قال المحدث البحراني في حدائقه:
"المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه لا يجوز السجود اختيارا إلا على الأرض أو ما أنبتت مما لا يؤكل ولا يلبس عادة، ولم يستثنوا من هذه القاعدة إلا القرطاس، ونقل عن المرتضى في المسائل الموصلية كراهة السجود على ثياب القطن والكتان وفي المصباح وافق الأصحاب"[1].
والنصوص متكثرة المعنى في حصر المسجود عليه بالأرض وما أنبتت، منها: ما عن هشام بن الحكم في الصحيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال له:
"أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز؟ قال: السجود لا يجوز إلا على الأرض أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس".
وروى الصدوق في كتاب العلل بسنده عن هشام بن الحكم قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أخبرني عما يجوز السجود عليه وعما لا يجوز؟ قال السجود لا يجوز إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس. فقلت له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟ قال: لأن السجود هو الخضوع لله عز وجل فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس؛ لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عز وجل فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها، والسجود على الأرض أفضل لأنه أبلغ في التواضع والخضوع لله عز وجل".
إلى غيرها من الأخبار النصية.
ولا بد من تقديم الكلام عن حكم السجود عما قيل باستثنائه كالقطن والكتان والورق.
[عدم إجزاء السجود على القطن والكتان وما يلبس من النبات]
ففي خبر الأعمش عن الصادق (عليه السلام) قال: "لا يسجد إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلا المأكول والقطن والكتان".
ومن الأخبار الخالية عن ذكر المأكول ما عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد، والحسين بن سعيد جميعا، عن القاسم بن عروة، عن أبي العباس الفضل بن عبد الملك قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): "لا يسجد إلا على الأرض أو ما أنبتت الأرض إلا القطن والكتان".
وكونها مع غيرها نصا في الحصر لا ينكر، وهي محكمة.
وخرج عن عدم جواز السجود عليها ما كان في حال الاضطرار والتقية، كرواية علي بن جعفر في كتابه والحميري في قرب الإسناد عنه عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: "سألته عن الرجل يؤذيه حر الأرض في الصلاة ولا يقدر على السجود هل يصلح له أن يضع ثوبه إذا كان قطنا أو كتانا؟ قال إذا كان مضطرا فليفعل".
وما رواه الشيخ بسنده عن أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن المثنى الحناط عن عيينة بياع القصب قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أدخل المسجد في اليوم الشديد الحر فأكره أن أصلي على الحصى فابسط ثوبي فاسجد عليه؟ فقال: نعم، ليس به بأس". وهو محمول على الحر الذي يمنع عن السجود، لا مطلق العسر.
لكن رواية عيينة عن الصادق (عليه السلام) بلا واسطة نادرة، وشبيهة بها ما رواه الشيخ رحمه الله عن عيينة بياع القصب عن إبراهيم بن ميمون قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: نخرج إلى الأهواز في السفن فنجمع فيها الصلاة؟ قال: نعم ليس به بأس، قلت: ونسجد على ما فيها وعلى القير؟ قال: لا بأس". وهو محمول على التقية كما هو واضح.
نعم في النصوص ما لم يعلق فيه الجواز على حال كالاضطرار أو شرط كالتقية، كصريح رواية الشيخ عن داود الصرمي قال: "سألت أبا الحسن الثالث (عليه السلام) هل يجوز السجود على الكتان والقطن من غير تقية؟ فقال جائز".
وداود الصرمي له كتاب مسائل في الصلاة معروف، نقل عنه ابن إدريس في مستطرفاته.
وهو الذي روى في مسائله تلك عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أنه قال له: "يا داود لو قلت لك إنّ تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا". على ما رواه ابن إدريس في مستطرفاته.
وكذا روى ابن شعبة في تحف العقول في قصارى كلمات أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، قال: "وقال داود الصرمي: أمرني سيدي بحوائج كثيرة، فقال (عليه السلام) لي: قل: كيف تقول؟ فلم أحفظ مثل ما قال لي، فمد الدواة وكتب بسم الله الرحمن الرحيم أذكره إن شاء الله والأمر بيد الله، فتبسمت، فقال (عليه السلام): مالك؟ قلت: خير، فقال: أخبرني؟ قلت: جعلت فداك ذكرت حديثا حدثني به رجل من أصحابنا عن جدك الرضا (عليه السلام) إذا أمر بحاجة كتب بسم الله الرحمن الرحيم أذكر إن شاء الله، فتبسمت، فقال (عليه السلام) لي: يا داود ولو قلت: إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا".
