بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد، أشرف الخلق أجمعين والرّسول الأمين والمبعوث رحمة للعالمين، وعلى آل بيته الطّيبين الطّاهرين المنتجبين، ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدّين.
تمهيد:
(شبهاتٌ بعضُها فوق بعض)
تلاوة القرآن الكريم على النّاس، إحدى وظائف الرّسالة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}(الجمعة:2). ومنذ أن نطق الرّسول الأكرم محمّد(ص) به تبليغًا للنّاس عامة، والشّبهات تُثار حول هذا الكتاب العزيز من قبل أعدائه وخصومه، وستبقى تثار وتثار إلى ما يشاء الله. وليس هذا بمستغرب؛ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام:112).
ولقد سجّل القرآن شبهات المشركين في ذلك الزمن، فكان من ذلك: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(الفرقان:4-5)، وفي موضع آخر: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ }(الأنبياء:5).
ولئن كانت شبهات مشركي مكة وما حولها من القرى منحصرةً في كون القرآن مختلقًا وفق الآية الأولى، افتراءً من قبل الرّسول الكريم(ص) أو إملاءً من غيره أو إعانةً من قوم آخرين. وبكونه أضغاث أحلام ومفترىً بل قول شاعر، حسب الآية الثانية. فإنّ الزّمن الّذي لحقه قد ولّد شبهات تحاول نزع القداسة الماديّة والمعنويّة عن القرآن؛ بدعوى عدم ثبوته، أو -على أقلّ تقدير- تحريفه بالزّيادة أو النّقصان.
حتى إذا صرنا إلى المشهد الثّقافيّ في عصرنا الحاضر، وجدنا شبهاته(المشهد) حول القرآن قد ذهبت إلى ما هو أعمق من شبهات مشاهد الثقافة في ذينك الزّمنين. فشبهات مشهدنا الثّقافيّ تجاهر بضرورة إيجاد قراءة جديدة تقطع حبل الوصل بتراث الماضين من كتب التّفسير وغيرها، اتكالاً على منجزات العلوم الإنسانيّة والعلميّة الحديثة؛ لمواكبة هذا العصر المتفجّر معرفةً وتطورًا. فليس من المنطقيّ أن نبقى أُسارى فهم الماضين للقرآن ونلغي عقولنا، فنعيش غرباء غربةً فكرية وروحيّة عن عصرنا.
مع ملاحظة أنّ أثر شبهات الأزمان السّابقة قد اختصّ ببعض أهل الثّقافة والعلم –وهي مفارقة ملفتة-؛ فقد أتاح، الاحتكاك العمليّ في بعض المجتمعات ومعرفة القراءة ومتابعة موجات البثّ الرّاديويّ والتّلفزيونيّ، لهم فرصة التّعرف إلى هذه الشّبهات. فأخذت موجاتها مَن أخذت منهم بشكل كليّ أو جزئيّ، وردّها مَن كان آويًا إلى ركن حصين.
لكن، نظرًا لشيوع منتجات ثورة الاتصال والمعلومات، والّتي حوّلت العالم إلى بيت صغير يَعرف فيه –مبالغةً- كلّ أحدٍ عن كلّ أحد، فقد باتت شبهات مشهدنا الثّقافيّ حول القرآن الكريم تفرض نفسها على النّاس، بمختلف تصنيفاتهم الثّقافيّة والعلميّة والعرقيّة والعمريّة والقوميّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وأصبح خطر التأثّر بها، والانجرار وراءها عظيمًا.
مقدّمات لمقاربة الشّبهات
فلقد يبدو، اعتبارًا من تجارب بعض مَن ساروا في ركب تلك الشّبهات، أنّ حجر الزّاوية المفقود لديهم قد تمثّل في انعدام أو ضعف التّأسيسات المعرفيّة حول القرآن الكريم، إمّا قصورًا أو تقصيرًا. وهذا أمر لا يحتاج إلى تحليل أو تعليل؛ فمَن وَهن أساسه كان نهبًا للرّياح تهوي به في كلّ مكانٍ سحيق.
