بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
هل التقليد يعني الرجوع التعبدي للفقيه أي قبول رأي الفقيه تعبداً دون اقتناع برأيه ولو اقتناعا اجماليا بمعنى السكون والاطمئنان لرأيه الذي يبدو من جري الناس في نظامهم الاجتماعي على كون رجوعهم للمتخصِّصين من باب الاطمئنان والاقتناع بتشخيصهم لا تعبداً، فلو رجعت لطبيبٍ ولكن لم تقتنع بتشخيصه لم تعمل بتشخيصِه فتراجع طبيباً آخر ليحصل لك الاطمئنان ولو طلب منك الميكانيكي تبديل قطعةِ غيارٍ معينة ولكنَّك غير مطمئنٍ بصحَّة كلامه لن تأخذ بتشخيصه مطلقاً دون حصول القناعة، ومن هنا لابدَّ من حصول ركون النفس للفتوى ولا يكفي الرجوع التعبدي. ما تعليقُكم على ذلك؟
الجواب:
التقليد يقتضيه انتظام الحياة الاجتماعيَّة:
الواضح من صاحب الإشكال أنَّه يُقِرُّ بأنَّ تقليد المسلم للفقيه أمرٌ يقتضيه انتظام الحياة الاجتماعيَّة، إذ لا يسع كلُّ أحدٍ أنْ يتمحَّض لدراسة جميع العلوم التي يحتاج لنتائجها في حياته، لذلك يتقاسمُ الناس الأدوار فيتمحَّض كلُّ فريق من المجتمع في علم، ثم يرجع كلُّ فريقٍ للآخر فيما هو متخصِّصٌ فيه، فيرجعُ الطبيبُ للفقيه في الأحكام الشرعيَّة، ويرجع الفقيهُ للطبيب في تشخيص ما تعرضُه من أمراض وفيما يصفُه من علاج، ويرجعُ كلٌّ منهما للمهندس في الشأن الذي يتَّصل بتخصُّصه، ويرجع الثلاثة للحِرَفي في الشأن الذي يتَّصل بحرفته، وبهذا تنتظمُ الحياة، إذ لا يسَعُ الجميع أنْ يتخصَّص في جميع العلوم ويُتقنها، فلا مداركه تتَّسعُ لذلك نظراً لتشعُّب مسائل كلِّ علم ودقِّتها، وليس له من الوقت ما يكفي للإحاطة بها، على أنَّ طاقة الإنسان محدودة فلا يسعُه أنْ يُنجِزَ حاجاتِه كلِّها بل ولا الكثيرَ منها بنفسه.
ولهذا أقرَّ صاحبُ الإشكال بأصل التقليد للفقيه، ولو لم يعترف بذلك لكان مكابراً، نعم ذكر أنَّ التقليد للفقيه شأنُه شأنُ الرجوع للطبيب، فكما لا يعتمد المريضُ تشخيصَ الطبيب إذا لم يحصل له الوثوق والاطمئنان بتشخيصِه فكذلك ينبغي عدم الاعتماد لفتوى الفقيه إذا لم يحصل الاطمئنان بصحَّتها.
وجرياً مع صاحب الإشكال نقول إنَّ المريض حينما لا يحصل له الاطمئنان بتشخيص الطبيب فهو أمام خياراتٍ أربعة، فإمَّا أنْ يعتمد على نفسه في تشخيص طبيعة المرض ويعتمد على نفسِه في تحديد العلاج وماهية الدواء والعملية الجراحية التي يحتاجها، ولو فعل ذلك لاعتبره العقلاء سفيهاً.
والخيار الثاني هو أنْ يعتمد على تشخيص عامَّة الناس من غير المتخصِّصين في الطب، فيعتمد قولَهم في تشخيص مرضِه وتشخيص العلاج والدواء المناسب له، ولو فعل ذلك لاعتبره العقلاء سفيهاً مجازفاً بحياته.
