باعتبار أن حياة أهل البيت (ع) هي موضع نظر الباحث، ليظهّر منهاجهم بوضوح، من أجل الإقتداء بسيرتهم النيّرة لبناء حياة حضارية طيبة، ومن أجل اتخاذ مواقف حياتية متكئة على مبدأية التاريخ الناصع والميزان الجامع لحياة الفرد والأمة، لهذا الغرض المعرفي الذي يكامل به الإنسان رؤيته الحضارية، لابد من بحث المواطن التي تجلّت فيها مواقف صارخة لأهل البيت (ع) تجاه واقعهم، ومن تلك المواقف ما يتسم بوضوح انسجامه مع تعاليم القرآن والقيم الثابتة للدين والتي أسس قواعدها أهل البيت (ع)، ومن المواقف ما يحتاج إلى بحث لمعرفة موقعيته من تلك القيم ومدى انسجاميته معها، باعتبار خفائها أو ما يظهر من مخالفة لأصل القيم بحسب النظر الأولي، بل ويمكن أن نقول أن البحوث في تلك المواقف يمكن أن تؤدي إلى قناعة بأنها من صنيعة المخيلة التاريخية ولا واقع لها، فيما إذا ثبت قطعاً مخالفتها لقيم الدين وروح الشريعة المقدّسة.
والبحث في حياة الإمام زين العابدين (ع) حافلة بمجموعة من المواطن التي تحتاج إلى استظهار وموائمة مع القيم الدينية الثابتة، باعتبار الواقع السياسي المأزوم، وباعتبار المهمّة الشائكة التي كانت ملقاة على عاتق الإمام كونه قيادة ربانية مسؤوليتها قيادة الأمة، سواء كانت في سدّة الحكم أو كانت بعيدة عنها، ومن تلك الأمور هو دعاؤه المعروف الوارد في الصحيفة السجادية، والمسمّى بدعاء أهل الثغور، والذي يبدأ بـ "اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبِغْ عَطَايَاهُمْ مِنْ جِدَتِكَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَكَثِّرْ عِدَّتَهُمْ، وَاشْحَذْ أَسْلِحَتَهُمْ، وَاحْرُسْ حَوْزَتَهُمْ، وَامْنَعْ حَوْمَتَهُمْ، وَأَلِّفْ جَمْعَهُمْ، وَدَبِّرْ أَمْرَهُمْ.. إلى آخر الدعاء.
إن ملخص الإشكالية في تناول هذا الدعاء عبر التساؤل البحثي التالي: كيف يمكن فهم أن يدعو الإمام (ع) إلى أهل الثغور وهم تابعون لسلطة جائرة، وهو على خلاف معها سياسياً ودينياً، فكيف يمكن فهم الدعاء لهم في ظروف الخلاف السياسي والعقدي العميق الذي وصل أوجّه في عهد الإمام زين العابدين (ع)؟!
ومن أجل مناقشة هذه الإشكالية وفهم مدى انسجام دعاء أهل الثغور مع الإستراتيجية التي اتبعها الإمام (ع) في الأمة، ينبغي أن نسلّط الضوء على عدة جوانب للوصول إلى فهم مستوعِب للأبعاد المختلفة.
أولاً: في معنى الثغور
الثغور جمع ثغر، والثَّغْرُ والثَّغْرَةُ: كُلُّ فُرْجَةٍ في جبل أَو بطن واد أَو طريق مسلوك، والثَّغْرُ: ما يلي دار الحرب. والثَّغْرُ: موضع المَخافَة من فُروج البُلْدانِ، وهو الموضع الذي يكون حدّاً فاصلًا بين بلاد المسلمين والكفار، وهو موضع المخافة من أَطراف البلاد".
فقد كانت الدول والأمم في صراع على البقاء وصراع من أجل التوسع أو من أجل الهيمنة أو الإنتقام من الدول الأخرى، فكانت إحدى المهام السياسية الأساسية لكل سلطة هي حفظ حدود الدولة من أطماع العدو، فالمسلمون كانت لهم عدة ثغور يرابط فيها الجند من أجل حمايتها من هجوم الأعداء، وتختلف الثغور باختلاف سعة الدولة وسعة توسعها بالفتوحات.