وعليه، هذه ثلاث مقدّماتٍ تأسيسيّة حول القرآن الكريم، من شأنها -إن شاء الله- المساهمة في توفير أساسات أوليّة يقف عليها المسلم فردًا وجماعاتٍ، عند مقاربة الشّبهات المثارة.
(المقدّمة الأولى) :
تعريف القرآن وخواصّه وخصائصه
أولاً: تعريف القرآن
وعلى نحوين، سنعرّف القرآن الكريم:
أ. التّعريف بالوصف: فالقرآن كلام الله المعجز، المنزل عن طريق الوحي على الرّسول الأكرم محمد(ص)، بألفاظه العربيّة ومعانيه التّامّة، المنقول إلينا بالتّواتر، الموجود بين الدّفتين، والخاتم للكتب السّماويّة[1].
ومن هذا التّعريف نتبيّن الأمور الآتية:
- أنّ القرآن: "كلام الله المعجز" فلا دخل للرّسول الكريم محمّد(ص) أو الوحي في إنشائه، والّذي لا يستطيع أحد -بشر أو جنّ- أن يأتي بسورة من مثله.
- أنّ القرآن: "منزل عن طريق الوحي على الرّسول الأكرم محمّد(ص)، بألفاظه العربيّة ومعانيه التّامّة". فقد تبلّغه الرّسول(ص) عبر الوحي عن ربّ العزّة والجلال بلفظه ومعناه، وبلّغه الرّسول(ص) للنّاس.
- أنّ القرآن: " منقول إلينا بالتّواتر"، كما نطق به الرّسول الأكرم(ص) عن الله سبحانه.
- أنّ القرآن: "موجود بين الدّفتين"، أيْ: المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة النّاس. ولم ينقص منه حرف أو كلمة أو حركة ولم يزد فيه شيء من ذلك.
- أن القرآن: "خاتم للكتب السّماويّة"؛ لختام النّبوة والرّسالة بالرّسول محمّد(ص)، وما يترتّب على ذلك من استمرار العمل به إلى قيام السّاعة دون سائر الكتب السّماويّة السّابقة.
ب. التّعريف بالحقيقة: وهو موضوع يحتاج إلى تعمّق وتتبّع كبيرين، لا يتّسع لهما المقام هنا. وسأكتفي بإيراد تعريف لعالم من أهل السّنّة، وتعريفين آخَرين لعالمين من الشّيعة الإماميّة، والتّعاريف هي:
- قال ابن عقيلة المكيّ(ت1100هـ) -صاحب أكبر موسوعة عن علوم القرآن الكريم-: "أمّا حقيقته(القرآن) الّتي هي بمعنى ذاته، فهي صفة الكلام الأزليّ، الّتي يُوصف الحقّ بها -سبحانه- كما يُوصف بالعلم والقدرة"[2]. وهذا الكلام فيه شبهة التّجسيم، كما فيه خلط بين صفة الذّات (التّكلّم) وصفة الفعل (الكلام).
- ذكر العلامّة الطباطبائيّ(ت1980م) -صاحب تفسير الميزان- في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَوَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}(الزخرف:2-3) أنّ القرآن ذو حقيقة أخرى وراء المكتوب في المصحف. حيث قال: "إنّ الكتاب عندنا في الّلوح المحفوظ ذو مقام رفيع وإحكام لا تناله العقول لذيْنك الوصفين، وإنّما أنزلناه بجعله مقروءاً عربيّاً رجاء أن يعقله النّاس".[3]
- ذهب الشّيخ محمّد السّند إلى أنّ القرآن في حقيقته روح أمريّ، تفسيرًا لقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}(الشورى:52). حيث قال: "الرّوح الأمريّ الّذي هو الحقيقة الغيبيّة للقرآن الكريم، وفيه كلّ شيء، وسبب متّصل من الأرض إلى السّماء، إلى مقام العنديّة والقرب الإلهيّ(...) فهذا الرّوح يُستطر فيه كلّ غيب من العرش إلى الفرش، ويُغرز في نفس النّبيّ(ص)، ثمّ في روح أهل البيت(ع). فأيّ مفسِّرٍ يستطيع أن ينازعهم في تفسير وتبيان وتأويل الكتاب المبين".[4]
وعلى العموم، فإنّ تحرير مسألة حقيقة القرآن بالأدلّة المعتبرة، سيكون له نتائج مثمرة، وفي أبعاد كثيرة ومختلفة.
