تختلج أذهان البعض قضية وهي: الحقيقة بالنسبة إلى كل باحث ما توصل إليه ببحثه فتبقى في الذهن كمرتكز تترتب عليه آثار مختلفة في تعاطيه الذهني والحال أن نفس هذه القضية مورد مغالطات بسبب سوء الفهم. بيان ذلك: حقيقة أي شيء وعروض وصف الحقيقة له بثبوته الواقعي النفس الأمري، وإدراك الذهن مرتبة متأخرة عن ذلك لأنها مرتبة الكشف والإثبات، والنسبة بين المرتبتين نسبة العموم والخصوص من وجه إذ:
1/ قد تحصل حالة ادراك للذهن والمدرَك لا واقعية له ولا ثبوت فهو في الواقع جهل.
2/ قد تنتفي حالة الإدراك عن شيء ومع ذلك له تقرر و ثبوت واقعي.
3/ قد تحصل حالة إدراك للذهن والمدرَك له واقعية وثبوت واقعي في نفس الأمر.
والسرّ في ذلك أن العلم الحاصل من الدليل و الحجة ليس إلا تصديق وإقرار وإذعان للنفس بالمعلوم وان هذا المعلوم مطابق لما عليه الأمر في نفس الأمر، والإذعان والتصديق بهذا المعنى أعم من ان يكون مطابقا لما في نفس الأمر او لم يكن لأن الاعتقاد بالمطابقة لا يوجب أن يكون الشيء المعتقد مطابقا لما في نفس الأمر إذ ذات المطابقة شيء والإذعان بالمطابقة شيء آخر فجميع التصديقات مطابقة بحسب الإذعان والاعتراف لوجود الإذعان بالمطابقة وإن لم يكن بعضها مطابقا لما في نفس الأمر. فتدبر جيدا
فيظهر من ذلك هذه النتيجة وهي: أن الحجة علة لحصول الإذعان الذي هو الأعم وليس علة لتحقق المذعن به وعروض صفة الحقيقة عليه.
والباحث في تحصيل الحقيقة بالدليل والحجة - وان كان قد لا يصيب في بعض موارد ومتعلقات بحثه - إلا أنه على كل حال يحتاج لبضاعة علمية محكمة ومتقنة التحصيل ليباشر تفعيل عملية البحث الفكري وهذه لا تحصل بمجرد حشو الذهن بمعلومات ملتقطة من المطالعات العامة، بل من تحصيل أصول العلم بإتقانٍ لمورد البحث.
فمن أراد أن يثبت حقيقة دينية فعليه أن يحصّل في نفسه بإتقان تلك البضاعة ليكون قادرا في ميدان البحث من تمييز الحق من الباطل وتعيين احد طرفي النقيض في المسألة مورد البحث فالحقيقة ليست حكرا على شخص أو فئة خاصة، ولكن ولكن ولكن بشرطها وشروطها والبضاعة العلمية المتقنة من أسس شروطها.
وهذا يقتضي إبراز حالة التعجب الشديد من بعض المثقفين الذين قد أجازوا لأنفسهم البت في قضايا متعلقة بالدين اعتمادا على ثروة معلوماتية ثقافية قد التقطت بالمطالعة الشخصية غافلين عن أن الورود في طريق الكشف عن الحقائق الدينية يحتاج لبضاعة علمية ليست هي التي تصوروا بأنها كافية وهنا يتألم الناظر في هذا الحال حيث صار الدين شرعة لكل من يشتهي أن يجرب نفسه كمنّظر فساعد الله قلب مولانا صاحب العصر ارواحنا له الفداء على الحالة العبثية المستشرية بدين جده المصطفى صلى الله عليه وآله.
ويحسن أن أختم مقالي هذا بكلام لطيف مفيد لسيدنا العلامة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف حيث يقول:
ربما راجع بعضهم هذه العلوم العقلية وهو غير مسلّح بالأصول المنطقية ولا متدرب في صناعة البرهان فشاهد اختلاف الباحثين في المسائل بين الإثبات والنفي والحجج التي اقاموها على كل من طرفي النقيض ولم يقدر لقلة بضاعته على تمييز الحق من الباطل فتسلم طرفي النقيض في مسألة بعد مسألة فأساء الظن بالمنطق وزعم أن العلوم نسبية غير ثابتة والحقيقة بالنسبة إلى كل باحث ما دلت عليه حجته وليعالج أمثال هؤلاء بإيضاح القوانين المنطقية وإراءة قضايا بديهية لا تقبل الترديد في حال من الأحوال.
كتبه
طالب علم على سبيل نجاة