والجنود المقيمون في تلك الثغور يطلق عليهم مرابطون، و«الرباط» و«المرابطة» في الأصل هي الإقامة على جهاد العدوّ بالحرب، وارتباط الخيل وإعدادها. وقيل: أصل المرابطة أن يربط الفريقان خيولهم في ثَفْرٍ كلّ منهما معدّ لصاحبه، فسمّي المقام في الثغور رباطاً. وقد يطلق على ربط النفس على الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة.
فالمهمة الأساس للمرابطين في الثغور هي حفظ الكيان الإسلامي من أعدائه، وليست مهمتهم الغزو والمبادرة في الهجوم، ولكن قد يكون للجند مهام متعددة بحسب أوامر الحاكم، إلا أن المفهوم هو المرابطة لحراسة الحدود من هجوم الأعداء.
ثانياً: في الأبعاد الفقهية للمرابطة في الثغور
باعتبار أن حماية الثغور هي سور بلاد المسلمين للمحافظة على حدودها من أي اعتداءات خارجية من قبل أعداء الإسلام، فهي مهمة من مهام الإمام كمنصب شرعي له، فقد جاء في الرواية في الكافي عن الإمام الرضا (ع) في مهام الإمامة: "إِمْضَاءُ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ وَمَنْعُ الثُّغُورِ وَالْأَطْرَافِ، الْإِمَامُ يُحِلُّ حَلَالَ اللَّهِ وَيُحَرِّمُ حَرَامَ اللَّهِ وَيُقِيمُ حُدُودَ اللَّهِ وَيَذُبُّ عَنْ دِينِ اللَّهِ وَيَدْعُو إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنة".
يقول السيد المدرسي في هذه المهمة: "لا يجوز إهمال الثغور التي ينفذ منها العدو، بل تجب المرابطة فيها مادام احتمال الهجوم واردا"، وقال في اللمعة وشرحها: "والرباط مستحبّ استحباباً مؤكّدا دائماً، مع حضور الإمام وغيبته"، وقال السيد السبزواري:"يستحب المرابطة أي الإرصاد لحفظ بلاد الإسلام عن هجوم المشركين عليها، وأقله ثلاثة أيام وأكثره أربعون يوما، فإن زاد كان مثل الجهاد في الثواب". حيث يرى الاستحباب كون الآية وإن كانت ظاهرة في الوجوب إلا أنها في مقام المدح فيسقط هذا الظهور، مضافاً إلى ظهور الإجماع على عدم الوجوب، ويمكن اتصافها بالوجوب أيضاً لأجل مصالح يراها وليّ الأمر، كما يمكن أن يتصف بالحرمة لأجل مفاسد مترتبة عليها".
هذا فيما إذا كان الحاكم هو الإمام أو من قبل الإمام العادل، وأما إذا كان من يتولى البلاد من أئمة الجور، فلا يجوز اللحوق بهم، قال الشيخ الطوسي في المبسوط: "ومتى لم يكن الإمام ولا من نصّبه الإمام سقط الوجوب، بل لا يحسن فعله أصلاً.. ثم قال: والجهاد مع أئمة الجور أو من غير إمام أصلاً خطأ قبيح يستحق فاعله به الذم والعقاب إن أصيب لم يؤجر، وإن أصاب كان مأثوماً"، وقال السيد السبزواري: "لا فرق بين زمان الغيبة والحضور ـ لإطلاق الأدلة الشاملة لكل منهما ـ ويشترط في المرابطة أن لا تكون من طرف جائر، واستدل بقوله: "لعدم ولايته على مثل هذه الأمور"، ومن الحديث ما يحمل عليه الرواياتان التاليتان:
في الوسائل عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع): جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا تَقُولُ فِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ فِي هَذِهِ الثُّغُورِ قَالَ فَقَالَ: الْوَيْلُ يَتَعَجَّلُونَ قَتْلَةً فِي الدُّنْيَا وَقَتْلَةً فِي الْآخِرَةِ وَاللَّهِ مَا الشَّهِيدُ إِلَّا شِيعَتُنَا وَلَوْ مَاتُوا عَلَى فُرُشِهِمْ".
