٍ عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ رَزِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: "مَنْ قَتَلَهُ الْقِصَاصُ بِأَمْرِ الْإِمَامِ فَلَا دِيَةَ لَهُ فِي قَتْلٍ وَ لَا جِرَاحَةٍ".
وليس الحاكم الإمام هنا هم الفقاء ولو تباعدوا وتعددوا مكانا؛ لأنه لم يقم الدليل على ولاية للفقيه في أحكامه بحسب منصبه أزيد مما حددته النصوص بتحميلهم أمانة تبليغ وتطبيق دلالات الروايات والحكم بالوارد عنهم فيها في بلدانهم، وتقدمهم في أمور الدين بنحو الأولوية من باقي المؤمنين ووجوب طاعتهم في ما بلغوه خاصة، فليس أمر الحاكم الإمام في الهلال بمولوي نفسي ليسري على كل المكلفين حتى فقهاء وحكام البلدان، فإن تقدم أحدهم للتصدي لشؤون الحكم والقضاء في بلد لم يعارضه تقدم آخر في بلاد أخرى، وليس للآخر إجراء ما يرى -في الأدلة وغيرها- على غيره من أئمة الأمصار وحكامهم وعوامهم، وبسط البحث في موضع آخر.
[تعدد المتصدين للحكم]
لو تعدد المتصدون في البلد الواحد للحكم في الشهادات على رؤية الهلال اتبع أوفرهم علما وطاعة؛ للوجه السابق، بل لا تتحقق إمامة غير واحد في المجموع على نحو التعين.
ولو اشتبه على المكلف من هو الحاكم الذي يرجع له بينهم ولم يُعلم، اتبع حكم المثبت منهم دائما، ولا أثر لغير المثبت، إلا أن يعلم خطأ الأول.
ويدل عليه وعلى ما قبله: ظاهر لفظ (الإمام) في إرادة الأوحدي بين الناس بين صنف الفقهاء في البلد الذي يحكم فيه بقضائه.
[لو خلا الحاكم عن الشهود]
ولو خلا الحاكم عن الشهود أو ردَّ دعوى الرؤية لمعارض مساو أو أقوى، لم يجب على المسلمين ترتيب أثر عليه في حرمة الصيام أوالإفطار يوم الشك ؛ إنما عليهم ما وجدوه من المثبتات، وحكم إمام القوم وحاكمهم أحدها، فإن فقد صير لباقي مثبتات الرؤية، وكان عدم ثبوته لدى الحاكم الحاضرة لديه الشهادات من جملة القرائن النافية.
[تنجز الشهادة]
يشترط في الشهود العدالة في القول والصحة في الإخبار عن حس دون وجود المعارض الأقوى أو المساوي، وذلك لمِا كان النص المُحكَم في حجية الرؤية هو العلم لا غير، فلا تتنجز الدعوى إلا مع تحقق العلم بالمُدَّعى.
[الشهود من خارج البلد]
يثبت الهلال بشهادة رجلين عادلين على الرؤية أو الشياع في بلد آخر.
يدل عليه: ما رواه الشيخ رحمه الله بسنده عن سَعْد بْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَبِيبٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع:
"لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ دُونَ خَمْسِينَ رَجُلًا عَدَدِ الْقَسَامَةِ وَ إِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ وَ كَانَ بِالْمِصْرِ عِلَّةٌ فَأَخْبَرَا أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ وَأَخْبَرَا عَنْ قَوْمٍ صَامُوا لِلرُّؤْيَةِ".
وكذا ما عنه عن سَعْدٍ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُوسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُثْمَانَ الْخَزَّازِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ:
"قُلْتُ لَهُ كَمْ يُجْزِي فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَقَالَ إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ فَلَا تُؤَدُّوا بِالتَّظَنِّي وَ لَيْسَ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ أَنْ يَقُومَ عِدَّةٌ فَيَقُولَ وَاحِدٌ قَدْ رَأَيْتُهُ وَيَقُولَ الْآخَرُونَ لَمْ نَرَهُ إِذَا رَآهُ وَاحِدٌ رَآهُ مِائَةٌ وَ إِذَا رَآهُ مِائَةٌ رَآهُ أَلْفٌ وَ لَا يُجْزِي فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ خَمْسِينَ وَ إِذَا كَانَتْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ قُبِلَتْ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ يَدْخُلَانِ وَ يَخْرُجَانِ مِنْ مِصْرٍ".
فإنه محمول على اشتراك أهل البلد في أسباب الرؤية مكانا ووضوحا فلا تقبل البينة لوجود ما يصلح للمعارضة حينها، ولا يكفي إلا الشياع مؤثرا في ركون النفس والتصديق بالرؤية، ومع عدم الشياع أيضا فلا طريق إلا الإخبار بالرؤية من خارج المصر -المشترك في ليلة واحدة معه- إما على نحو البينة أو الإخبار بالشياع في ذلك البلد.
فاتضح أن التعبير بـ (وكان بالمصر علة) أو (وكانت بالسماء علة) ناظر إلى المانع من الأخذ بالبينة في البلد مع تساوي ظروف وأحوال المستهلين جميعا، فتسقط دعوى الرؤية للمانع الذي هو بحكم المعارض المنكر لها.
[يشترط في الرؤية أن تكون حسية قطعية]
يشترط في الرؤية أن تكون حسية قطعية، ولا يضر توسط الآلات المكبرة والمقربة إذا كان ما ترصده في أفق البلدان المشتركة في الليل، وعلى ارتفاع لا يخرجها عن حد أفقها جميعا.
يدل عليه: صحة إطلاق الرؤية عليها، وتحقق العلم بثبوته، مع عدم ظهور ملزم في الأخبار باشتراط غير هذا.
[يثبت الهلال بالشهادة أو شياع الرؤية في البلدان المتفقة الليلة]
يثبت الهلال -تعبدا- برؤيته في أي بلد كان -شرقيا أو غربيا- بشرط اشتراكهما في ليلة واحدة، وإن كان بحسب طبيعة دورته قد يطلع في بلد ولا يطلع في آخر، ولا اعتبار بوحدة الأفق الواحد ذو المطلع الواحد للبلدان المتقاربة، بل الآفاق التي تطلع عليها ليلة واحدة يكفي في ثبوته في بلد ثبوته في أحد أمصار تلك الآفاق كافة، تسهيلا على الناس أو إمضاء لما اعتبروه قبل التشريع.
يدل عليه: ما روي عن صوم سنة 232 يوم الخميس[2] مع تباعد المدينة وبغداد وعدم اتحادهما أفقا، وهو ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبي الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الصَّفَّارِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ رَاشِدٍ قَالَ:
"كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ ع كِتَاباً وَ أَرَّخَهُ يَوْمَ الثَّلَاثَاءِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ وَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَ ثَلَاثِينَ وَ مِائَتَيْنِ- وَ كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمَ شَكٍّ وَصَامَ أَهْلُ بَغْدَادَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَ أَخْبَرُونِي أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ وَ لَمْ يَغِبْ إِلَّا بَعْدَ الشَّفَقِ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ قَالَ فَاعْتَقَدْتُ أَنَّ الصَّوْمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَ أَنَّ الشَّهْرَ [الشك][3] كَانَ عِنْدَنَا بِبَغْدَادَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ قَالَ فَكَتَبَ إِلَيَّ: “زَادَكَ اللَّهُ تَوْفِيقاً فَقَدْ صُمْتَ بِصِيَامِنَا”، قَالَ ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلْتُهُ عَمَّا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي: "أَ وَ لَمْ أَكْتُبْ إِلَيْكَ أَنَّمَا صُمْتُ الْخَمِيسَ، وَ لَا تَصُمْ إِلَّا لِلرُّؤْيَةِ".