والخيار الثالث هو أنْ يُهمِلَ نفسه دون علاج، ولا يختلف العقلاء في حماقة مَن يتَّخذ هذا الخيار وأنَّه يُجازفُ بحياته.
وأمَّا الخيار الرابع للمريض -حينما لا يطمئنُ بتشخيص طبيبه الذي رجع إليه- فهو الرجوع إلى طبيبٍ آخر، ومقتضى التعقُّل هو أنْ يختار للمراجعة طبيباً مساوياً للطبيب الأول في العلم والمهارة أو طبيباً يكون أعلى مستوىً من الأول.
وحينئذٍ نقول ماذا لو تطابق تشخيصُ الطبيب الثاني مع تشخيص الأول وهكذا تطابق تشخيصُ الثالث والرابع والخامس وعامَّة الأطباء الذين راجعهم مع تشخيص الطبيب الأول، ألن يكون ذلك موجباً لحصول الاطمئنان بصحَّة تشخيصهم؟
لا يختلفُ العقلاء في أنَّ ذلك موجبٌ لحصول الاطمئنان وأنَّ عدم حصول الاطمئنان -رغم توافق عامَّة الأطباء أو معظمهم- لا يتَّفق إلا لغير الأسوياء من الناس المبتلين ببعض العاهات النفسيَّة.
الخيارات في فرض عدم الاطمئنان بالفتوى:
وإذا أردنا أن نُسقِط هذا المثال على المكلَّف حينما لا يحصلُ له الاطمئنان بفتوى الفقيه الذي رجع عليه، فهو كذلك أمام خياراتٍ أربعة، فإمَّا أنْ يعتمد رأيه الشخصي رغم جهله بالأحكام الشرعيَّة ومداركها ووسائل الوصول للنتائج الشرعيَّة، واعتمادُ هذا الخيار لا يصدرُ إلا عن رجلٍ غير مُبالٍ بالدين ولا يهمُّه الإبراء لذمَّته والخروج عن عهدة التكليف، فهو قد ادَّعى -بحسب الفرض- أنَّه لم يطمئن إلى فتوى الفقيه المتخصِّص ثم لجأ إلى رأيه الشخصي رغم جهله بالأحكام ومداركِها، فكيف اطمئن إلى رأيه الشخصي؟! فمثلُه إمَّا أنْ يكون غير مُبالٍ بالدين أو يكون سفيهاً يعتمدُ رأيه في شأنٍ لا علمَ له به، ولا يملكُ أدوات الوصول إليه.
والخيار الثاني: هو أنْ يعتمد رأي عوامِّ الناس ممَّن لا شأن لهم بالعلوم الشرعيَّة، وهذا الخيار كالخيار الأول لا يصدرُ إلا عن رجلٍ غير مبالٍ بالدين يزعم أنَّه لا يطمئن لفتوى الفقيه العادل الجامع للشرائط ثم هو يطمئن إلى رأي مَن لا شأن لهم بالعلوم الدينيَّة، وإذا كان حقَّا يطمئن إلى أراء الجاهلين بالشريعة فهو بنظر العقلاء سفيه، إذ أنَّ رجوع الجاهل للجاهل والاطمئنان لرأيه لا يصدرُ ممَّن له حظٌّ يسير من التعقُّل.
وأمَّا الخيار الثالث: وهو أن يُهمل الوظيفة الشرعيَّة مِن رأس، فرغم أنَّه يُقِرُّ بالإسلام ديناً ويعلم أنَّ عليه وظائف وتكاليف يجب الالتزام بها ويجب عليه تعلُّمها ليُتاح له الالتزام بها، فرغم أنَّه يعلم بكلِّ ذلك ويُقرُّ به لكنَّه اختار الإهمال للعمل بوظائفه الشرعيَّة، فهو فاسقٌ متجاوزٌ لحدود الله تعالى. فينبغي أن يكون مثله خارجاً عن محلِّ البحث.
