يُمثلُ كتابُ (نهج البلاغة) مساحةً هامةً من التراث الواصل إلينا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وذلك بالالتفات إلى أمور:
1/ قِدَمُ الكتابِ وكونُه أحد المصادر الأصلية، فقد أُلف كتاب النهج في النصف الثاني من القرن الرابع أو في أوائل القرن الخامس للهجرة[1]، مما يعطي له قيمة لا توجد في الكتب المتأخرة كما هو مقتضى الصناعة في علم الحديث، إضافة لجلالةِ قدر مؤلفه وهو الشريف الرضي (رحمه الله)[2] وتضلعه في عدة علوم كما جاء في ترجماته بل كما هو أوضح من أن يخفى.
2/ أهمية الشخصية التي صدرتْ عنها نصوص الكتاب وموقعيتها الكبرى في الإسلام وهي شخصية علي (عليه السلام)، فقد كان ملاصقاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مُذ بعث وإلى أن اختاره الله تعالى، أضف إلى ذلك فإنه (عليه السلام) كان حاضراً في كل مواقع الصراع من أجل دين الله أبان مراحل الإسلام الأولى التي كان لها دور مصيري في تحديد مستقبل الدعوة، فهو الذي آزر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوته وهو الذي بات على فراشه وفداه بنفسه وهو الذي صعد على منكبيه الشريفين وكسر الأصنام بأمره وهو الذي أظهر فتوةً لا نظير لها في بدر وأحد وحنين وخيبر وفتح مكة وغيرها من الحروب المصيرية في تاريخ الإسلام، حتى إذا تسلم زمام الخلافة رسم أروع صور العدالة مما هو محل افتخار كل مسلم.
3/ المضامينُ الرفيعة والمتنوعة التي تناولتها نصوص نهج البلاغة، فقد تحدث الأمير (عليه السلام) في النهج عن العقيدة الإسلامية كما في الخطبة التي ذكر فيها ابتداء خلق السماوات والأرض والخطبة التي وصف فيها الله تبارك وتعالى، وتحدث أيضا عن السلوك وتهذيب النفس كما في خطبته التي عدد فيها صفات المتقين وخطبته في الترغيب في الطاعة والتحذير من الموت، وتحدث أيضا في غير واحدة من الخطب عن سيرة نبي الأمة (صلى الله عليه وآله وسلم)، إضافة لخطبه التي ألقاها في فترة خلافته وقبلها في التعليق على حدث هنا أو موقف هناك ورسائله التي كان يبعثها لعماله على الأمصار ولشخصيات إسلامية معينة يمارس من خلالها التوجيه تارة واللوم على التقصير أخرى.
فبالنظر إلى ما تقدم كانت لكتاب (نهج البلاغة) قيمته الكبرى في التراث الإسلامي عموما وتراث أمير المؤمنين (عليه السلام) خصوصا، حتى أولى علماء الإسلام على تعدد مدارسهم في الأصول والفروع اهتماما بالغا بالكتاب تكشف عنه استشهاداتهم واقتباساتهم من نصوصه، وتكشف عنه كذلك الشروح والدراسات المتعددة التي سعت للوقوف على ما فيه من معارف جمة، حيث أحصى الشيخ آغا بزرگ الطهراني في كتابه (الذريعة) أكثر من مائة وخمسين شرحا للنهج.
وقد تباينت شروح النهج عن بعضها في جهتين:
1/ نمط العرض: فبعض الشراح انتهج طريقة العرض الموضوعي فقسَّم شرحه إلى أقسام عدة عين لكل منها موضوعا أو وصفا معينا تقصى شتاته من كل نصوص النهج على تعددها أو تباعدها عن بعضها، ومن الشروح التي كُتب على هذا النمط شرح العلامة الشيخ محمد تقي التستري (رحمه الله) الموسوم بـ(نهج الصباغة في شرح نهج البلاغة)، والبعض الآخر من الشراح وهم الأكثر انتهج طريقة العرض الترتيبي فَشَرَحَ نصوص الكتاب كما رتبها الشريف الرضي (رحمه الله)، ومن الشروح التي كتب على هذا النمط شرح العلامة الشيخ محمد جواد مغنية (رحمه الله) الموسوم بـ(في ظلال نهج البلاغة) وشرح المرجع الديني المعاصر آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي (دام ظله) الموسوم بـ(نفحات الولاية).
2/ طريقة الاستفادة: فقد انعكست مشارب عدد من شراح النهج وخلفياتهم العلمية على شروحهم، فجاء مثلا شرح ابن أبي الحديد المعتزلي والذي كان عالما بالتاريخ والأدب مليئا بالأبحاث التاريخية والنكات اللغوية، وجاء شرح الشيخ الأجل كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (رحمه الله) والذي كان متكلما فيلسوفا غنيا بالمفاهيم الكلامية والفلسفية.
صادق القطان
٢٠ أبريل ٢٠٢٢م
...........................................
[1] - جاء في كتاب (دراسة حول نهج البلاغة) لمحمد حسين الجلالي أن ولادة الشريف الرضي كانت في عام ٣٥٦ هـ ووفاته في عام ٤٠٦ هـ.
[2] - نقل السيد الخوئي (قده) في موسوعة (معجم رجال الحديث) كلمات نخبة من المتقدمين من علماء الرجال والتراجم في حق الشريف الرضي وعلو شأنه.