ولا شك ولا ريب في وثاقة وركون النفس لأحمد بن محمد بن الوليد، وصحة سلسلة السند.
ومع التوجه لكون السؤال ذا شقين -عن صحة وقوع الصوم يوم الخميس وأنه كان أول الشهر، وعن حجية إخبارهم عن غيبوبة الهلال بعد الشفق أو عن كون هذا الغروب دليلا كافيا على أن الهلال ليلتين- وأنه ليس بين بغداد والمدينة المشرفة وحدة أفق أو مطلع واحد للهلال، يثبت أن لا اعتبار بوحدة أفق بلدان المصر، بل اتحاد آفاق كل البلدان بالنسبة لليلة المشتركة، وأن رؤية هلال جديد في بلد كاف للحكم به في بقية البلدان.
وما رواه الشيخ في التهذيب بسنده عن الحسين بن سعيد عَنْ حَمَّادٍ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع:
"أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْيَوْمِ الَّذِي يُقْضَى مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَقَالَ لَا تَقْضِهِ إِلَّا أَنْ يُثْبِتَ شَاهِدَانِ عَدْلَانِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الصَّلَاةِ مَتَى كَانَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَ قَالَ لَا تَصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ الَّذِي يُقْضَى إِلَّا أَنْ يَقْضِيَ أَهْلُ الْأَمْصَارِ فَإِنْ فَعَلُوا فَصُمْهُ".
وفي خبر عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عن أبي عبد الله عليه السلام:
"لَا تَصُمْ إِلَّا أَنْ تَرَاهُ فَإِنْ شَهِدَ أَهْلُ بَلَدٍ آخَرَ فَاقْضِهِ".
وفي صحيح ْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ صَامَ تِسْعَةً وَ عِشْرِينَ قَالَ:
"إِنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ أَنَّهُمْ صَامُوا ثَلَاثِينَ عَلَى رُؤْيَةٍ قَضَى يَوْماً".
ويدل عليها أيضا الأخبار المجيزة لشهادة البينة من خارج المصر، منها ما روي عن أَبي عَبْدِ اللَّهِ ع:
"لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِي رُؤْيَةِ الْهِلَالِ دُونَ خَمْسِينَ رَجُلًا عَدَدِ الْقَسَامَةِ وَ إِنَّمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ".
وفي ما رواه الْخَزَّازِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ:
"إِذَا كَانَتْ فِي السَّمَاءِ عِلَّةٌ قُبِلَتْ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ يَدْخُلَانِ وَ يَخْرُجَانِ مِنْ مِصْرٍ".
ولا يعقل انصراف المصر والبلد فيها للبلدان القريبة أو المتحدة الأفق مع البلد؛ فإنه وإن كان بحسب علم الأهلة صحيحا؛ إلا أن النصوص تأبى الحمل عليه، فضلا عن عدم الإشارة له في أي مورد، وأن العرف ما كان يعرف هذه الحسابات، وأوضح بطلانا منه حمل الإطلاق في هذه النصوص على بلدان العالم الإسلامي القديم حينها؛ ويكفي التوجه لكثرة النصوص المطلقة ليتضح تكلف هذا القول.
وكذا ما يشعر به الذي رواه أَبِو الْجَارُودِ زِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ الْعَبْدِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ ع يَقُولُ:
"صُمْ حِينَ يَصُومُ النَّاسُ وَأَفْطِرْ حِينَ يُفْطِرُ النَّاسُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ".
ومن البعيد حملها على التقية؛ وذيلها إرشاد عام لجعل الأهلة التي يهل بها الناس كلهم مواقيت، فلا يتخلف الحكم عن أحد منهم، ويحتمل أن يكون الإمام عليه السلام في مقام تفسير آية المواقيت كما في غير خبر، منه ما رواه الشيخ بسنده عن عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ع فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَّ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ قَالَ: "لِصَوْمِهِمْ وَ فِطْرِهِمْ وَ حَجِّهِمْ"، مع أن هذا الأخير فيه شهادة على أن صيام الناس واحد بتاريخ واحد.
وأما ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن الحسن الصفار عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ:
"كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَمْرٍو: أَخْبِرْنِي يَا مَوْلَايَ أَنَّهُ رُبَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَا نَرَاهُ وَ نَرَى السَّمَاءَ لَيْسَتْ فِيهَا عِلَّةٌ فَيُفْطِرُ النَّاسُ وَ نُفْطِرُ مَعَهُمْ وَ يَقُولُ قَوْمٌ مِنَ الْحُسَّابِ قِبَلَنَا إِنَّهُ يُرَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِعَيْنِهَا بِمِصْرَ وَ إِفْرِيقِيَةَ وَ الْأُنْدُلُسِ فَهَلْ يَجُوزُ يَا مَوْلَايَ مَا قَالَ الْحُسَّابُ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَخْتَلِفَ الْفَرْضُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَيَكُونَ صَوْمُهُمْ خِلَافَ صَوْمِنَا وَ فِطْرُهُمْ خِلَافَ فِطْرِنَا فَوَقَّعَ ع لَا تَصُومَنَّ الشَّكَّ أَفْطِرْ لِرُؤْيَتِهِ وَ صُمْ لِرُؤْيَتِهِ".
فغير دال على تقريره عليه السلام إمكان اختلاف الأمصار في الهلال إذا حصلت الرؤية في بلد منها، بل النفي منصب على الاعتماد على غير الطرق العلمية الحسية لإثبات الهلال، ويدلك عليه أسلوب الكتاب الذي صدره الإمام عليه السلام بقوله: (لا تصم الشك).
والمسألة -القول بثبوته في البلدان المتقاربة ذات المطلع والأفق الواحد- منسوبة لأبي حنيفة وأبي الليث المصري وجماعة من العامة، المعاصرين للصادقين وغيرهم من المعصومين عليهم السلام، ومع هذا فلا أثر لها في فقه الأحاديث المعصومة، بل يمكن أن يقال أن في عدم التنصيص عليها بالخصوص وشهرة أخبار عموم الحكم لكل الأفاق كان على نحو التعريض بقولهم.
[جذور مسألة اتحاد واختلاف الأفق أو الآفاق]
وأول القائلين به منا الشيخ رحمه الله في المبسوط، وهو كتاب لا يخفى على قارئه أسلوب الشيخ في التفريع، ولا يهمل مطالعه ما ذكره الشيخ في مقدمته من أنه رد على القائل بقلة فقه التفريع والفرضيات الفقهية خارج النص لدى الإمامية، فإن أحسن الشيخ قدس الله سره في كثير من مواضع الكتاب، فإنه أغرب في أخرى، فغير فيه كثيرا مما ذهب إليه في التهذيب والنهاية، وكأن تأليفه رحمه الله للكتاب وقع ارتجالا بغرض المعارضة أكثر من وقوعه تحقيقا ومذهبا، وكذا ضرب أدلة الإمامية باستدلال غيرهم لإنتاج وجوه جديدة، صارت بعينها سببا في اختلاف فقهاء الشيعة من بعده، بل تعامل معها علماء كثر كمسلمات منصوصة وأفرد لها مباحث طال ذيلها، ومنها ما بحثناه حول المحاذات في المواقيت، ومنها هذا الفرع الحاضر.
قال رحمه الله في المبسوط:
"ومتى لم ير الهلال في البلد ورأي خارج البلد على ما بيناه وجب العمل به إذا كان البلدان التي رأي فيها متقاربة بحيث لو كانت السماء مضحية والموانع مرتفعة لرأي في ذلك البلد أيضا لاتفاق عروضها تقاربها مثل بغداد وأوسط والكوفة وتكريت والموصل فأما إذا بعدت البلاد مثل بغداد وخراسان ، وبغداد ومصر فإن لكل بلد حكم نفسه . ولا يجب على أهل بلد العمل بما رآه أهل البلد الآخر".