وفي مروياته ما هو واضح في التقية كقوله: "كنت عند أبي الحسن الثالث (عليه السلام) يوما فجلس يحدث حتى غابت الشمس، ثم دعا بشمع وهو جالس يتحدث، فلما خرجت من البيت نظرت وقد غاب الشفق قبل أن يصلي المغرب، ثم دعا بالماء فتوضأ وصلى"، الموافق للخطابية، ولا ضرورة تستدعي التأخير، فحملت على التقية.
وأوضح منها روايته: "سأل الرجل أبا الحسن الثالث (عليه السلام) عن الصلاة في الخز يغش بوبر الأرانب، فكتب: يجوز ذلك".
قال الصدوق في الفقيه: "وهذه رخصة الآخذ بها مأجور ورادها مأثوم والأصل ما ذكره أبي (رحمه الله) في رسالته إلي: وصل في الخز ما لم يكن مغشوشا بوبر الأرانب، وقال فيها: ولا تصل في ديباج ولا حرير ولا وشي ولا في شيء من إبريسم محض إلا أيكون ثوبا سداه إبريسم ولحمته قطن أو كتان". بناء على التخيير، وقد يعرف من مسلكه (رحمه الله) قلة الحمل على التقية.
ولا نقول أن هذا يسري لكل مروياته القليلة في عددها، لكنه مما يؤيد احتمال التقية فيها، ولا يحقق الوثوق بمضمونها.
وكذا ما رواه الشيخ بسنده عن عبد الله بن جعفر، عن الحسين بن علي بن كيسان الصنعاني قال: "كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أسأله عن السجود على القطن والكتان من غير تقية ولا ضرورة، فكتب إلي: ذلك جائز".
ذهب السيد الخوئي في معجمه إلى اتحاد الحسين بن علي بن كيسان –وهو ممن روى عن الكاظم (عليه السلام)- مع الحسن بن علي بن كيسان؛ لرواية عبد الله بن جعفر عنه ولروايته عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، ولا وجود لرواية أخرى يرويها الحسين إلا هذه، وهو قريب جدا.
وجمع الشيخ تلك الروايات المجيزة عند الضرورة والتقية مع هذه بقوله:
"لأنه يجوز أن يكون إنما أجاز مع نفي ضرورة تبلغ هلاك النفس، وإن كان هناك ضرورة دون ذلك من حر أو برد وما أشبه ذلك على ما بيناه"، لكن فيه تكلف ظاهر وتقدير كثير لا معين له، والصحيح الحمل على التقية، أو أنها وما سبقها مما شذت روايته ورواته، وهو متروك لما اشتهر واعتضد بعضه ببعض.
وأما ما رواه الشيخ عن ياسر الخادم قال: "مر بي أبو الحسن (عليه السلام) وأنا أصلي على الطبري وقد ألقيت عليه شيئا أسجد عليه، فقال لي: ما لك لا تسجد عليه أليس هو من نبات الأرض؟".
قال الطريحي لعل الطبري هو الكتان المنسوب لطبرسان، وقال النوري هو الحصير المسنوج في طبرستان، والأول أرجح ولعله مصحف خيبري، وحمله الشيخ على التقية، فيوافقه التفسير الأول، وعلى أي حال فهو مجمل المعنى في الخبر، وراويه ليس من المعروفين بالضبط في الرواية، عدا أنه شاذ محتمل للتقية كسابقه.
لكن يؤيده ما رواه الحسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) مرسلا عن الصادق (عليه السلام) – في حديث – قال: "وكل شيء يكون غذاء الإنسان في مطعمه أو مشربه أو ملبسة فلا تجوز الصلاة عليه ولا السجود إلا ما كان من نبات الأرض من غير ثمر، قبل أن يصير مغزولا، فإذا صار غزلا فلا تجوز الصلاة عليه إلا في حال ضرورة".