وأمَّا الخيار الرابع: فهو حين لا يطمئن إلى فتوى الفقيه الذي رجع إليه يرجع إلى فقيهٍ آخر، ومقتضى التعقُّل أن يكون مساوياً للفقيه الأول أو أعلم منه، فلو وجد فتواه مطابقة للفقيه الأول وهكذا الثالث والرابع والخامس بل وجد فتواه مطابقة لفتوى عامَّة الفقهاء أو معظمهم فإنَّه حينئذٍ سيحصلُ له الاطمئنان بصحَّة الفتوى التي توافَق عليها عامَّةُ الفقهاء أو معظمهم، ولو ادَّعى عدم حصول الاطمئنان له رغم توافق أهل الاختصاص أو معظمهم على أنَّ ذلك هو حكم الله تعالى فهو إمَّا أنْ يكون مكابراً أو لا يكون سويَّاً، ولهذا فإنَّ عامَّة العقلاء في هذا الفرض يطمئنون بصحَّة الفتوى المتوافَق عليها من ذوي الاختصاص.
المسائل المتوافَق عليها ليست تقليديَّة:
ومِن هنا لا تكون المسائل الشرعيَّة التي هي موردُ وفاقٍ بين الفقهاء تقليديَّة بمعنى أنَّ المكلَف يجبُ عليه العمل بهذه المسائل دون الرجوع إلى فقيهٍ بعينه، وهذا هو معنى قول الفقهاء أنَّ التقليد إنَّما هو في المسائل الخلافية دون المسائل المتوافَق عليها، ولذلك لو رد أحدٌ على شيءٍ من المسائل المتوافَق على أنَّها من الدين فهو لا يردُّ على فتوى الفقيه وإنَّما يردُّ على الدين، فليس له أنْ يقول أنَّ التقليد ليس تعبديَّاً فإنَّ المسائل المتوافَق عليها ليست تقليديَّة، وذلك للاطمئنان بأنَّها من الدين فيجب التعبُّد بها لوجوب التعبد بالدين والتسليم بأحكامه.
وببيانٍ آخر: لو ادَّعى عدم الاطمئنان بالفتوى المتوافق عليها فليس له إلا أنْ يعتمد أحد الخيارات الثلاثة، فإما أنْ يعتمد رأيه الشخصي رغم جهله بالأحكام الشرعية ومداركها أو يعتمد رأيَ عوامِّ الناس فيكون من رجوع الجاهل إلى الجاهل أو يُهمل الوظيفة الشرعية فيكون فاسقاً، وأمَّا الخيار الرابع وهو الرجوع إلى فقيهٍ آخر فالمفترض أنَّ جميع الفقهاء متوافقون على فتوىً واحدة، فالرجوع للثاني كالرجوع للأول والثالث والرابع وهكذا، ومن هنا يتَّضح أنَّ التقليد لا يكون في المسائل المتوافق عليها.
التقليد في المسائل الخلافيَّة وهي محدودة:
وبهذا يتَّضح أنَّ المسائل المتوافق عليها خارجة عن محلِّ البحث لأنَّها ليست تقليديَّة فيتمحَّض البحث في المسائل الخلافيَّة، وهي محدودةٌ جدَّاً بالقياس للمسائل المتوافَق عليها، ثم إذا استثنينا المسائل الخلافيَّة في العبادات كالخلاف في بعض موارد وجوب سجدتي السهو، وأحكام الشكوك في الصلاة والطواف، وسائر أحكام الخلل في الصلاة والطواف والسعي والرمي والمبيت بمنى، ونواقض الوضوء والغسل، ومفطِّرات الصائم وغيرها من فروع المسائل التي يحصل خلافٌ في بعضها إذا استثنينا هذه المسائل، إذ لا نظر لصاحب الإشكال إليها ولا موجب لدى المكلَّف للتوقُّف عندها فإنَّ المسائل الخلافيَّة سوف تضيقُ أكثر ممَّا هي عليه من الضيق والمحدوديّة، وسوف يتمحَّض البحث في بعض فروع المعاملات من العقود والايقاعات والضمان والعقوبات والأطعمة والأشربة وبعض فروع العبادات الماليَّة كبعض فروع الخمس، وأمَّا أصول هذه الفروع وأمَّهات مسائلها فهي متوافَقٌ عليها، والردُّ عليها ليس ردَّاً لفتوى الفقيه وإنَّما هو ردٌّ على الدين للاطمئنان بكونها من الدين.