وقال العلامة في التذكرة:
"مسألة: إذا رأى الهلال أهل بلد ، ولم يره أهل بلد آخر، فإن تقاربت البلدان كبغداد والكوفة، كان حكمها واحدا: يجب الصوم عليهما معا، وكذا الإفطار وإن تباعدتا كبغداد وخراسان والحجاز والعراق، فلكل بلد حكم نفسه، قاله الشيخ رحمه الله، وهو المعتمد، وبه قال أبو حنيفة، وهو قول بعض الشافعية، ومذهب القاسم وسالم وإسحاق، لما رواه كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية في الشام، قال قدمت الشام فقضيت بها حاجتي واستهل علي رمضان، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر ، فسألني عبد الله بن عباس فذكر الهلال، فقال : متى رأيتم الهلال؟
فقلت: ليلة الجمعة ، فقال أنت رأيته؟ قلت: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية ، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله. ولأن البلدان المتباعدة تختلف في الرؤية باختلاف المطالع والأرض كرة، فجاز أن يرى الهلال في بلد ولا يظهر في آخر، لأن حدبة الأرض مانعة من رؤيته، وقد رصد أهل المعرفة، وشوهد بالعيان خفاء بعض الكواكب القريبة لمن جد في السير نحو المشرق وبالعكس. وقال بعض الشافعية: حكم البلاد كلها واحد، متى رؤي الهلال في بلد وحكم بأنه أول الشهر، كان ذلك الحكم ماضيا في جميع أقطار الأرض، سواء تباعدت البلاد أو تقاربت، اختلف مطالعها أو لا – وبه قال أحمد بن حنبل والليث بن سعد، وبعض علمائنا – لأنه يوم من شهر رمضان في بعض البلاد للرؤية ، وفي الباقي بالشهادة ، فيجب صومه ، لقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه). وقوله عليه السلام: "فرض الله صوم شهر رمضان" وقد ثبت أن هذا اليوم منه . ولأن الدين يحل به، ويقع به النذر المعلق عليه. ولقول الصادق عليه السلام: "فإن شهد أهل بلد آخر فاقضه"، وقال عليه السلام في من صام تسعة وعشرين، قال: "إن كانت له بينة عادلة على أهل مصر أنهم صاموا ثلاثين على رؤية، قضى يوما". ولأن الأرض مسطحة، فإذا رؤي في بعض البلاد عرفنا أن المانع في غيره شئ عارض، لأن الهلال ليس بمحل الرؤية.
ونمنع كونه يوما من رمضان في حق الجميع، فإنه المتنازع، ولا نسلم التعبد بمثل هذه الشهادة، فإنه أول المسألة. وقول الصادق عليه السلام محمول على البلد المقارب، لبلد الرؤية، جمعا بين الأدلة" انتهى كلامه علا مقامه.
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: "وإذا قلنا إن الرؤية تثبت بالخبر في حق من لم يره، فهل يتعدى ذلك من بلد إلى بلد؟ أعني هل يجب على أهل بلد ما إذا لم يروه أن يأخذوا في ذلك برؤية بلد آخر، أم لكل بلد رؤية؟ فيه خلاف، فأما مالك، فإن ابن القاسم، والمصريين رووا عنه أنه إذا ثبت عند أهل بلد أن أهل بلد آخر رأوا الهلال أن عليهم قضاء ذلك اليوم الذي أفطروه، وصامه غيرهم، وبه قال الشافعي، وأحمد. وروى المدنيون عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند غير أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية، إلا أن يكون الامام يحمل الناس على ذلك، وبه قال ابن الماجشون، والمغيرة من أصحاب مالك. وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس، والحجاز. والسبب في هذا الخلاف: تعارض الأثر، والنظر، أما النظر" إلى أخر كلامه.
وما ذكره العلامة عن العامة صياغة وكذا دليلا نقله ابن قدامة في المغني.
ولم يذكر قولا للشيعة في الاختلاف وتخصيص الحكم بالبلدان المتقاربة سوى ما أسلف من الشيخ في المبسوط -وتبع الشيخ ابن براج وغيره بنفس الألفاظ – ونسب القول لبعض الشيعة بعموم الحكم للبلدان، تقليلا للقائلين وهو غريب منه رحمه الله، ثم نقل فروعا على مختاره منقولة عن العامة، وقد عرفت ما فيه.
[تحديد المقصود بوحدة الأفق]
الأفق هو حد الأرض المستعرض الذي يعلوه موضع طلوع الشمس شرقا أو القمر غربا، ووحدته -أعني الأفق- اتحاد الطلوع في زمن واحد عرفا، بحث لا يضر اختلاف توقيت المنطقة عن الأخرى عندهم وعدهم المناطق كلها صقعا واحدا، ومن الواضح أن الهلال -كالشمس- يتدرج في خروجه وسقوط شعاعه على البسيطة، فإن سقط على موضع مشترك كان لهم أفق واحد، مختلف عن باقي المواضع على الأرض، فتعدُّدِ الأفاق بحسب الفلك والجغرافيا قطعي معلوم، لكنه بحسب الشرع وما أمضاه من عرف أصحاب التاريخ القمري على العكس، فكل أرض اشتركت مع أخرى في ليلها كان لهم حكم الهلال الواحد، وإن تعدد آفاقهما فلكيا.
[أفق المناطق المرتفعة والمنخفضة]
وللتمييز بين المناطق المرتفعة والمنخفضة في الحكم -على القول بوحدة آفاق المتقاربة، واختلاف المتباعدة- مجال مثمر؛ فإن المرتفعة الشاهقة يسبق أفق طلوع الشمس والقمر فيها ما دونها من المناطق، فلو رصد الهلال في الشاهق بالرؤية فهل يختلف حكمه عن الأرض المنخفضة عنه كثيرا ؟، يحتمل قويا التفريق إذا كان الاختلاف في التوقيت فاحشا جدا، دون من يكون متقاربا في الزمان.
نعم، ما يراه من يعلوا كثيرا في الهواء كركاب الطائرات، لا يكون حجة على من هم أسفلهم قطعا؛ لعدم وحدة أفقهم عرفا، إلا أن يكون ارتفاعهم ليس بشاهق كما أسلفنا.
فما يعمل من رصد للهلال فوق الجبال الشاهقة وبالمناظير المتطورة محل إشكال إن كان الموضع المرصود منه لا يوافق أفق البلاد تحته، لكنه فرد نادر وفي حكم المحل الواحد عادة، وأما من كان في الطائرة فوق ارتفاع كبير جدا فرصده للهلال غير معتبر بأي وجه، سواء قلنا بوحدة مطالع المتقاربة أو ميزنا بين حكم التكوين في المطالع وبين حكم الشرع في الليالي واعتبرنا الثاني كما هو الصحيح، لكن الاستفادة منه في تعيين الموضع في السماء غير منكرة، بل التسمك بها كقرينة نفي أو إثبات بالنسبة لأفق بلد طلوعه مفيد عند إمكانه.