إلا أن هذا الكتاب لم يتضح حال مصنفه وحاله على وجه بين، وما أميل إليه وأقويه أنه من تصانيف بعض المتأخرين زمانا عن مشايخ الحديث المعروفين، وقد احتوى -على ما صرح به- على غريب الأخبار وما لم يذكر في المصنفات المعروفة، كمن يستدرك على ما ذكروه من مصادر وصلته، وهذا أمارة الضعف خاصة مع إرسال أخبار الكتاب، وأنت إن تتبعت أخباره وجدت بعضها رويت في المصادر الأخر وبعضها شاذ مضمونا وكثير منها تفرد بها صاحب الكتاب، كما أن أخباره الطوال فيها من صياغة الألفاظ ما لم يعتد من الأئمة (عليهم السلام) شبيهة بلغة الفقهاء من بعد القرن الرابع، وهذا يدركه المتتبع، وقد صرح في مقدمة كتابه بأنه وجد ما اعتقد غفلة المشايخ عنه أو عدم وصوله لهم، ويحتمل راجحا أنه بعض كتب النميرية الخصيبية، إذ طالما اعتمدوا عليه وقدموه على بقية الكتب، وأهمل بين أصحابنا ولم يعرف له أثر حتى السنين المتأخرة، ووقع ابن شعبة في بعض كتبهم المعروفة.
وعلى أي حال، فأخبار الكتاب ومنها هذا الخبر تصلح شاهدا ومؤيدا وقد تستقل إذا اقترنت بقرائن الصحة والوثوق، والنتيجة من هذه الرواية جواز السجود على القطن والكتان من نبات الأرض قبل غزله، وهي كما ترى كسابقاتها محتملة للتقية ضعيفة المصدر.
فلا يجوز السجود إلا على الأرض وما أنبتت من غير المأكول ولا الملبوس، وهو الذي نصت عليه صحيحة هشام أول البحث، وقلنا أنها من المحكمات.
[عدم استثناء القرطاس مما لا يصح السجود عليه]
روى الشيخ رحمه الله بسنده عن صفوان الجمال قال: رأيت أبا عبد الله (عليه السلام) في المحمل يسجد على القرطاس وأكثر ذلك يومي إيماء.
ورواه البرقي في (المحاسن) عن علي بن الحكم عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، مثله.
وهو محمول على الضرورة بقرينة الإيماء وكونه في المحمل الذي يصعب السجود فيه، ولا إطلاق لمجرد الفعل في الجواز.
وفي الفقيه بإسناده قال: "وسأل داوود بن أبي يزيد أبا الحسن الثالث (عليه السلام) عن القراطيس والكواغذ المكتوبة عليها، هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب: يجوز.
وأخذها عنه -بعينها وما قبلها وما بعدها بالترتيب واللفظ الذي في الفقيه- الشيخ في التهذيب في باب ما يجوز الصلاة فيه، ورواها مثلها في باب كيفية الصلاة وصفتها بسنده عن "أحمد بن محمد عن علي بن مهزيار قال: سأل داوود بن يزيد أبا الحسن (عليه السلام)" الحديث.
لكنه رواها في الاستبصار في باب السجود على القرطاس بسنده عن "علي بن مهزيار قال: سأل داوود بن فرقد أبا الحسن (عليه السلام)" الحديث، وهو توهم من الشيخ أو من النساخ، والصحيح داود بن يزيد؛ لأن ابن فرقد لم يدرك زمان الهادي (عليه السلام) بحسب العادة في الأعمار وما وصل من أسانيد الأخبار.
وبإسناده عن علي بن مهزيار قال: سأل داود بن فرقد أبا الحسن (عليه السلام) عن القراطيس والكواغذ المكتوبة عليها، هل يجوز السجود عليها أم لا؟ فكتب: يجوز.
وبإسناده عن أحمد بن محمد، عن علي بن مهزيار، مثله، وبإسناده عن داود بن يزيد، مثله. ورواه الصدوق بإسناده عن داود بن أبي يزيد، عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام)، مثله.
ولا معين في الرواية أن هذه القراطيس متخذة من أي شيء، وهل عولجت حتى خرجت عن حقيقة ما أنبتت الأرض، فلا يمكن التمسك بإطلاق لفظ القرطاس بعد الشك في ماهيته ومفهومه، والمتيقن منه هو ما كان يتخذ من البردى وورق الأشجار المضغوط كالقنب في تلك الأزمنة.
ومثل دلالته ما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن جميل بن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام): "أنه كره أن يسجد على قرطاس عليه كتابة".
ورواه الكليني عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد.
وفي كونها أجوبة لمسائل لا بدارا من الإمام في البيان إشعار قوي أن حكم الورق ليس استثناء من حصر جواز السجود على الأرض وما أنبتت من غير المأكول والملبوس.