المكلَّف العامِّي في المسائل الخلافيَّة أمام عددٍ من الخيارات:
فالبحث إذن متمحِّضٌ في المسائل الخلافيَّة، فهي التي تكون مورداً للتقليد والمكلَّف غير المتخصِّص يكون معها أمام عددٍ من الخيارات، فإمَّا أنْ يعتمد رأيه الشخصي أو يعتمد رأي عوامِّ الناس أو يُهمل الوظيفة الشرعية التي يعلم إجمالاً بثبوتها في ذمَّته ولكنَّه يجهل بتشخيصها، وهذه الخيارات الثلاثة ساقطة كما اتَّضح ممَّا تقدَّم، فليس أمامه إلا أنَّ يقلِّد في هذه المسألة الخلافيَّة هذا الفقيه أو ذاك، فيكون تقليدُه من رجوع الجاهل للعالم الخبير، وهو بذلك يكون قد سلكَ طريق العقلاء، فهم يلجئون في مختلف شؤونهم لأهل الاختصاص إذا لم يكونوا من أهل ذلك الاختصاص.
وإذا لم يحصل لهذا المكلَّف الاطمئنان بفتوى الفقيه وقبلنا بدعوى أنَّه ليس للمكلَّف الاعتماد على فتوى الفقيه دون الاطمئنان بصحَّتها فهو أمام خيارين، فإمَّا أنْ يحتاط فيأتي بالفعل الذي يحتمل وجوبَه، ويترك الفعل الذي يحتملُ حرمته، ويجمع بين أطراف العلم الإجمالي، فإذا شكَّ أنَّ وظيفته القصر أو التمام جاء بصلاتين إحداهما قصراً والأخرى تماماً ليُحرِز بذلك الخروج عن عهدة التكليف، وإذا شكَّ في صحَّة معاملةٍ لم يُقدِمْ عليها، وإذا شكَّ في اعتبار شرطٍ في صحَّة معاملة حرص على إيجاده، وإذا شكَّ في مانعيَّة مانعٍ للصحَّة لم يفعله وهكذا، فالخيارُ الأول حين عدم الاطمئنان بفتوى الفقيه هو الاحتياط وهو خيارٌ راجح بل هو أفضلُ من التقليد.
وأمَّا الخيار الثاني فهو الرجوع لفقيهٍ آخر يحصلُ له الاطمئنان بصحَّة فتواه، ولا محذور في ذلك، ولكنَّ السؤال كيف سيحصلُ له الاطمئنان والذي هو العلم العادي بصحَّة فتوى هذا الفقيه أو ذاك والحال أنَّ الفقهاء وهم أهلُ الاختصاص مختلفون فيما بينهم وهو ليس منهم، فمِن أين سيُتاح له تحصيل الاطمئنان؟! فلو عُرضت حالة مرضيَّة على خمسةٍ من الأطباء الحاذقين فأعطى كلُّ طبيبٍ تشخيصاً مختلفاً عن تشخيص الطبيب الآخر فهل يُتاح في مثل هذا الفرض لغير المختص تحصيل الاطمئنان؟!
نعم يمكن القبول بحصول الاطمئنان لدى المكلَّف غير المختص لو فُرض أنَّ أحد الفقهاء المختلفين هو الأعلم من بينهم على الإطلاق أو يُفترض اتِّفاق عددٍ منهم على فتوى واختلاف الباقي فيحصل الاطمئنان لدى العامي بفتوى المتَّفقين، وفي مثل هذين الفرضين لا محذور من القبول بصحَّة رجوع المكلَّف لفتوى من حصل له الاطمئنان بصحة فتواه أو فتواهم، فهو في المنتهى قد رجع إلى حجَّةٍ شرعيَّة، فلم يعتمد رأيه الشخصي ولا رأي عوامِّ الناس كما أنَّه لم يُهمِل الوظيفة الشرعية.