ثانياً: خواصّ القرآن وخصائصه
هنالك فرق بين الخواصّ والخصائص. فالخصائص جمع خصّيصة، وهي الصّفة التي تميّز الشّيء وتحدّده. أمّا الخواصّ فجمع خاصّة، وهي الصّفة الّتي يختصّ بها الشّيء دون غيره. وخصائص القرآن وخواصّه كثيرة، سنكتفي بذكر مجموعة منها كعناوين، كما وردت في القرآن ذاته وأحاديث المعصومين (ع). فمن خواصّ القرآن وخصائصه:
- أنّه تنزيل من حكيم حميد.
- أنّه معجز لا يُؤتى بمثله.
- أنّه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
- أنّه تبيان كلّ شيء.
- أنّه لا يمسّه إلا المطهرون.
- أنّ الله سبحانه تعهّد بحفظه.
- أنّه الخاتم والمُصدِّق والمُهيمن.
- أنّه شفاء ورحمة.
- أنّه كتاب مبين.
- أنّه نور.
- أنّه ماحِل (الخَصم المجادِل) مُصدَّق.
- أنّه حبل الله المتين.
- أنّه شافع مُشفَّع.
- أنّه أثافيّ الإسلام وبنيانه.
- أنّه بحر لايدرك غوره.
- أنّه مغتبطة به أشياعه.
- أنّه لاتُطفأ مصابيحه.
- أنّه قائد إلى الرّضوان اتّباعه.
- أنّه يَحرم إهانته وتدنيسه[5].
(المقدّمة الثّانية):
ثُبوت القرآنِ وحُجيّته
أولاً: ثُبوت القرآن
ويقصد به القطع بصحّة نسبة القرآن الكريم إلى الله سبحانه، وكذلك القطع بصحّة صدوره عن الرّسول الأكرم محمّد(ص)، حتى وصل إلى زمننا الحاضر دون تحريف بالزّيادة أو النّقصان[6]. ويُستدلّ على هذا القطع بـ:
(1) أنّ القرآن الكريم تحدّى الإنس والجنّ -ولايزال هذا التّحدّي قائمًا إلى قيام الساعة- أن يأتوا بمثله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}(الإسراء:88) أو بعشر سور::{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(هود:13) أو بسورة من مثله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة:23) فعجزوا. وعجزهم دليل صدوره عن الله سبحانه وتعالى.
(2) أنّ القرآن الكريم منقول إلينا بالتّواتر، والّذي يعني: أنّ القرآن رواه عن الرّسول(ص)، في كلّ طبقةٍ من طبقات الرّواة، عدد منهم يستحيل تواطؤهم على الكذب. فالقراءة[7] المشهورة للقرآن -والّتي يقرأ بها أغلب المسلمين اليوم- إسنادها ذهبيّ[8]. فهي قراءة عاصم بن أبي النّجود عن أبي عبدالرّحمن السُّلميّ عن أمير المؤمنين(ع) عن رسول الله(ص) [9].
ثانياً: حُجيّة القرآن
والحجيّة تأتي على عدّة معانٍ[10] ، يمكن تطبيقها على حجيّة القرآن. وهي:
- حجيّة المولى سبحانه بالقرآن على العبد {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}(الأنعام:149).
- دليليّة القرآن وبرهانيّته على صدق نبوّة الرّسول(ص).
- كاشفيّة القرآن وحكايته عن الواقع في نفسه، فيما يخبر عنه ويرشد إليه ويأمر به.
- منجزيّة العمل بالقرآن عقيدةً وشريعةً و...، إنْ طابق الواقع.