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الرِّضَا (ع) أَنَّ يُونُسَ سَأَلَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ مَاتَ وَأَوْصَى أَنْ يُدْفَعَ مِنْ مَالِهِ فَرَسٌ وَأَلْفُ دِرْهَمٍ وَسَيْفٌ لِمَنْ يُرَابِطُ عَنْهُ وَيُقَاتِلُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الثُّغُورِ فَعَمَدَ الْوَصِيُّ فَدَفَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِذَلِكَ وَقْتٌ بَعْدُ فَمَا تَقُولُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُرَابِطَ عَنِ الرَّجُلِ فِي بَعْضِ هَذِهِ الثُّغُورِ أَمْ لَا فَقَالَ يَرُدُّ إِلَى الْوَصِيِّ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَلَا يُرَابِطُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِذَلِكَ وَقْتٌ بَعْدُ فَقَالَ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ فَقَالَ يُونُسُ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْوَصِيَّ قَالَ يَسْأَلُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ سَأَلَ عَنْهُ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصْنَعُ فَقَالَ إِنْ كَانَ هَكَذَا فَلْيُرَابِطْ وَلَا يُقَاتِلْ قَالَ فَإِنَّهُ مُرَابِطٌ فَجَاءَهُ الْعَدُوُّ حَتَّى كَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصْنَعُ يُقَاتِلُ أَمْ لَا فَقَالَ لَهُ الرِّضَا (ع)- إِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُقَاتِلُ عَنْ هَؤُلَاءِ وَ لَكِنْ يُقَاتِلُ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ- فَإِنَّ فِي ذَهَابِ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ دُرُوسَ ذِكْرِ مُحَمَّدٍ (ص) .
ومن هذه الرواية يأتي التفريع على مدى جواز الاشتراك في المرابطة في الثغور تحت حكومة أئمة الجور، وتحت أي مبرّر، فالدفاع عن الوطن الإسلامي ككيان حافظ للإسلام أو الدفاع عن المسلمين كهوية ووجود، من خطر محدق، هو من المستثنيات التي يمكن للفرد أن يلتحق بالثغور، في هذه الحدود التي لا يخرج عنها لغايات أخرى.
يقول السيد المدرسي: "مثله تعرّض الدولة الاسلامية لهجوم عسكري من قبل الأعداء، بحيث خشي على بيضة الاسلام، فيجب الدفاع. ويعتبر العلامة النائيني بيضة الاسلام التي يجب الدفاع عنها: الوطن الاسلامي. ولكن يبدو ان التعبير الفقهي" بيضة الاسلام" اكثر دقة من الوطن الاسلامي، إذ هو يعني اصل الاسلام. ومعنى تعرضه للخطر، تهديد الوجود الاسلامي والكيان الاسلامي للخطر، مما يحمل في طياته معنى الخطر الكبير.
ـ ثم ذكر السيد المدرّسي رواية محمد بن عيسى الآنفة الذكر ـ وعلّق عليها قائلاً: "ونستفيد من هذا الحديث ان الخوف على دار الاسلام جاء مثلًا للخوف عن بيضة الاسلام. ولكن في فقرة تالية اضيف الى بيضة الاسلام بيضة المسلمين، والتعبير به اشمل من بيضة الاسلام. فقد لا يكون الخطر على دار الاسلام، ولكن يكون على المسلمين".
ثالثاً: في استراتيجية الإمام في العمل الرسالي
إن التعرّف على استراتيجية الإمام (ع) في العمل الرسالي في تصدّيه لقيادة الأمة، توضح لنا أبعاداً مهمة لوعي مكانة الدعاء وخصوصاً دعاء أهل الثغور - موضع البحث - في خطة عمله ومدى انسجامها مع أسلوبه.