ماذا لو لم يحصل الاطمئنان في المسألة الخلافيَّة:
ولكن ماذا لو لم يحصل له الاطمئنان هل يسوغ له الاعتماد على رأيه الشخصي أو رأي غير المختص أو هل يسوغ له إهمال الوظيفة الشرعيَّة من رأس؟! إنَّ المتعيَّن عليه في هذا الفرض خيارٌ واحد لا ثانيَ له وهو الاحتياط. ولو تجاوز هذا الخيار فلم يعتمد طريق الاحتياط فإما أنَّه سيرجع إلى فتوى أحد الفقهاء المختلفين رغم أنَّه غير مطمئن بصحة فتواه، وإذا لم يرجع إلى أحد الفقهاء المختلفين ولم يسلك طريق الاحتياط فإنَّه لا محالة سيقع في أحد الخيارات الثلاثة.
فإما أنَّه سيعمل برأيه الشخصي ومثله لا يخلو إمَّا أنْ يكون سفيهاً أو لا يكون صادقاً في تديُّنه، فهو في الوقت الذي يزعم أنَّه لم يحصل له الاطمئنان بفتوى أحد الفقهاء فإنَّه يعتمد على رأيه رغم أنَّه يجهل بالأحكام الشرعيَّة ويجهل بأدوات الوصول إليها. فكيف سيحصل له الاطمئنان بالحكم الشرعي إلا أنْ يكون اطمئناناً كاذباً ناشئاً عن أهواءِ النفس وتسويلات الشيطان ومثل هذا الاطمئنان لا اعتبار به، لأنَّ الاطمئنان الذي ثبتتْ له الحجيَّة هو الاطمئنان الناتج عن مناشئ ومبرِّرات عقلائية، فحتى العقلاء لا يرون لمدَّعي الاطمئنان الناشئ عن مناشئ جزافيَّة عذراً.
وهكذا هو الشأن لو اختار الاعتماد على غير المختصِّين فإنَّه لا يخلو إمَّا أنْ يكون سفيهاً يعتمد في أحكام الدين رأيَ من لا شأن لهم بعلوم الدين، فهو كمن طلب رأي الفلاحين في مسألة من مسائل الفيزياء أو الفلسفة، فهو إمَّا أن يكون سفيهاً أو لا يكون صادقاً في تديُّنه، إذ كيف يكون صادقاً ويحرص على الخروج عن عهدة التكليف وهو يبحث عن حكم الله في حقِّه عند مَن لا شأن لهم بعلوم الدين.
وأمَّا الخيار الثالث وهو إهمال الوظيفة الشرعية من رأس فهو خيار لا يسلكه إلا فاسق متجاوزٌ لحدود الله تعالى، إذن ليس أمام المكلَّف غير المتخصِّص إذا لم يحصل له الاطمئنان بفتوى الفقيه في المسألة الخلافية سوى الاحتياط بناء على لزوم الاطمئنان بصحَّة الفتوى.
منشأ حصول الاطئنان وعدمه لدى المكلَّف العامي:
بقي في المقام تساؤلٌ عن منشأ عدم حصول الاطمئنان لدى المكلَّف العامِّي من فتوى هذا الفقيه وحصول الاطمئنان له من فتوى الفقيه الآخر، فهل نشأ عدم اطمئنانه لفتوى الأول واطمئنانه لفتوى الثاني هل نشأ ذلك من ملاحظة أدلَّة الفقيهين وترجيحه أدلَّة الفقيه الثاني على أدلَّة الفقيه الأول كيف والفرض أنَّه عاميٌّ لا شأن له ولا علم له بالأدلَّة الشرعيَّة؟! نعم يتَّفق ذلك للمشتغلين بالعلوم الشرعيَّة والذين قضوا ردحاً من الزمن في دراسة أدلَّة الأحكام الشرعية، وأمَّا المكلَّف غير المختص بالعلوم الشرعية فإنَّه لا يكون قادراً على الفهم التفصيلى والدقيق للأدلَّة الشرعيَّة فضلاً عن القدرة على الترجيح بينها.
