بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
المسألة:
سماحة الشيخ:
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾(1).
يعرض القرآن لبعض المواقف من حياة الأمم السابقة، فمثلا قوله تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ هنا البعض يستدلُّ بالآية لجواز بناء وتشييد قبور الأولياء.
والسؤال: نعلم أنَّ الشريعة المحمديَّة هي الخاتمة فهل يصحُّ استنباط الحكم الشرعي ممَّا ورد عن حياة الأمم السابقة في القرآن؟ وما ضابطة ذلك؟
الجواب:
التقريب الأول لصحة الاستدلال بأحكام الشرائع السابقة:
الأحكام الشرعيَّة التي كانت في شرع مَن كان قبلنا إذا ثبتت من طريق القرآن ولم يقم دليلٌ معتبر على نسخها فهي ثابتة في حقِّنا، إذ أنَّ شريعة الله تعالى مُلزِمة لعموم عباده في عمود الزمن مالم يتصدَّ لنسخها، ومجيءُ شريعةٍ أخرى لا يكون موجباً لنسخ الشريعة السابقة إلا بالمقدار الذي تنصُّ فيه الشريعة اللاحقة على نسخه ولو من طريق جعل حكمٍ على خلاف ما كان عليه الحكم في الشريعة السابقة مع اتِّحاد الموضوع، فإنَّ جَعْلَ حكمٍ على خلاف الحكم الثابت في الشريعة السابقة يكون دليلاً على نسخ الحكم الثابت في الشريعة السابقة، وأمَّا إذا لم تنص الشريعة اللاحقة على نسخ الحكم السابق ولم تجعل الشريعة اللاحقة حكماً لذات الموضوع مخالفاً للحكم الثابت في الشريعة السابقة فهو على حاله لا يصحُّ البناء على رفعه.
التقريب الثاني:
ثم إنَّ هنا تقريباً آخر لتعيُّن البناء على عدم النسخ للحكم الثابت في الشريعة السابقة إذا كان القرآن قد أورده ولم يردعْ عنه، فإنَّ عدم الردع عنه بعد حكايته يكون ظاهراً في الإمضاء والتقرير فيكون ذلك دليلاً على أنَّ هذا الحكم من أحكام هذه الشريعة مضافاً إلى كونه من أحكام الشريعة السابقة.
طُرق الوصول لأحكام الشرائع السابقة:
وببيانٍ آخر: إنَّ طريق الوصول إلى الأحكام الشرعيَّة الثابتة في الشرائع السابقة يمكن تصنيفها إلى أربعة طُرق:
الطريق الأول: أن تصل من جهة أصحاب الديانات السابقة، ومثل هذه الأحكام خارجةٌ عن مورد البحث، لعدم وصولها لنا من طريقٍ معتبر، فلم يثبت عندنا أنَّها من أحكام الشرائع السابقة، فلعلَّها منتحلة، ولهذا لا معنى للبحث عن أنَّها منسوخة أو ليست منسوخة، فهي ساقطة عن الاعتبار من رأس.
الطريق الثاني: أنْ تصل الأحكام الشرعية الثابتة في الشرائع السابقة من طريقٍ معتبر كالقرآن الكريم ويثبت في ذات الوقت أنَّها قد نُسخت أو أنَّها مجعولة لخصوص أصحاب تلك الديانة السابقة، وهذه أيضاً خارجة عن مورد البحث وذلك لثبوت نسخها أو اختصاصها بأصحاب الشريعة السابقة، ويُمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(2) فإنَّ ظاهر الآية الكريمة أنَّ تحريم كلَّ ذي ظفر -واستثناء الشحوم والحوايا وما اختلط بعظم- مختصٌ باليهود بقرينة ذيل الآية المباركة ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾(3) وكذلك قيام الأدلَّة من القرآن والسنَّة الشريفة على عدم حرمة كلِّ ذي ظفر على المسلمين.
الطريق الثالث: أنْ تصل الأحكام الشرعية الثابتة في الشرائع السابقة من طريقٍ معتبر كالقرآن الكريم مع افتراض النصِّ على عدم اختصاصها بأصحاب الشرائع السابقة وأنَّها سارية في شريعة الإسلام، وهذه أيضاً خارجةٌ عن مورد البحث، وذلك لثبوت أنَّ هذه الأحكام هي من أحكام هذه الشريعة مضافاً لكونها من أحكام الشرائع السابقة، ويُمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ / لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾(4) بناءً على أنَّ المأمور بالتأذين هو نبيُّ الله إبراهيم (ع) فالأمرُ بالحج بناءً على ذلك من أحكام الشرائع السابقة التي ورد النصُّ الصريح على أنَّها من أحكام هذه الشريعة أيضاً.
الطريق الرابع: أنْ تصل الأحكام الشرعية الثابتة في الشرائع السابقة من طريقٍ معتبر كالقرآن الكريم مع افتراض عدم الردع عنها وعدم وجود ما يدلُّ على اختصاصها بأصحاب الشرائع السابقة، فهذه هي التي تكون مورداً للبحث، ويُمكن -للتوضيح -التمثيلُ لها بقوله تعالى على لسان شعيب (ع) مخاطباً موسى (ع): ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾(5).