- معذريّة العمل بالقرآن عقيدةً وشريعةً و...، إنْ خالف الواقع.
- امتثاليّة العبد لأمر المولى سبحانه باتّباع القرآن.
ويُستدلّ على هذه الحجيّة من الأدلّة الأربعة بالآتي:
(1) القرآن ذاته، فآياته تؤكّد حجيّته، باعتباره مصدر التّشريع والهداية، يقول تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}(المائدة:15-16).
(2) السّنة القوليّة والفعليّة للرّسول(ص) والأئمّة المعصومين(ع) دالّة على حجيّة القرآن. فمن السّنّة القوليّة ما تواتر من كلامهم(ع) في اتّباع القرآن والعمل به وتحكيمه، كقول الأمير(ع): "الله الله في القُرْآن، لا يَسْبِقكُمْ بالعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ"، و"في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم"[11]. ومن السّنّة الفعليّة عملهم بما أُنزل في القرآن. فحين نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة:183) كان الرّسول(ص) أوّل العاملين بهذه الآية.
(3) الإجماع من قبل المسلمين كافّة أنّ القرآن حجّة عليهم، فهو مصدرهم الأوّل في العقيدة والعبادة والشّريعة و.. وإنْ اختلفوا في تعيين هذه الأمور معنىً وحدودًا وكيفيةً.
(4) العقل، فإنّ الله خلق النّاس رحمةً لا لغوًا وعبثًا؛ وهذا يقتضي هدايتهم للخير. لذا، أرسل لهم رسله(ع) وحمّلهم تبليغ كتبه -حجّته الظّاهرة-، بعد أن زوّدهم بالعقل-حجّته الباطنة- وما غُرز فيه من فطرة سليمة.
(المقدّمة الثّالثة):
مرجعيّة أهل البيت(ع) في فهم القرآن
إنّ مرجعيّة أهل البيت(ع) في فهم القرآن؛ باعتبارهم عِدل القرآن والثّقل الآخَر في الأمّة والقرآن النّاطق فيها، هي الحقيقة الحاضرة/الغائبة في واقع الأمّة الإسلاميّة سابقاً وحاضراً.
فجهة كونها حاضرة، هو حضورها الواضح وضوح الشّمس الضّاحية في السّماء الصّافية، على مستوى النّصّ القرآنيّ والنّبويّ. فالقرآن الكريم يُنبئ أنّ الله سبحانه أوكل إلى نبيه(ص) تبيين القرآن للنّاس: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(النّحل:44)، فـ{مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}(آل عمران:7) و{هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}(العنكبوت:49) والرّاسخون في العلم والّذين أوتوه هم المطهّرون {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}(الواقعة:78)، والمطهَّرون هم أهل البيت(ع): {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33). كما إنّ الأحاديث النّبويّة الشّريفة تؤكّد على التّلازم بين القرآن والعترة في الدّنيا والآخرة، كحديث الثّقلين المجمع عليه من كلا الفريقين. ففي صحيح التّرمذيّ بإسناده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (ص): «إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرّقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما"[12].
وجهة كونها -مرجعيّة أهل البيت(ع) في فهم القرآن- غائبة؛ فواقع المسلمين يشهد على ذلك. سواء أكان ذلك على مستوى اقتداء الأمّة الإسلاميّة بهم وترتيبهم في مراتبهم الّتي رتّبهم الله فيها، أم على مستوى الاستناد إلى ما ورد وأُثر عنهم في تشييد العقيدة والفقه والفكر والعلم و...