ويشعر بما ذكرنا ما رواه الصدوق في الفقيه والمجالس قال:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ زَيْدٍ الشَّحَّامِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ:
"صَعِدْتُ مَرَّةً جَبَلَ أَبِي قُبَيْسٍ وَ النَّاسُ يُصَلُّونَ الْمَغْرِبَ فَرَأَيْتُ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ وَ إِنَّمَا تَوَارَتْ خَلْفَ الْجَبَلِ عَنِ النَّاسِ فَلَقِيتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الصَّادِقَ ع فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ لِي وَ لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِئْسَ مَا صَنَعْتَ إِنَّمَا تُصَلِّيهَا إِذَا لَمْ تَرَهَا -خَلْفَ جَبَلٍ غَابَتْ أَوْ غَارَتْ- مَا لَمْ يَتَجَلَّاهَا [يَتَجَلَّلْهَا] سَحَابٌ أَوْ ظُلْمَةٌ تُظِلُّهَا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ مَشْرِقُكَ وَ مَغْرِبُكَ وَ لَيْسَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَبْحَثُوا"[4].
[لا يثبت الهلال بدعوى الفلكيين رؤيته في بلدين]
لا يثبت الهلال بإثبات الفلكيين رؤيته في بلد شرقي مختلف أو متفق الأفق والمطلع مع آخر غربي، وإن اتحدا في خط مسير الهلال، ولا عبرة بحكم أهل الفلك والجغرافيا بتلازم الرؤيتين، وإن كان الصحيح أنه لو علم على نحو لا يداخله الشك ولا تطرؤ عليه الحوادث المغيرة في آناته لكان التلازم قطعيا، فإن حساباتهم مخدوشة معتمدة على المراقبة والمعادلات الظنية، والحوادث العارضة المغيرة لا يمكن التنبؤ بها على وجه القطع، كما ذكرنا ولما يأتي.
[لا يلزم من توازي بلدين طولا أو عرضا اتحاد أفقهما]
لا يلزم من توازي بلدين طولا -واتفاق توقيتهما- أو عرضا اتحاد أفقهما ومطلع الهلال فيهما دائما، إلا أن يكونا متقاربين بالنسبة لمحيط الأفق الطالع فيه الهلال، فلا يلزم من رؤيته في أحدهما ثبوته في الآخر لا فلكا ولا شرعا.
ويدل عليه إضافة لظنية الحكم كما سبق، ما تشعر به روايات حجية قول البينة والشياع على الرؤية من خارج البلد، فإنه لا يكتفى بغيرهما.
[هلال البلدان الشرقية والغربية]
للقمر حركة غير مستوية المدار مع الأرض، تميل عن محور دوران الأرض حول الشمس بمقدار 5 درجات، والأرض كذلك مائلة عن محورها بـ 23.5 درجة مع دوران غير مستو حول الشمس بما يسبب الفصول الأربعة؛ وبضم هذه الحسابات يعلم أن مطالع القمر بالنسبة لبقاع الأرض الطولية مختلفة، وإن اتحدت في التوقيت، فقد يراه أهل استراليا ولا يطلع ولا يراه أهل أندوسيا مع توازيهما، وقد يراه أهل اليمن ولا يراه أهل الشام، مع وحدة التوقيت العالمي الوضعي، فينتج أنه ليس من اتحاد الأفق اتحاد التوقيت الموضوع بحسب خطوط الطول، ومن غير اللازم أن يطلع الهلال في البلدان الواقعة على خط طولي واحد أو خط عرضي متساو وإن اتحد الجميع في ليلة واحدة.
[التاريخ القمري]
يبدأ التاريخ الفلكي الحسابي للأشهر الشمسية بخروج الشمس وارتفاعها عن أفق الأرض أول كل يوم منه، كما يبدأ التاريخ القمري بخروج القمر في أفق البلد وما بحكمها من البلدان المتقاربة، وليس للموقع الجغرافي علاقة أكيدة ببداية كل شهر أو يوم من التاريخ القمري الفلكي، فقد يبتديء التاريخ بالنسبة لبلد ما في البلدان الشرقية له وقد يبدأ فيه وقد يبدأ في البلدان الغربية له، مع اشتراك الكل في تعاقب ظلمة الليل عليهم، وهذا بخلاف التاريخ الشمسي، فإنه لبعد الشمس ومركزيتها بالنسبة للأرض وقوة شعاعها يطلع على مساحة واسعة من الأرض منتظمة بعدد ساعات محدد كل عام، ولما كان هذا مفقودا في القمر الذي يتخذ الأرض مركزا، كان طلوعه وغيابه غير منتظم، فقد يكون أول طلوعه على الأرض في بقعة وغروبه الذي يتم به دورته في أخرى.
والحاصل: أن القول بأن للقمر مطلعا واحدا على الأرض فلا يتخلف موضع منها عن أول الشهر الفلكي الحسابي، قياس في غير محله وغفلة عن خصائص القمر وحركته.
غير أن التاريخ القمري الذي تعبدنا به الشارع لا يناط بما عليه أهل الفلك والحساب اليوم، فإنه -إضافة لأخبار الأهلة التي عرضناها المتعقلة بالليلة لا بمطالع القمر- من الواضح إمضاء الشارع لما كان عليه العرف لا أهل الحساب، وليس بين يدينا ما يدل على تغيير طرأ على سنتهم بتصرف الشارع، ولم ينقل أثر في النهي عنها معه أهمية الحكم المترتب عليه، ولم يعلم أن لأهل الفلك والحساب موضعا من الاعتماد عند الناس يومها، وأغلبهم لا يعرفون تلك الأمور الدقيقة كولادة الهلال ومحل طلوعه ولا يفرقون بين مطالعه، بل الرؤية له ميقاتهم أجمع، وأما ما روي -ويأتي ذكره- في خبر صوم معاوية واختلاف أهل المدينة معه، فلا ريب -إن صح- أنه أمر حادث منشؤه توهم دلالة الدليل.
[من الظن إخبار أهل الفلك]
من الظن: الحساب الفلكي بالمعادلات التي وضعها أهل الفلك والجغرافيا، سواء كان تحديدهم لوجوده أو لنفيه، أو لإمكان رؤيته أو لنفيه، أو مسيره على البلدان؛ فإنها لا ترقى للقطع بوجود الهلال فعلا؛ يدل على نفي حجية هذا الظن ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن الحسن الصفار عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ:
"كَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو عَمْرٍو: أَخْبِرْنِي يَا مَوْلَايَ أَنَّهُ رُبَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلَا نَرَاهُ وَ نَرَى السَّمَاءَ لَيْسَتْ فِيهَا عِلَّةٌ فَيُفْطِرُ النَّاسُ وَ نُفْطِرُ مَعَهُمْ وَ يَقُولُ قَوْمٌ مِنَ الْحُسَّابِ قِبَلَنَا إِنَّهُ يُرَى فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ بِعَيْنِهَا بِمِصْرَ وَ إِفْرِيقِيَةَ وَ الْأُنْدُلُسِ فَهَلْ يَجُوزُ يَا مَوْلَايَ مَا قَالَ الْحُسَّابُ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى يَخْتَلِفَ الْفَرْضُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ فَيَكُونَ صَوْمُهُمْ خِلَافَ صَوْمِنَا وَ فِطْرُهُمْ خِلَافَ فِطْرِنَا فَوَقَّعَ ع لَا تَصُومَنَّ الشَّكَّ أَفْطِرْ لِرُؤْيَتِهِ وَ صُمْ لِرُؤْيَتِهِ".
[ظنية أحكام الفلكيين في الواقع التجريبي]
وهنا أيضا جهات -تكوينية- لابد من أخذها بعين الاعتبار في البرهنة على ظنية أحكام الفلكيين وأهل الحساب:
الأول: عدم قطعية العلوم الفلكية وحساباتها التجريبية بشواهد الخطأ والاختلاف بينهم حسابا وتطبيقا ونتائجا، وهذا أمر وجداني سجلته الوقائع، ويرجع لما سوف نذكره في النقاط التالية على فرض الإصرار على القول بقطعيتها.