وأما ما ذكره صاحب الحدائق (رحمه الله) من خروج الورق عن عنوان الأرض أو ما أنبتت خروجا تخصصيا، وأنه استثناء من حكم ما يجوز السجود عليه، ففيه ما ذكرنا، إضافة لكون التغير في صورته النباتية لا يوجب خروج مادته عنها خاصة إذا لم تكن المعالجة مغيرة له، كما أنه لا دلالة في الأخبار السابقة على التعبد بمسمى الورق ولا موضوعية له.
نعم لو كان مراده (رحمه الله) أن له حقيقة أخرى بعد معالجته، وهو الذي كان في نفس الشهيد الأول منه شيء، حيث قال في الذكرى:
"وفي النفس من القرطاس شيء، من حيث اشتماله على النورة المستحيلة، إلا أن نقول: الغالب جوهر القرطاس، أو نقول: جمود النورة يرد إليها اسم الأرض".
ثم فرع فقال: "الأكثر اتخاذ القرطاس من القنب، فلو اتخذ من الإبريسم فالظاهر المنع، إلا أن يقال: ما اشتمل عليه من أخلاط النورة مجوز له، وفيه بعد، لاستحالتها عن اسم الأرض. ولو اتخذ من القطن أو الكتان، أمكن بناؤه على جواز السجود عليهما، وقد سلف. وأمكن أن [كان] المانع اللبس، حملا للقطن والكتان المطلقين على لبسه، وعليه يخرج جواز السجود على ما لم يصلح للبس من القطن والكتان" انتهى.
وحق له (رحمه الله) أن يكون في نفسه شيء، بل أن يجزم بعدم الجواز لخروجه بالمعالجة –كإضافة النورة وغيرها للنبات- أو بما اتخذ منه –كالقطن والكتان، بل القماش من غيرها- عن مسمى الأرض أو ما أنبتت، وحاله حال الزجاج المعالج بإضافة غيره من معادن الأرض فيخرج عن مسمى الأرض بعدها؛ فإن المعروف أن صناعة الورق من حين اختراعه حتى مراحل تطور صنعته الحديثة قد مر بمراحل كثيرة، وكان اختراعه على يد الصينين سنة 105 للميلاد تاريخا فاصلا في صناعته، انتقلوا به من الكتابة على الحرير والقصب إلى الورق المعالج بمواد مجموعة مختلفة، ثم انتقلت الصنعة للعرب في زمن هارون حيث منع الناس من الكتابة على غيرها، واتخذت سمرقند الصدارة في صنعتها من بعض أهل الصين الأسرى كما قيل، ثم إلى غيرها من البلاد حتى تصدرت أوربا في القرون الأخيرة صناعته، وتطورت فصار الورق يتخذ من لحاء الشجر ولبه ويعالج بمواد كثيرة منها النورة والصمغ وغيرها، وقد يصنع من القماش كما في الورق اللماع المصقول، ولا يشك أن بينه الآن وبين الطريقة الأولى بونا شاسعا جدا من حيث التركيب، وتكفي مراجعة أي مصدر علمي للتحقق من صحة هذا القول.
بل يكفيك ما ذكره الشهيد (رحمه الله) أنه يخلط بالقنب – وهو ما يعمل به فتيل الحبال- بالنورة البيضاء لينتج خاما آخر يعجن ثم يصفح ليكون ورقا للكتابة يومها، ولولا أن الخبر قد جاء على التنصيص بجواز السجود على الورق لتحقق الجزم بعد صحة السجود على ما كان في زمنه (رحمه الله) ولا ما في زمننا هذا بأنواعه المختلفة، وقد عرفت ما في دلالة تلك الأخبار من عدم ظهورها في الاستثناء وأنها جارية مجرى التطبيق.
لكن الفاضل صاحب كشف اللثام علق على كلام الشهيد بقوله: "قلت: المعروف أن النورة تجعل أولا في مادة القرطاس ثم تغسل حتى لا يبقى فيها شيء منها".
أقول: وبهذا يمكن استثناء بعض أنواع الورق الذي يصدق اسم نبات الأرض عليها –ولا يضر تحول لونها شبيها بالحصير مثلا أو بزيادة البياض فيها- لكن تمييزه اليوم عسير جدا ونادر الوجود جدا، إلا أن يأتي عليه شاهد أو يقوم عليه علم، ويلاحظ أن ورق الكتب المخطوطة القديمة يختلف عن المتأخر عنها لونا وسمكا، وفيها المصقول وغيره أيضا، فلا تنحصر صناعته بما ذكره فاضل كشف اللثام.