لقد عاش الإمام علي بن الحسين (ع) بعد أبيه 35 عاماً وهي مدة إمامته، والإمام يقود الأمة ويعمل على تمكين قيم الدين وتشريعاته وينشر الحق في الأمة، بغض النظر عن اعتلائه سدّة الحكم من عدمها، لأن منصب الإمامة منصب إلهي مرتبط بالشخص أينما حل وارتحل، وقد اتخذ الإمام زين العابدين (ع) أسلوباً للعمل يتناسب والوضع السياسي الجديد، ويتناسب مع واقع الأمة، بعد أن خرجت من فاجعة كربلاء الأليمة، والتي بيّنت مدى انحراف المزاج الاجتماعي العام عن روح الدين، بعد أن اشترك الكثير من الناس في تلك المأساة، وسكت آخرون، ولم تبق مع الإمام الحسين (ع) إلا ألقلة القليلة التي دافعت ووقفت مع الإمام في مواجهته للواقع الفاسد الذي كان يقوده يزيد بن معاوية وهو على سدّة السلطة متمثلاً بإمارة المسلمين.
لقد كان الهم الأكبر للإمام زين العابدين (ع) هو الأمة وإعادتها إلى الدين، عبر أساليب ذكية ومؤثّرة، بحيث تتمكّن قيم الإسلام النقي من عقل الإنسان، من خلال نفاذها إلى القلب وامتزاجها مع الروح، فكان معتمداً على عدة أساليب:
1/ الإبقاء على حرارة فاجعة الطف ألأليمة، كي تكون القضية حاضرة، ولمعرفة مدى الانحراف السائد، ولوعي المسؤولية.
2/ بث العلم في قوالب تعاصر متطلبات الأمة في واقعها، من خلال التعليم ورسالة الحقوق، والخطب، والأقوال، والإفتاء.
3/ تجسيد المثال الرباني وصناعة القدوة المثلى المتحرّكة في الواقع، من خلال الانصهار في العبادة الظاهرة للعيان.
4/ بناء الكفاءات العلمية لمواجهة التحديات الفكرية العقدية التي اجتاحت البلاد بسبب الفتوحات العشوائية.
5/ صياغة عقيدة الأمة وشخصيتها الفكرية من خلال مضامين الدعاء الذي كان يستوعب كافة الجوانب، فكانت الصحيفة السجادية، وأدعيته الأخرى في المناسبات المتنوعة، ليصاحب الدعاء الإنسان في كل خطواته وحاجاته.
6/ قيادته غير المباشرة لشؤون الأمة السياسية والطلائع الرسالية، كي تنجح استراتيجيته في العمل الرسالي.
رابعاً: في الوضع السياسي
من أجل الوصول إلى رؤية متكاملة ينبغي أن نستطلع الوضع السياسي وملابساته القائمة في زمن إمامة الإمام زين العابدين (ع)، وبذلك يمكن قراءة مدى انسجام منهج تعامله مع الواقع السياسي مع دعائه لأهل الثغور.
الواقع السياسي الذي لازم مدة إمامة الإمام زين العابدين (ع) كان مأزوماً ومعقّداً، ففي الفترة من عام 60 للهجرة وهي سنة مقتل أبيه الإمام الحسين (ع) وبداية إمامة السجاد (ع)، وإلى سنة 95 للهجرة، وهي سنة شهادته، كانت الدولة الأموية هي الحاكمة، بحسب تصنيف المؤرخين، ولكن المشهد السياسي آنذاك يخبرنا بأن الأزمة السياسية الداخلية لم تكن بأقل من التحديات الخارجية التي تواجه البلاد الإسلامية من أعدائها، لأن الاحتراب الداخلي وصل أوجّه، فهنالك العديد من القوى والفصائل التي تتصارع داخلياً، فبنو أمية خاصة، أي نسل معاوية بن ابي سفيان، والمروانيون، والزبيريون، والخوارج، إضافة إلى المجاميع الغاضبة على السلطات، كالتوابين والمختار ومجتمع المدينة، ومطرف بن المغيرة، وابن الأشعث، وغيرها.. كل هذه القوى كانت تتصارع داخلياً واستنزفت دماء الأمة.