الثاني: طبيعة القمر: الذي يكون دائما في معرض التغير الخارج عن إرادة البشر، فقد يميل فلكه أو محوره أو تتغير طبيعة سطحه، وهو أمر محتمل الحصول دائما ولو كان قليل المقدار، الأمر الذي لا يعلم به الفلكيون ليأخذوه في اعتبارهم، أظف إليه أنهم يعاملون القمر معاملة الأجسام الهندسية في حركته وسطحه، مع أنهم يفتقدون للعلم بحالاته وما يمكن أن يعرض عليه في لحظات الاستهلال من أمور لا يعلمها إلا الله.
الثالث: طبيعة الأرض: التي لا تختلف مع القمر كجسم له فلك وسطوح، فكيف يمكن إعطاء ضابطة حسابية لكل الأرض مع اختلاف سطوحها ارتفاعا وانخفاضا بل واحتمال تغير ظروف كل بقعة ونقطة منها في كل آن، ويكفيك شاهدا أن زلزالا كالذي أصاب المحيط الهادي سنة 2009 للميلاد حرف محور الأرض لدرجات ولم يدرج هذا الرقم في حسابات الفلكيين إلا متأخرا !، فلا يمكن الاطمئنان للمعادلات الحسابية الفلكية لعدم قدرة واضعها على التحكم بكل تلك الظروف التي لا يقدرها ويجريها إلا الخالق المتعال.
الرابع: الجو الفاصل بين القمر والأرض: وهذا بالنسبة لمدعي امكانية الاعتماد على قول الفلكي في إمكانية الرؤية، ولا علم أيضا للفلكي بظروف الغلاف على نحو الكلية، وإن حدده وقت الاستهلال كان ظنا أيضا؛ فإن هذا المجال الفاصل بين الأرض والقمر له من حالات الرقة والغلظة ما تسمح لضوء القمر وشعاعه بالوصول للرائي على الأرض وقد تمنع منه كلية، كما أن الواقف على مستوى مواز لسطح البحر لا تقارن ظروف رؤيته بالواقف على سطح جبل شاهق، ومن الأمور الخارجة عن قدرة الفلكي أيضا تحديد درجة سطوع القمر وقت الاستهلال؛ فسطوح القمر مختلفة في قابلية عكس ضوء الشمس، فمنها الصقيل العاكس ومنها غيره، وكم من عاصفة أو غبار أو أمر غير هذا قد يعرض لسطح القمر المقابل للأرض حين الاستهلال فلا يرى له نور أصلا، والقول بثبوت الشهر بالتولد -وإن كان من الظنون- أكثر قبولا من هذا القول الضعيف، وكلاهما من الظنون التي لا يركن لها في شرع ولا دين.
نعم، لا شك أن قول الفلكي قرينة مؤيد أو مضعفة للشهادة على الرؤية، ولا تقصر أماريته -الظنية- عن رؤية الهلال قبل الزوال أو تطوقه أو كبر ضوئه أو حساب الخمسة من السنة وغيرها مما يأتي.
[لا عبرة برؤية الهلال قبل الزوال أو بعد الزوال]
لا يثبت هلال أول الشهر برؤيته قبل الزوال ولا بعده، لكنه من القرائن المعينة في تقييم الشهادات.
يدل عليه:
ما رواه الشيخ عن عَلِيُّ بْنُ حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ كَتَبْتُ إِلَيْهِ ع جُعِلْتُ فِدَاكَ رُبَّمَا غُمَّ عَلَيْنَا الْهِلَالُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَنَرَى مِنَ الْغَدِ الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَ رُبَّمَا رَأَيْنَاهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَتَرَى أَنْ نُفْطِرَ قَبْلَ الزَّوَالِ إِذَا رَأَيْنَاهُ أَمْ لَا وَ كَيْفَ تَأْمُرُنِي فِي ذَلِكَ فَكَتَبَ ع: "تُتِمُّ إِلَى اللَّيْلِ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ تَامّاً رُؤِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ".
وعَنْهُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحُسَيْنِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ مُحَمَّدِ ابْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ع إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ فَأَفْطِرُوا أَوْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ عَدْلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنْ لَمْ تَرَوُا الْهِلَالَ إِلَّا مِنْ وَسَطِ النَّهَارِ أَوْ آخِرِهِ فَأَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلَاثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا وعن الشيخ بسنده عن الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ جَرَّاحٍ الْمَدَائِنِيِّ قَالَ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَنْ رَأَى هِلَالَ شَوَّالٍ بِنَهَارٍ فِي رَمَضَانَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ".
فَأَمَّا مَا الكليني في الكافي والشيخ عنه في التهذيب عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: "إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَ إِذَا رَأَوْهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ"
وعن الشيخ بسنده عن سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي طَالِبٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّلْتِ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ وَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ قَالا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ع: "إِذَا رُؤِيَ الْهِلَالُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ شَوَّالٍ وَ إِذَا رُؤِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ".
فيحتمل إرادة زوال الشمس بمعنى غروبها، فلا تعتبر الرؤية قبل الغروب، وفيه بعد، أو أنه من قرائن الخطأ -الظني والمحتمل- في تحديد الشهور، وليس في الأخبار هذه وجوب التعبد به، لكنه مؤثر في الإطمئنان بشهادات الرؤية، وقد يقترن بغيره من القرائن التي يكون مجموعها معارضا مقويا أو مضعفا لتلك الشهادات، حاله كحال أمارة التطوق التي يأتي الكلام فيها.
والأرجح حمله على التقية؛ لأنه أحد قوليهم المعروفين، وشبيه بكلامهم بلا ريب، وعليه دلت صحيحة ْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: "مَا سَمِعْتَ مِنِّي يُشْبِهُ قَوْلَ النَّاسِ فِيهِ التَّقِيَّةُ، وَ مَا سَمِعْتَ مِنِّي لَا يُشْبِهُ قَوْلَ النَّاسِ فَلَا تَقِيَّةَ فِيهِ".
قال الجصاص في أحكام القرآن:
"وقد اختلف في الهلال يرى نهارا فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعي: إذا رأى الهلال نهارا فهو لليلة المستقبلة ولا فرق عندهم بين رؤيته قبل الزوال وبعده وروي مثله عن علي بن أبي طالب وابن عمر وعبدالله بن مسعود وعثمان بن عفان وأنس بن مالك وأبي وائل وسعيد بن المسيب وعطاء وجابر بن زيد وروي عن عمر بن الخطاب فيه روايتان إحداهما أنه إذا رأى الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإذا رآه بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة وبه أخذ أبو يوسف والثوري وروى سفيان الثوري عن الركين بن الربيع عن أبيه قال كنت مع سليمان بن ربيعة ببلنجر فرأيت الهلال ضحى فأخبرته فجاء فقام تحت شجرة فنظر إليه فلما رآه أمر الناس أن يفطروا".
وقال ابن قدامة في المغني:
"وإذا رؤي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة وجملة ذلك أن المشهور عن أحمد أن الهلال إذا رؤي نهارا قبل الزوال أو بعده وكان ذلك في آخر رمضان لم يفطروا برؤيته وهذا قول عمر وابن مسعود و ابن عمر و أنس و الأوزاعي و مالك و الليث و الشافعي و إسحاق و أبي حنيفة وقال الثوري وأبو يوسف إن رؤي قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن كان بعده فهو لليلة المقبلة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه رواه سعيد".
[لا عبرة بغيبوبته بعد الشفق]
لا يثبت الهلال بغيبوبته بعد الشفق.