والحاصل: أن الورق ليس مما استثني مما لا يجوز السجود عليه، ويجب تحصيل العلم بكونه غير معالج معالجة تخرجه عن مسمى نبات الأرض، وأن وجود غير المعالج في هذا الزمن نادر جدا، فلا يتخذ للسجود حتى يعلم أنه من نبات الأرض عرفا.
كتبه: محمد علي حسين العريبي
رجب 1434 هـ
بجوار الطاهر علي بن موسى الرضا – مشهد
.....................................
ملحق:
قال الفاسي في كتاب نظام الحكومة النبوية 1: 122:
"إن أهل الصين كانوا يكتبون في رق مصنوعة من الحشيش وعنهم أخذ الناس صناعة الورق، وأهل الهند يكتبون في خرق الحرير الأبيض والفرس يكتبون في الجلود المدبوغة من جلود الجواميس والبقر والغنم والوحوش وكذلك كانوا يكتبون في اللخاف بالخاء المعجمة، وهي حجارة بيض رقاق وفي النحاس والحديد ونحوهما وفي عسيب النخل وهي الجريد الذي لا خوص فيه وفي عظم أكتاف الإبل والغنم وعلى هذا الأسلوب كان العرب لقربهم منهم واستمر ذلك إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن والعرب على ذلك وربما كتب النبي صلى الله عليه وسلم بعض مكاتباته في الأدم وأجمع الصحابة على كتابة القرآن في الرق لطول بقائه أو لأنه الموجود عندهم حينئذ إلى زمن الرشيد فأمر أن لا يكتب الناس إلا في الكاغد".
وفي قاموس الكتاب المقدس: 1023:
"أول نوع من الورق اكتشفه المصريون القدماء وسموه "فافرعا" أي "ملك فرعون" ومن الاسم المصري أخذ الاسم اليوناني "بابيروس" وكانوا يصنعونه من نبات البردي وهو أشبه بالقصب. وفي سنة 105 بعد الميلاد اكتشف الصينيون صناعة الورق الحقيقي. ونشر العرب صناعته وتعلمها الإفرنج عنهم".
وفي مجلة تراثنا العدد32: 120:
"صناعة الورق: المعروف أن الصينيين هم أول من اكتشف صناعة الورق قبل أكثر من ألفي عام، حيث كانوا قبل ذلك يعتمدون على سيقان نبات البامبو (الخيزران) المجوفة، فقد كان هذا النبات ينمو بكثرة عند الصينيين، ولذلك استخدموا شرائح ضيقة من سيقانه لا تتسع لأكثر من رمز كتابي واحد، فطولها لا يتجاوز (20) سم، في كتابتهم.
وكانت هذه الشرائح تثقب من الأعلى، لتضم إلى بعضها بخيط، حتى تستوعب مجتمعة الموضوع المطلوب تدوينه، لذلك كانت عسيرة التناول، صعبة الحفظ، ثقيلة الحركة، وكذلك حاولوا أثناء هذه الفترة الكتابة على الحرير، لكن ارتفاع ثمن الحرير، منع من شيوع استخدامه على نطاق واسع في الكتابة، فلم يحل محل شرائط البامبو، التي ظلت مستعملة حتى عام 105 م عندما تمكن الوزير الصيني تساي لون من اكتشاف طريقة لإنتاج الورق، باستخدام مواد أرخص من الحرير ، فقد "استخدم لإنتاج الورق لحاء الشجر، والحبال القديمة، والخرق البالية، وشبكات الصيد القديمة، وقد عمد تساي لون إلى طحن هذه المواد الأولية ، وإضافة الماء من حين لآخر، حتى توفرت له عجينة، ثم فرش هذه العجينة على شكل شريحة رقيقة فوق مصفاة، وحين جف الماء، أخذ شريحة الورق ودقها لكي تجف تماما، وبهذا الأسلوب توصل تساي لون إلى طبق رقيق ومتين من الورق".
لقد نال هذا المخترع جائزة الإمبراطور كمكافأة على اختراعه الهام للورق، الذي صار سببا للتوسع الكبير في استخدام الكتابة، وانتشار تداول الكتاب، وسهولة حفظه، ونقله، فضلا عن تيسير مطالعته والرجوع إليه في مختلف الأوقات.
وشهدت حركة النسخ والتدوين باختراع الورق تطورا كبيرا في الصين وفي المناطق المتاخمة لها، التي كانت تخضع لتأثيرها الثقافي بشكل مباشر" وهكذا فقد وصل الورق أولا إلى كوريا، ثم عن طريق كوريا توصل اليابانيون إلى معرفة إنتاج الورق حوالي سنة 610 م، وحتى ذلك الوقت كانت تقنية إنتاج الورق في الصين قد وصلت إلى قمتها، حتى أن العرب والأوربيين لم يحتاجوا إلى أن يضيفوا شيئا جوهريا إلى هذه التقنية".