فإنَّ هذه الآية تدلُّ على مشروعيَّة أنْ يكون العمل المحترم المستَحق للأجرة مهراً، وكذلك تدلُّ على عددٍ من الأحكام، فيكون عدمُ الردع في الآية الشريفة دالاً على الإمضاء.
وكذلك يُمكن التمثيل له بقوله تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾(6) فإنَّ مفاد هذه الآية أنَّ الله تعالى فرض في التوراة القصاص، والمستظهَر من ذيل الآية أنَّ المتجاوز لهذا الحكم يكون في زمرة الظالمين وهو ما يُشكل قرينةً على أنَّ هذا الحكم سارٍ لهذه الشريعة وأنَّه غير مختصٍّ بالشريعة السابقة، وإنَّما ذكرنا هذه الآية للتوضيح وإلا فسياق الآيات شديدة الظهور في أنَّ حكم القصاص المذكور في الآية هو كذلك من أحكام هذه الشريعة حيث خُتمت هذه الآيات بقوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(7).
تقريب الاستدلال بقوله تعالى: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾:
وممَّا ذكرناه يتًّضح تقريب الاستدلال بقوله تعالى: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا﴾ على شرعية بناء المسجد على قبور الصالحين فإنَّ الآية كانت بصدد الإخبار عن اقتراح المؤمنين ببناء مسجد على الموضع الذي غاب فيه أصحابُ الكهف، والمسجد إنَّما يجعل للعبادة، فلو لم يكن هذا العمل مشروعاً لتصدَّت الآية للردع عنه، فعدمُ الردع يكون قرينةً على الإمضاء، بناءً على التقريب الثاني، وبناءً على التقريب الأول يكفي ثبوت مشروعيَّة العمل في الشريعة السابقة لثبوت مشروعته في شريعتنا نظراً لعدم قيام الدليل على النسخ.
الاستدلال على حجيَّة الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة:
ويُمكن الاستدلال على حجيَّة الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة في فرض عدم ثبوت النسخ بمثل قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾(8).
وقوله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ / وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ / وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ / وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ / ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ / أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ / أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ..﴾(9).
وكذلك الآيات التي دلَّت على أنَّ القرآن الكريم جاء مصدِّقاً لما بين يديه من التوراة الإنجيل، وعليه فكلُّ حكمٍ ثبت قطعاً أنَّه من التوراة والإنجيل ولم يثبت نسخُه فهو ممَّا دلَّت مثل هذه الآيات على إمضائه وأنَّه من أحكام هذه الشريعة تماماً كما هو مِن أحكام الشرائع السابقة، فلا حاجة إلى بحث جريان استصحاب عدم النسخ في مثل هذه الموارد.
الاستدلال بالروايات الواردة عن أهل البيت (ع):
وكذلك يُمكن تأييد دعوى حجيَّة الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة في فرض عدم ثبوت النسخ بتصدِّي العديد من الروايات الواردة عن أهل البيت (ع) للاستدلال على أحكامٍ شرعية بآياتٍ تتحدَّث عن أحكامٍ ثابتة في الشرائع السابقة، فمِن ذلك:
الاستدلال على شرعية القُرعة:
الرواية الأولى: معتبرة صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ مُسْكَانَ عَنْ إِسْحَاقَ الْفَزَارِيِّ قَالَ: سُئِلَ وأَنَا عِنْدَه يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) عَنْ مَوْلُودٍ وُلِدَ ولَيْسَ بِذَكَرٍ ولَا أُنْثَى ولَيْسَ لَه إِلَّا دُبُرٌ كَيْفَ يُوَرَّثُ قَالَ يَجْلِسُ الإِمَامُ ويَجْلِسُ مَعَه نَاسٌ فَيَدْعُو اللَّه ويُجِيلُ السِّهَامَ عَلَى أَيِّ مِيرَاثٍ يُوَرَّثُ مِيرَاثِ الذَّكَرِ أَوْ مِيرَاثِ الأُنْثَى فَأَيُّ ذَلِكَ خَرَجَ وَرَّثَه عَلَيْه ثُمَّ قَالَ وأَيُّ قَضِيَّةٍ أَعْدَلُ مِنْ قَضِيَّةٍ يُجَالُ عَلَيْهَا بِالسِّهَامِ إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ يَقُولُ: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ}(10).
صحيحة صفوان بن يحيى، عن عبد الله بن مسكان قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) -وأنا عنده- عن مولود ليس بذكر ولا بأنثى ليس له إلا دبر كيف يورث؟ فقال: يجلس الامام ويجلس عنده أناس من المسلمين فيدعون الله ويجيل السهام عليه على أي ميراث يورثه، ثم قال: وأيُّ قضيةٍ أعدل من قضيةٍ يُجال عليها بالسهام، يقول الله تعالى: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ﴾(11).