يدل عليه:
ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبي الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الصَّفَّارِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَلِيِّ بْنُ رَاشِدٍ قَالَ: "كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيُّ ع كِتَاباً وَ أَرَّخَهُ يَوْمَ الثَّلَاثَاءِ لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ مِنْ شَعْبَانَ وَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَيْنِ وَ ثَلَاثِينَ وَ مِائَتَيْنِ- وَ كَانَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ يَوْمَ شَكٍّ" الحديث وقد تقدم بتمامه.
فظاهره أن عامة الناس قد اعتبروا غيبوبة الهلال بعد الشفق دلالة على أنه لليلتين وأن يوم الأربعاء كان هو أول الشهر، وجوابه عليه السلام نص على أن الحق كان في صيام الخميس وأنه أول الشهر، وأن لا عبرة إلا بالرؤية.
وهل سبب عدم صحة اعتبار يوم الأربعاء اليوم الأول هو عدم كاشفية غيبوبة الهلال بعد الشفق للدلالة على أن الهلال ليومين، أو أن الإخبار لم يصل للشياع المورث للعلم؟ والحق أن ليس في الرواية ما يعين أيا من الاحتمالين، لكنه مما جرى عليه أهل ذلك الزمان من العامة، والأرجح الأول.
أما ما رواه الكليني بسنده عن الخزاز [الخراز] والكليني والصدوق والشيخ بسند آخر عن إسماعيل بن الحر، رواه الشيخ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ الْحُرِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: "إِذَا غَابَ الْهِلَالُ قَبْلَ الشَّفَقِ فَهُوَ لِلَيْلَتِهِ وَ إِذَا غَابَ بَعْدَ الشَّفَقِ فَهُوَ لِلَيْلَتَيْنِ".
ورواه ابن طاووس في الاقبال عن ُ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ بِإِسْنَادِهِ فِي كِتَابِ الصِّيَامِ إِلَى ابْنِ الْحُرِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ع يَقُولُ: "إِذَا غَابَ الْهِلَالُ قَبْلَ الشَّفَقِ فَهُوَ لِلَيْلَةٍ [لليلته] وَ إِذَا غَابَ بَعْدَ الشَّفَقِ فَهُوَ لِلَيْلَتَيْن".
ثم قال: أَقُولُ وَ وَجَدْتُ فِي كِتَابِ الْفِرْدَوْسِ لِشَهْرَدَارِ بْنِ شِيرَوَيْهِ الدَّيْلَمِيِّ فِي الْمُجَلَّدِ الْأَوَّلِ فِي أَوَاخِرِ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ ص: "إِذَا غَابَ الْهِلَالُ قَبْلَ الشَّفَقِ فَهُوَ لِلَيْلَةٍ [لليلته] وَ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ قَبْلَ الْهِلَالِ فَهُوَ لِلَيْلَتَيْنِ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِذَا غَابَ الْقَمَرُ فِي الْحُمْرَةِ فَهُوَ لِلَيْلَتِهِ [لليلة] وَ إِذَا غَابَ فِي الْبَيَاضِ فَهُوَ لِلَيْلَتَيْن". اه
ورواه ابن الجوزي في الموضوعات في (باب حكم الهلال إذا غاب قبل الشفق): أنبأنا محمد بن أبى طاهر أنبأنا الحسن بن على عن على بن عمر الحافظ عن أبى حاتم بن حبان أنبأنا الفضل بن محمد العطار حدثنا إبراهيم بن موسى النجار حدثنا حماد بن الوليد عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا غاب الهلال عن الشفق فهو لليلة، وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين".
ثم قال: "قال ابن حبان: هذا خبر لا أصل له.
وحماد بن الوليد كان يسرق ويلزق بالثقاة ما ليس من حديثهم، لا يجوز الاحتجاج به بحال.
قال: وقد روى هذا الحديث عن عبيدالله الوليد بن سلمة.
والوليد يسرق الحديث أيضا.
قال المصنف قلت: وقد رواه رشدين بن سعد عن يونس بن يزيد عن نافع.
قال يحيى: رشدين ليس بشئ، وقال النسائي: متروك".
بل رووا فيه أخبارا منها ما هو غريب، فمنها حديث: "إن العرش لمطوية بحية إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين". ونسب القول به لأبي حنيفة، قال السبكي في فتاويه: "حكي عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الهلال إذا غاب بعد العشاء فهو ابن ليلتين.
وهذا إذا صح عن أبي حنيفة يحمل إما على وقت خاص أو على الغالب ، ولا ينبغي أن يحمل على العموم؛ لأن الهلال إذا فارق الشمس وكان على خمس درج عند الغروب ليلة الثلاثين لا يرى ولا يترتب عليه الحكم في الشرع فإذا حسب ذلك مع سيره يوما وليلة يقيم إلى بعد العشاء ، وقد يكون أبو حنيفة رضي الله عنه من ذلك على أن الشفق عنده البياض وهو يتأخر".
وعلى أي حال فخبر الشفق شاذ عندنا مشهور الرواية عند العامة، وحمله على التقية صحيح لهذا، ولأن كلامه عليه السلام يشبه كلامهم كما تقتضيه القواعد الشرعية المروية، ويحتمل أن يكون واردا مورد القرينة على عمر الهلال ليستدل به على صدق الشهود، لا للتعبد به.
[لا عبرة بصيام يوم الخامس من اليوم الذي كان الصيام وقع في السنة الماضية ولا غيره من الحسابات]
لا عبرة بحساب الخمسة أيام من السنة الماضية ولا غيره من الحسابات في تحديد أول الشهور، ويمكن الاستدلال به على يوم الشك ويرشد لصدق الشهود، وحاله حال التقاويم الموضوعة المتداولة بين الناس اليوم.
وقد رويت أخبار في هذا الحساب، منها: ما رواه الكليني عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيِّ [المدني] عَنْ عمْرَانَ الزَّعْفَرَانِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّ السَّمَاءَ تُطْبِقُ عَلَيْنَا بِالْعِرَاقِ الْيَوْمَ وَ الْيَوْمَيْنِ وَ الثَّلَاثَةَ فَأَيَّ يَوْمٍ نَصُومُ قَالَ: "انْظُرِ الْيَوْمَ الَّذِي صُمْتَ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَ صُمْ يَوْمَ الْخَامِس".
ورواه بلفظ آخر عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْأَحْوَلِ عَنْ عِمْرَانَ الزَّعْفَرَانِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع إِنَّا نَمْكُثُ فِي الشِّتَاءِ الْيَوْمَ وَ الْيَوْمَيْنِ لَا نَرَى شَمْساً وَ لَا نَجْماً فَأَيَّ يَوْمٍ نَصُومُ قَالَ: "انْظُرِ الْيَوْمَ الَّذِي صُمْتَ مِنَ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَ عُدَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ وَ صُمِ الْيَوْمَ الْخَامِسَ".
وعنه عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ الْخُدْرِيِّ، عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام، قَالَ: "صُمْ فِي الْعَامِ الْمُسْتَقْبَلِ يَوْمَ الْخَامِسِ مِنْ يَوْمٍ صُمْتَ فِيهِ عَامَ أَوَّلَ".
وعنه عن مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ السَّيَّارِيِّ، قَالَ: كَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ إِلَى الْعَسْكَرِيِّ عليه السلام يَسْأَ لُهُ عَمَّا رُوِيَ مِنَ الْحِسَابِ فِي الصَّوْمِ عَنْ آبَائِكَ فِي عَدِّ خَمْسَةِ أَيَّامٍ بَيْنَ أَوَّلِ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ وَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تَأْتِي؟
فَكَتَبَ: "صَحِيحٌ، وَ لكِنْ عُدَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِ سِنِينَ خَمْساً، وَ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ سِتّاً فِيمَا بَيْنَ الْأُولى وَ الْحَادِثِ، وَ مَا سِوى ذلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ خَمْسَةٌ خَمْسَةٌ".