وقد وصلتنا بعض الوثائق من الورق، يعود تأريخها إلى نحو عام 150 م، اكتشفت في سور الصين، ما أن أقدم وثيقة مؤرخة مكتوبة على الورق تحمل تأريخا يقابل 264 م".
"أدى توسع حركة الفتوحات الإسلامية شرقا ، إلى أن يصل الفاتحون المسلمون إلى تخوم الصين، التي كانت تمثل أقصى ديار الشرق يومذاك، وفي إحدى المعارك في صيف عام 751 م أسر المسلمون مجموعة من الصينيين، ممن كانوا خبراء في صناعة الورق، فأسسوا بمساعدتهم أول مصنع للورق في ديار الإسلام في مدينة سمرقند ، وبعد فترة محدودة أضحت هذه المدينة مركزا معروفا لإنتاج الورق، ومنها انتقلت صناعة الورق إلى بغداد، التي كانت أعظم حاضرة إسلامية آنذاك، حيث أسس الفضل بن يحيى البرمكي، وزير هارون الرشيد، أول مصنع للورق في بغداد عام 793 م.
وخلال فترة وجيزة انتشر استخدام الورق، حيث كان للأمر الصادر من الخليفة في ألا تكتب الناس إلا في الكاغد، لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والتزوير بخلاف الورق، كان له أثر كبير في تعميم استخدام الورق في الكتابة.
ثم انتقلت صناعة الورق من بغداد إلى دمشق، ثم إلى طرابلس، واليمن، ومصر، والمغرب العربي، والأندلس.
وكان أول مصنع للورق أنشئ في مصر نحو عام 900 م، وفي مراكش نحو عام 1100 م، فيما كان أول مصنع للورق أسس في الأندلس في عام1150 م في مدينة شاطبة، ومنها انتقلت صناعته إلى مدينة طليطلة منذ القرن الثاني عشر الميلادي. وقد انتشر استخدام الورق بشكل واسع وازدهرت صناعته في البلاد الإسلامية، حتى كان يوجد في المغرب العربي فقط مثلا عام 1200 م أربعمائة معمل لصناعة الورق، وكان لازدهار حركة التأليف والإبداع والترجمة، وكثرة
المداس ودور العلم، وازدياد عدد طلاب المعارف، الأثر الأساسي في ازدهار صناعة الورق، وزيادة استهلاكه، حتى أصبح الورق من أكثر السلع وفرة في العالم الإسلامي، فمثلا كانت مصر " تنتج الورق لنفسها، وكثر انتاجه لدرجة أن الباعة في القاهرة كانوا يلفون به الخضر والتوابل". هذا في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغرق في بحور من الظلمات والانحطاط الفكري، حتى أنه "لم يزد ما قد يكون رآه بعض الأوربيين حينئذ من الورق على قطعة صغيرة متعفنة، أحضرها معه أحد التجار من الشرق على سبيل الطرافة . . . ولم يلق الورق رواجا في أوروبا لقلة عدد من يعرفون الكتابة". ولم تظهر صناعة الورق في أوروبا، حتى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، فقد أنشئت للورق في إيطاليا عام 1276 م، وأقيم أول مصنع للورق في مدينة تروا (troyes) شرقي فرنسا عام 1250 م، ثم نمت صناعة الورق فيما بعد في أوروبا فأصبحت إيطاليا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، المركز الرئيسي لصناعة الورق.
ومما ينبغي الإشارة له أن صناعة الورق دخلت فرنسا من خلال الأندلس، ومنها انتقلت تلك الصناعة إلى إنجلترا، وأخيرا إلى هولندا حيث صار لها شأن كبير. هذا عرض سريع لرحلة إنتاج الورق، تابعناها منذ الخطوة الأولى في موطن ولادتها في الصين، ثم سمرقند، ثم بغداد، ثم دمشق، والقاهرة، وأخيرا شاطبة، ثم طليطلة في الأندلس، ومنها إلى فرنسا، وبعدها إنجلترا، وأخيرا هولندا" انتهى.
– يمكن البحث في الموسوعة الحرة "ويكيبيديا" عن تاريخ الورق وصناعته الحديثة تحت عنوان "ورق".
.................................
[1] - الحدائق ج7 ص245