وللتّدليل على أهميّة هذه المرجعيّة فيما يتعلّق بفهم القرآن الكريم، سأعرض ثلاثة أمثلة، الأوّل في معرفة القرآن من حيث الأزليّة والحدوث، والثّاني في حفظ القرآن وبيان علومه، والثّالث في تفسيره؛ ليُعرف مدى الحاجة إليهم(ع) في بيان القرآن وتطبيقه في الأزمان الغابرة والآنيّة والّلاحقة، وليستبين مقدار التّيه واقعاً في الصّدّ عنهم. والأمثلة كالآتي:
أ. في معرفة القرآن من حيث الأزليّة والحدوث: فقد شهد العالم الإسلاميّ فتنةً غاشمة جرت وقائعها بين (234-218هـ) في عهد كلّ من المأمون والمعتصم والواثق العباسيين، وعُرفت في التّاريخ بـ"محنة خلق القرآن"، وكان منشؤها السّؤال الآتي: هل القرآن مخلوق(محدث)أم أزليّ(قديم)؟
وأصل الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة في هذه المسألة يعود إلى سؤال آخر، هو: هل كلام الله صفة أزليّة أم حادثة؟ فمن جعله أزليّاً، قال بقِدم القرآن. ومن جعله حادِثًا، قال بخلق القرآن. وهذا السّؤال نفسه ناشئ عن شُبهة عقديّة أثارها يوحنّا الدّمشقيّ، وهي: إذا كان القرآن مخلوقًا فهو منفصل عن ذات الله كباقي المخلوقات، فليس كلامه بل هو مُختلَق(مفترى). وإن كان غير مخلوقٍ فهو أزليّ، مثل النّبيّ عيسى(ع) ابن الله الأزليّ. وبهذا المعنى يكون القرآن مثل ما يقوله النّصارى في السّيّد المسيح(ع).
فقالت الحنابلة: القرآن قديم؛ لأنّه صفة من صفات الذّات الإلهيّة. وقالت الأشاعرة: القرآن قديم؛ لأنّه كلام الله النّفسيّ القائم بذاته حقيقة لا مجازًا. وقالت المعتزلة: القرآن مخلوق؛ لأنّ كلامه فعل من أفعاله المخلوقة في اللّوح أو في الهواء أو غيرها، ولا وجود لصفات الذّات. أمّا الشّيعة الإماميّة أخذاً بما قاله الأئمّة المعصومون(ع) فقالوا: القرآن مخلوق؛ لأنّه كلام الله المحدث بنص القرآن {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ}(الشعراء:5)، فقد "رَوَى أَبُو هَاشِم، قال: خَطَرَ بِبَالِي أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الإمام العسكريّ(ع): "يَا أَبَا هَاشِمٍ، اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيء، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ"[13]. فلو كان القرآن قديماً لشارك الذّات المقدّسة الأزليّة والألوهيّة. و(الكلام) صفة الفعل، غير (التّكلّم) الّذي هو صفة الذّات. أمّا الكلام النّفسيّ فهو شأن المخلوقين[14].
ب. في حفظ القرآن وبيان علومه: فأمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) هو مَن جمع القرآن في مصحف بعد وفاة رسول الله(ص) وبوصيّة منه، ولولاه لم يجمع. فعن أبي حمزة الثّماليّ، عن أبي جعفر الباقر(ع) قال: "ما مِن أحد من هذه الأمّة جمع القرآن إلّا وصيّ محمد(ص)"[15]. كما إنّه(ع) -والأئمّة من ولده(ع)- المُبيّن عن الوحي لعلوم القرآن كالنّاسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابَه والخاصّ والعامّ والتّأويل والتّفسير وغيرها. ويذكر بعض علماء التّجويد أنّ من كلامه(ع) اشتُقّ مصطلح (التّجويد) و(الوقف والابتداء). فقد رُوي[16] أنّه سُئل(ع) عن معنى التّرتيل في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}(المزّمل:4)؟ قال(ع): "هو تجويد الحروف(علم التّجويد)، ومعرفة الوقف(علم الوقف والابتداء)".
ج. في تفسير القرآن: ومجال القول في هذا كثير، نكتفي منه بهذا النموذج. فقد رَوى المفسّر المشهور أبو جعفر الطّبريّ في "جامع البيان" بإسناده عن رجل قال: أرسلني أبوبكر وعمر وأنا غلام صغير أسأله -أمير المؤمنين (ع)- عن الصّلاة الوسطى، فأخذ إصبعي الصّغيرة فقال: "هذه الفجر"، وقبض الّتي تليها وقال: "هذه الظّهر". ثمّ قبض الإبهام فقال: "هذه المغرب"، ثمّ قبض الّتي تليها وقال: "هذه العشاء". ثمّ قال: "أيّ أصابعك بقيت؟" فقلتُ: "الوسطى"، فقال: "أيّ صلاة بقيت؟" قلتُ: "العصر"، قال: "هي العصر"[17].