قَالَ السَّيَّارِيُّ: وَ هذِهِ مِنْ جِهَةِ الْكَبِيسَةِ ، قَالَ: وَ قَدْ حَسَبَهُ أَصْحَابُنَا، فَوَجَدُوهُ صَحِيحاً.
قَالَ: وَ كَتَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَرَجِ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَ ثَلَاثِينَ وَ مِائَتَيْنِ: هذَا الْحِسَابُ لَايَتَهَيَّأُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هذَا لِمَنْ يَعْرِفُ السِّنِينَ، وَ مَنْ يَعْلَمُ مَتى كَانَتِ السَّنَةُ الْكَبِيسَةُ ، ثُمَّ يَصِحُّ لَهُ هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوَّلَ لَيْلَةٍ، فَإِذَا صَح لَهُ الْهِلَالُ لِلَيْلَتِهِ وَ عَرَفَ السِّنِينَ، صَحَّ لَهُ ذلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وروى الصدوق في الفقيه مرسلا قال: قال عليه السلام: "إذا صمت شهر رمضان في العام الماضي في يوم معلوم فعد في العام المستقبل من ذلك اليوم خمسة أيام و صم اليوم الخامس".
وفي إقبال السيد ابن طاووس: "وَ رَأَيْتُ فِي كِتَابِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ لِإِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّقَفِيِّ الثِّقَةِ مِنْ نُسْخَةٍ عَتِيقَةٍ عِنْدَنَا الْآنَ مَلِيحَةٍ مَا هَذَا لَفْظُهُ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ قَالَ لِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ع: "عُدُّوا الْيَوْمَ الَّذِي تَصُومُونَ فِيهِ وَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ وَ صُومُوا يَوْمَ الْخَامِسِ فَإِنَّكُمْ لَنْ تُخْطِئُوا".
قال أحمد بن عبد الرحمن: قد ذكرت ذلك للعباس بن موسى بن جعفر فقال: أنا عليه، ما أنظر إلى كلام الناس و الرواية.
قال أحمد و حدثني غياث قال أظنه ابن أعين عن جعفر بن محمد مثله.
أقول: و قد ذكر الشيخ محمد بن الجنيد في الجزء الأول من مختصر كتاب تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة فقال في كتاب الصوم ما هذا لفظه: و الحساب الذي يصام به يوم الخامس من اليوم الذي كان الصيام وقع في السنة الماضية يصح إن لم تكن السنة كبيسة، فإنه يكون فيها من اليوم السادس، و الكبيس يكون في كل ثلاثين سنة أحد عشر يوما مرة في السنة الثالثة و مرة في السنة الثانية أقول و ذكر الشيخ العالم العابد هبة الله بن سعيد الراوندي رحمة الله عليه في كتاب شرح النهاية في كتاب الصيام في باب علامات شهر رمضان ما هذا لفظه: و قد رويت روايات بأنه إذا تحقق لهلال العام الماضي عد خمسة أيام و صام اليوم الخامس أو تحقق هلال رجب عد تسعة و خمسين يوما و صام يوم الستين و ذلك محمول على أنه يصوم ذلك بنية شعبان استظهارا فأما بنية أنه من شهر رمضان فلا يجوز على حال و قال أبو جعفر الطوسي يجوز عندي أن يعمل على هذه الرواية التي وردت بأنه يعد من السنة الماضية خمسة أيام و يصوم يوم الخامس لأن من المعلوم أنه لا يكون الشهور كلها تامة و أما إذا رأى الهلال و قد تطوق أو رأى ظل الرأس فيه أو غاب بعد الشفق فإن جميع ذلك لا اعتبار به و يجب العمل بالرؤية لأن ذلك يختلف بحسب اختلاف المطالع و العروض و هذا آخر ما حكاه الراوندي في معناه" إنتهى.
أقول: بغض النظر عن ضعف أسانيد هذه الأخبار رغم شهرة معناها، والاعتماد على الاستهلال من صدر التشريع، وعدم العامل عليها بين مشاهير الطائفة إلا ما ندر، فهذه الضابطة من الحساب عامة في كل عام إلا الكبيسة التي يزاد يوم على أيامها، ونحن نطرح من كل عام ميلادي شمسي أحد عشر يوما ليوافق التاريخ الهجري لكل الشهور، لا لشهر رمضان فقط، وهو بعينه زيادة خمسة أيام من الأسبوع على يوم العام الماضي إلا السنة الكبيسة، وتعرف الكبيسة بقابلية أعدادها القسمة الصحيحة على أربعة، كما في هذه الأخبار.
والحق أن الرؤية بهذا الحساب كثيرا ما تصدق، بل قد يغلب الظن القوي أنه أول الشهر لو علم بالقطع تاريخ أوله من العام الماضي، كما رواه الصدوق فيما قدمنا في قوله عليه السلام: ” في يوم معلوم “، فيرى الهلال في موضع من البقاع، ويثبت في موضع آخر، لكنه صيام ظني لا يسوغ حسابه من شهر رمضان، وهو -أي الحساب- ما عليه تقاويم هذه السنوات في تقاويمهم، نرجع لها للمعرفة التقريبية وتحديد يوم الشك، لا يوم الصيام والإفطار على نحو القطع واليقين، فإن ثبت بعدها أنه منه اجتزي به، لذا وقع السؤال عنها في خبر الزعفراني بعد فرض إطباق الزمان لا مع صحوه، ولم يرو هذا المعنى في أخبار صحو الجو مع أنها في مقام بيان الضابطة الكلية لأوائل الشهور.