ولهذا فمنشأُ حصول الاطمئنان بفتوى هذا الفقيه وعدم حصول الاطمئنان بفتوى الفقيه الآخر هو الاستحسان والذوق الشخصي أو الجمعي أو يكون منشأه الأهواء يُغلِّفها بعناوين يُقنِع بها نفسَه أو يسعى بها لإقناع الآخرين، فلو أنَّه تواضع صادقاً وترك الاعتداد بنفسه لأذعن بأنَّه لا يليق بالعاقل أنْ يلِجَ في أمرٍ لا خبرة له فيه، فهو ينتقص من نفسه حين يتقمَّص موقعاً دون أهليَّة، والخشية أنَّ باعثه لذلك هو عدم الاقتناع بالحكم الشرعي ولكنَّه يتحاشى التصريح بذلك للآخرين أو حتى لنفسه، فليراقب المؤمن ربَّه وليحذر من نفسه قبل أنْ تُورده موارد الهلكة.
اطمئنان العامِّي وعدمه لا ينشأ عن ملاحظة الأدلَّة الشرعيَّة:
إنَّ فتاوى الفقهاء ليست خاضعة للاستحسانات والأذواق التي تتحكَّم فيها الأهواء، إنَّ فتاوى الفقهاء العدول تخضعُ محضاً للأدلَّة الشرعية التي يتوقَّف تحريرها على العديد من المقدِّمات والأداوت، وهو ما يقتضي لزوم الاتقان لها بمستوى الملكة، نعم قد يُخطِأ هذا الفقيه أو ذاك في هذه المسألة أو تلك رغم استفراغه الوسع في استكشاف واستنباط الحكم الشرعي من أدلَّته، فهو يُخطأ لغفلته عمَّا له دخلٌ في استنباط هذا الحكم الشرعي أو لأيِّ منشأ آخر يتَّصل باستظهاره للنصِّ الشرعي أو يتَّصل بسنده، فقد يُخطِأ ويصيبُ الآخر إلا أنَّه ليس في وسْع المكلَّف العامِّي تمييز المُخطئ من المُصيب، فحصول الاطمئنان له بصحَّة فتوى الأول دون الثاني أو العكس لن ينشأ عن ملاحظة الأدلة الشرعية وأدوات الوصول إليها لأنَّه لا يُحسِن ذلك لكونه من غير أهل الاختصاص بالعلوم الشرعية، ولذلك يتمحَّض منشأ الاطمئنان وعدمِه عنده فيما يستحسنه ويستذوقه، وهذا ما لا يصحُّ تمييز الفتوى على أساسه ولأنَّ الأحكام الشرعية ليست خاضعة للاستحسان والذوق.
حصول الاطمئنان بالفتوى من أدلَّتها غير مُتاح للعامي:
ولذلك فدعوى ابتناء تقليد العامِّي على الاطمئنان بصحَّة فتوى الفقيه لا تعدو الكلام النظري الذي لا يُتاح للعامِّي تحصيله إلا على أُسسٍ لا ربطَ لها بالأدلَّة الشرعية وأدوات الوصول للأحكام الشرعيَّة، نعم يُمكن القبول بلزوم حصول الاطمئنان مِن توافق المشهور أو الأكثر على الفتوى أو حصول الاطمئنان باعتبار أنَّ صاحب الفتوى هو الأعلم من بين الفقهاء، وأمَّا حصول الاطمئنان من طريق ملاحظة أدلة الفتاوى فهذا ما لا يتاح للمكلَّف العامي تحصيله.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
28 / جمادى الأولى / 1443هـ
2 / يناير / 2022م