الرواية الثانية: رواية ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: سُئِلَ عَنْ مَوْلُودٍ لَيْسَ بِذَكَرٍ ولَا أُنْثَى لَيْسَ لَه إِلَّا دُبُرٌ كَيْفَ يُوَرَّثُ قَالَ يَجْلِسُ الإِمَامُ ويَجْلِسُ عِنْدَه نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَدْعُو اللَّه عَزَّ وجَلَّ وتُجَالُ السِّهَامُ عَلَيْه عَلَى أَيِّ مِيرَاثٍ يُوَرِّثُه أمِيرَاثِ الذَّكَرِ أَوْ مِيرَاثِ الأُنْثَى فَأَيُّ ذَلِكَ خَرَجَ عَلَيْه وَرَّثَه ثُمَّ قَالَ وأَيُّ قَضِيَّةٍ أَعْدَلُ مِنْ قَضِيَّةٍ تُجَالُ عَلَيْهَا السِّهَامُ يَقُولُ اللَّه تَعَالَى: ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ قَالَ: ومَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيه اثْنَانِ إِلَّا ولَه أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللَّه ولَكِنْ لَا تَبْلُغُه عُقُولُ الرِّجَالِ"(12).
الرواية الثالثة: رواية الصدوق قال: وقال الصادق (عليه السلام): ما تنازع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق، وقال: أي قضية أعدل من القرعة إذا فوض الأمر إلى الله، أليس الله يقول: ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾(13).
وقال عليه السلام: "أي قضيةٍ أعدل من القرعة إذا فوِّض الامر إلى الله، أليس الله تعالى يقول: ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾(14).
الرواية الرابعة: رواية منصور بن حازم، قال: سأل بعض أصحابنا أبو عبد الله (عليه السلام) عن مسألة فقال: هذه تخرج في القرعة، ثم قال: فأيُّ قضيةٍ أعدل من القرعة، إذا فوضوا أمرهم إلى الله عزَّ وجل، أليس الله يقول: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ﴾(15).
الرواية الخامسة: رواية حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أول من سُوهم عليه مريم بنت عمران، وهو قول الله عز وجل: ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ .."(16).
أقول: هذه الروايات استدلَّت على شرعيَّة القرعة بآيتين تتحدَّثان عن حكم القرعة في الشرائع السابقة الآية الأولى: قوله تعالى يحكي ما وقع ليونس (ع): ﴿فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ والآية الثانية قوله تعالى يحكي ما وقع لزكريا (ع): ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾(17).
الاستدلال على حرمة المساحقة:
الرواية السادسة: صحيحة هِشَامٍ وحَفْصٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) أَنَّه دَخَلَ عَلَيْه نِسْوَةٌ فَسَأَلَتْه امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ عَنِ السَّحْقِ فَقَالَ: حَدُّهَا حَدُّ الزَّانِي فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مَا ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: بَلَى قَالَتْ: وأَيْنَ هُوَ قَالَ: هُنَّ أَصْحَابُ الرَّسِّ"(18).
أقول: هذه الرواية اشتملت على الاستدلال بالوعيد والعقاب الذي وقع لأصحاب الرسِّ على حرمة السحاق وهي قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ / وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ / وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾(19) وقوله تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا / وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا﴾(20).
الاستدلال على بعض أحكام الإجارة:
الرواية السابعة: معتبرة ابْنِ سِنَانٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (ع) قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الإِجَارَةِ فَقَالَ صَالِحٌ لَا بَأْسَ بِه إِذَا نَصَحَ قَدْرَ طَاقَتِه قَدْ آجَرَ مُوسَى (ع) نَفْسَه واشْتَرَطَ فَقَالَ إِنْ شِئْتُ ثَمَانِيَ وإِنْ شِئْتُ عَشْراً فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فِيه: ﴿أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾(21).
الرواية الثامنة: صحيحة أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ (ع) قَوْلُ شُعَيْبٍ (ع): ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾ أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى قَالَ الْوَفَاءُ مِنْهُمَا أَبْعَدُهُمَا عَشْرُ سِنِينَ قُلْتُ فَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ الشَّرْطُ أَوْ بَعْدَ انْقِضَائِه قَالَ قَبْلَ أَنْ يَنْقَضِيَ قُلْتُ لَه فَالرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ ويَشْتَرِطُ لأَبِيهَا إِجَارَةَ شَهْرَيْنِ يَجُوزُ ذَلِكَ فَقَالَ إِنَّ مُوسَى (ع) قَدْ عَلِمَ أَنَّه سَيُتِمُّ لَه شَرْطَه فَكَيْفَ لِهَذَا بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّه سَيَبْقَى حَتَّى يَفِيَ لَه وقَدْ كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّه ص يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ عَلَى السُّورَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وعَلَى الدِّرْهَمِ وعَلَى الْقَبْضَةِ مِنَ الْحِنْطَةِ"(22).
أقول: هذه الطائفة من الروايات تمَّ الاستدلال فيها على بعض أحكام الإجارة بقوله تعالى يحكي خطاب شعيب (ع) لموسى (ع): ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ﴾(23).
والحمد لله رب العالمين
الشيخ محمد صنقور
16 / شهر رمضان / 1443ه
18 / ابريل / 2022م