[حساب آخر لمعرفة أول الشهر]
وذكرت طرق أخرى في حساب أول الشهر، منها:
ما مضى أخيرا في نقل السيد عن الراوندي قوله: "و قد رويت روايات بأنه إذا تحقق لهلال العام الماضي عد خمسة أيام و صام اليوم الخامس أو تحقق هلال رجب عد تسعة و خمسين يوما و صام يوم الستين"
وما ذكره السيد أيضا في الإقبال، حيث قال: "فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَجَدْتُهُ مَرْوِيّاً عَنْ جَدِّي أَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ بِإِسْنَادِهِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ أَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْهَيْثَمِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي رَمْثَةَ مِنْ أَهْلِ كَفَرْتُوثَا بِنَصِيبِينَ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ دَخَلْتُ عَلَى الْحَسَنِ الْعَسْكَرِيِّ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَ النَّاسُ بَيْنَ مُتَيَقَّنٍ وَشَاكٍّ فَلَمَّا بَصُرَ بِي قَالَ لِي يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ فِي أَيِّ الْحِزْبَيْنِ أَنْتَ فِي يَوْمِكَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا سَيِّدِي إِنِّي فِي هَذَا قَصَدْتُ قَالَ فَإِنِّي أُعْطِيكَ أَصْلًا إِذَا ضَبَطْتَهُ لَمْ تَشُكَّ بَعْدَ هَذَا أَبَداً قُلْتُ يَا مَوْلَايَ مُنَّ عَلَيَّ بِذَلِكَ فَقَالَ تَعْرِفُ أَيُّ يَوْمٍ يَدْخُلُ الْمُحَرَّمُ فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَهُ كُفِيتَ طَلَبَ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ قُلْتُ وَكَيْفَ يُجْزِي مَعْرِفَةُ هِلَالِ مُحَرَّمٍ عَنْ طَلَبِ هِلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ وَيْحَكَ إِنَّهُ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ فَتَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ قُلْتُ بَيِّنْ لِي يَا سَيِّدِي كَيْفَ ذَلِكَ قَالَ فَانْتَظِرْ أَيُّ يَوْمٍ يَدْخُلُ الْمُحَرَّمُ فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ الْأَحَدَ فَخُذْ وَاحِداً وَ إِنْ كَانَ أَوَّلُهُ الْإِثْنَيْنِ فَخُذْ اثْنَيْنِ وَ إِنْ كَانَ الثَّلَاثَاءَ فَخُذْ ثَلَاثَةً وَ إِنْ كَانَ الْأَرْبِعَاءَ فَخُذْ أَرْبَعَةً وَ إِنْ كَانَ الْخَمِيسَ فَخُذْ خَمْسَةً وَ إِنْ كَانَ الْجُمُعَةَ فَخُذْ سِتَّةً وَ إِنْ كَانَ السَّبْتَ فَخُذْ سَبْعَةً ثُمَّ احْفَظْ مَا يَكُونُ وَ زِدْ عَلَيْهِ عَدَدَ أَئِمَّتِكَ وَ هِيَ اثْنَا عَشَرَ ثُمَّ اطْرَحْ مِمَّا مَعَكَ سَبْعَةً سَبْعَةً فَمَا بَقِيَ مِمَّا لَا يُتِمُّ سَبْعَةً فَانْظُرْ كَمْ هُوَ فَإِنْ كَانَ سَبْعَةً فَالصَّوْمُ السَّبْتُ وَ إِنْ كَانَ السِّتَّةَ فَالصَّوْمُ الْجُمُعَةُ وَ إِنْ كَانَ خَمْسَةً فَالصَّوْمُ الْخَمِيسِ وَ إِنْ كَانَ أَرْبَعاً فَالصَّوْمُ الْأَرْبِعَاءُ وَ إِنْ كَانَ ثَلَاثَةً فَالصَّوْمُ الثَّلَاثَاءُ وَ إِنْ كَانَ اثْنَيْنِ فَالصَّوْمُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَ إِنْ كَانَ وَاحِداً فَالصَّوْمُ يَوْمَ الْأَحَدِ وَ عَلَى هَذَا فَابْنِ حِسَابَكَ تُصِبْهُ مُوَافِقاً لِلْحَقِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى".
أقول ربما كان قول الراوي فما بقي مما لا يتم سبعة من زيادة أحد الرواة أو من الناسخين لأنه قد ذكر فيه فإن كان سبعة فالصوم السبت و لأنه إذا كان أول المحرم مثلا يوم الإثنين و ضم الاثنين إلى عدد الأئمة ع و هو اثنا عشر صار العدد أربعة عشر فإذا عد سبعة و سبعة ما يبقى عدد ينقص عن سبعة أقول ولعل هذه الرواية تختص بوقت دون وقت و على حال دون حال و لإنسان دون إنسان وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَيْنَاهُ بِإِسْنَادِنَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيِّ مِنْ كِتَابِ الْكَافِي وَ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حَسَنِ بْنِ فَضَّالٍ مِنْ كِتَابِهِ كِتَابِ الصِّيَامِ بِإِسْنَادِهِمَا إِلَى أَبِي بَصِيرٍ عَنِ الصَّادِقِ ع أَنَّهُ قَالَ إِذَا عَرَفْتَ هِلَالَ رَجَبٍ فَعُدَّ تِسْعَةً وَ خَمْسِينَ يَوْماً ثُمَّ صُمْ يَوْمَ سِتِّينَ أقول و هذا الحديث كان ظاهره يقتضي أن رجبا و شعبان لا بد أن يكون أحدهما ناقصا عن ثلاثين يوما فإن وجدت في وقت هذين الشهرين تامين فلعل المراد بتلك [بهذه] الرواية تلك السنة المعينة أو سنة مثلها أو غير ذلك” انتهى.
والإعتماد عليها مخدوش بما دل على النهي عن الاعتماد على التظني وحصر الحكم في العلم بالرؤية والشياع.
بل هو حساب غريب غير مضبوط لا بحساب التقاويم ولا بالشرع، وروايته ضعيفة شاذة، أقصى ما تدل تدل عليه لو صحت هو الارشاد ليوم الشك من أول الشهر والاحتياط لأوله تجنبا لقضائه خارج الشهر الفضيل.
[لا عبرة بتطوق الهلال ورؤية ظل الرأس فيه واتفاق الأنظار أنه لليلتين]
يجوز معارضة الشهادة -لا إسقاطها- بقرائن ظنية: بالرؤية أوائل الشهور برؤية الهلال مطوقا أول الشهر الماضي أو وضوحه وكبره واتفاق الأنظار على أنه لليلتين أو أكثر، بل كل أمارة تورث ظنا قويا، حتى حساب الفلكي، تكون صالحة للتأثير في الوثوق بشهادات الرؤية، ولا حجية لها في إثبات الشهر أو نفيه.
يدل عليه: ما رواه الكليني في الصحيح عن أحمد بن إدريس عن محمد بن أحمد عن يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُرَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ ع قَالَ: "إِذَا تَطَوَّقَ الْهِلَالُ فَهُوَ لِلَيْلَتَيْنِ وَ إِذَا رَأَيْتَ ظِلَّ رَأْسِكَ فِيهِ فَهُوَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ".
ورواه الصدوق في الفقيه بسنده إلى محمد بن مرازم، ورواه الشيخ بسنده إلى سعد بن عبد الله عنهم مثله.
فإنه بضميمة ما استفاض من حصر الحجية للرؤية والعلم، وعدم العمل بهذه الأمارة لإثبات أوائل الشهور شرعا، يدل على أن تطوقه أو تأثيره للظل على الأرض كاشف ظني على كونه لليلتين أو لثلاث، وفائدته تظهر في آخر الشهر وتؤثر في الوثوق بشهادة الشهود على الرؤية.
وهو خبر مفرد ليس فيه ما يدل على التعبد بهذه الأمارة، ولم يقترن بما يعين على استظهار وجوب الأخذ بها.
وروى الصدوق في الفقيه: سَأَلَهُ الْعِيصُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنِ الْهِلَالِ إِذَا رَآهُ الْقَوْمُ جَمِيعاً فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لِلَيْلَتَيْنِ أَ يَجُوزُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ.
وهو كأمثاله من الأمارات الظنية؛ فإنه يجوز أن يصدق حدسهم وظنهم خاصة مع اتفاق أنظارهم، فيؤثر في اعتبار شهادة الشهود ولا تقبل إلا بتحر زائد عما لو كانت خالية عن المعارضة بقرائن مخالفة ككبر الهلال أول الشهر وغيره.
وهو كسابقه مما تفرد بروايته الرواة ولم يقترن بما يؤيده، ولم يظهر بهذا وجه دلالته على وجوب اعتبار هذه الأمارة.
والحمد لله رب العالمين
وصلاته وسلامه على النبي الطاهر الأمين وآله الغر المنتجبين
وكتبه
محمد علي حسين العريبي البحراني مولدا ونشأة
في
صبيحة الأحد الثامن من شهر شوال لسنة 1433 للهجرة النبوية على مهاجرها وآله سلام الله والتحية
الموافق لذكرى هدم قباب الأئمة الشرفا أمام ناظري سيد النقبا ولله المشتكى وله الآخرة والأولى.
..................................................................
[1] - ليس في رواية الكافي
[2] - وهي السنة التي ولد فيها أبو محمد العسكري عليه السلام في المدينة، وأشخص الهادي عليه السلام في السنة التي تلتها إلى سر من رأى
[3] - كذا في الوافي
[4] - الأمالي (المجالس): 80، الفقيه 1: 220/ ح 662