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
........................................
[1] انظر: علوم القرآن، السّيّد محمّد باقر الحكيم، مجمع الفكر الإسلاميّ، ط3/(د.ت):17-18. و: مباحث في علوم القرآن، منّاع القطّان، القاهرة: مكتبة وهبة، (د.ت): 12-23. و: بحوث منهجيّة في علوم القرآن، موسى الإبراهيم، عمّان: دار العمّار، ط2/1996: 14-15.
[2] الزّيادة والإحسان، ابن عقيلة المكيّ، الشّارقة: مركز البحوث والدّراسات بجامعة الشّارقة، ط1/2006: 1/104.
[3] نقلاً عن: علوم القرآن عند المفسّرين، مركز الثّقافة والمعارف القرآنيّة، قمّ المقدّسة: مؤسسة بوستان كتاب، ط2/1428: 1/237.
[4] إسلام معيّة الثّقلين، الشّيخ محمّد السّند، قمّ المقدّسة: دار التّفسير، ط1/1435: 31-32.
[5] خواصّ القرآن وخصائصه، من الموضوعات الّتي تستحقّ أن تُفرد بالبحث المعمّق في ضوء الكتاب والسّنّة والعلم الحديث.
[6] الأصول العامّة للفقه المقارن، السّيّد محمّد تقيّ الحكيم، قمّ: المجمع العالميّ لأهل البيت(ع)، ط2/19997: 94.
[7] لمزيد من الاطلاع حول موضوع القرّاء والقراءات القرآنيّة، انظر: القراءات القرآنيّة.. تاريخ وتعريف، الشّيخ عبدالهادي الفضليّ، بيروت: مركز الغدير، ط4/2009.
[8] التّمهيد في علوم القرآن، الشّيخ محمّد هادي معرفة، بيروت: دار التّعارف للمطبوعات، ط/2011: 2/242.
[9] لمزيد من الاطّلاع حول موضوع ثبوت القرآن مقارنةً بين الفريقين من وجهة نظر غير شيعيّة، انظر: ثبوت القرآن بين أهل السّنّة والشّيعة الإماميّة، محمّد السّيّد الصّيّاد، عمّان: دار النّور، ط1/2016.
[10] انظر: الحُجّة.. معانيها ومصاديقها، السّيّد مرتضى الشّيرازيّ، بيروت: دار العلوم، ط1/2011: 32-38.
[11] لمزيد من هذه النّصوص العلويّة، انظر: القرآن في نهج البلاغة، مكتبة الرّوضة الحيدريّة، النّجف: العتبة العلويّة، ط/2012 .
[12] نقلاً عن: حديث الثّقلين، السّيّد عليّ الميلانيّ، قمّ: مركز الأبحاث العقائديّة، ط1/1421: 8.
[13] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، النّسخة الإلكترونيّة: 50/258.
[14] انظر: خلاصة علم الكلام، الشّيخ عبدالهادي الفضليّ، قم: دار الكتاب الإسلاميّ، (د.ت): 124-139. و: علوم القرآن عند المفسّرين، مركز الثّقافة والمعارف القرآنيّة، قمّّ المقدّسة: مؤسّسة بوستان كتاب، ط1/1428: 3/127-156.
[15] بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، النّسخة الإلكترونيّة: 89/48.
[16] الملخَّص المفيد في علم التّجويد، محمّد أحمد معبد: دار السّلام، (د.ت): 10.
[17] نقلاً عن: فتح البيان فيما روي عن عليّ من تفسير القرآن، السّيّد مصطفى الحسينيّ، حلب: دار الجسور الثّقافيّة، ط/2005: 98.