إن الفساد العميق كان ينخر في جسد السلاطين الذين يحكمون باسم الإسلام، لذا كان "الوضع العام للدولة الإسلامية يعاني من أزمة حضارية حادة على مختلف الصعد، السياسية والفكرية والاجتماعية والخلقية، وكانت هذه الأزمة تهدّد الأمة الإسلامية ليس فقط بتغيير مسيرتها، وإنما أيضاً بزوالها."
1/ فيزيد شارب الخمر قاتل النفس المحترمة المتلاعب بالدين، انتهت قيادته إلى تحقيق أعظم مصاب في تاريخ الإسلام بقتله الإمام الحسين (ع) في فاجعة الطف وما لاحقها من سبي، ثم انتهك المدينة المنورة وأباحها لجنده يعيثون فيها فساداً منقطع النظير.. ثم رمى الكعبة المكرمة بالمنجنيق في مواجهته لابن الزبير..
2/ ومروان بن الحكم الذي بقي في السلطة تسعة شهور، وكان أشدّ الناس عداوة لله ولرسوله وآله، وخصوصاً لأمير المؤمنين (ع)، حيث بدأ خلافته بالتهديد بالسيف وكان "أول من بايعه من الناس أهل الأردن، وقد بايعوه كرهاً خشية من حد السيف، وتبعهم في ذلك أهل الشام.. ثم حاصر مصر وقاتلهم حتى دخلوا في طاعته.."
3/ وعبد الملك بن مروان الذي بقي في السلطة 13 سنة، ولاقى المسلمون منه الويل، وسالت في عهده أنهر الدم، وكان شعار عبد الملك وهو الفكر السياسي السائد في بني أمية، هو قوله عندما حج بالناس وخطبهم في المدينة: "فإني لست بالخليفة المتضعف، يعني عثمان، ولا الخليفة المداهن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد، ألا وإني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم.."
أطلق عبد الملك يد الحجاج في المسلمين حتى رمى حجاج بيت الله الحرام بالمنجنيق وهم يطوفون بالكعبة، وتقول المصادر التاريخية أنه بلغ عدد من قتلهم الحجاج صبراً ـ سوى من قتلوا في حروبه وعلى أيدي جنده ـ مئة وعشرين ألفاً، وبعد هلاكه وجد في سجونه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، ويكفي ما قاله عنه عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبثها وجئنا بالحجّاج لغلبناهم.
4/ ثم جاء الوليد بن عبد الملك خلفاً على إثر سلف، وفي أول خطبة له بعد تقلّده منصب الحكم، قال: "أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه، ثم نزل، وكان جباراً عنيداً..
وهكذا كان الملك هو الغاية التي ينشدها حكام بني أمية، ولا يألون جهداً في ارتكاب أي عمل يقرّبهم منه، ويدحرون كل عقبة تقف ضد تحقيق ما يرومونه، وحيث كانوا يعلمون أن الإمام زين العابدين (ع) هو سليل الأئمة، وهو صاحب الحق الأصلي، فعيونهم كانت لا تفارق تحركه، فكانوا يتحينون الفرصة من أجل استئصاله، وحفاظاً على الخط الرسالي وقيادته المتمثلة في الإمام، كان لابد من الإمام أن يتبع أسلوباً دقيقاً في تحقيق أهدافه، فالتقية أحد أهم أساليب العمل الإسلامي والرسالي، وقد كشف لنا التاريخ ذلك التعامل في عدة مواقف للإمام (ع).
خامساً: في واقع الثغور
أما السياسة الخارجية فقد كانت هي الأخرى في حالة اضطراب، حيث أن التحديات تواجه الدولة من عدة جهات، وقد توسّعت الفتوحات بسبب نهم الحكام في جباء الخراج واكتناز الغنائم وتوسعة النفوذ.
وهذا يتطلب من ناحية عسكرية، الدفاع والتأهب الكامل لأي هجوم متوقع من قبل العدو، ولذلك كانت الحدود الإسلامية محاطة بالمعسكرات التي يرابط فيها الجند لمدد طويلة، أمثال ثغر قزوين من ناحية الديلم، ودمياط من ناحية مصر، وبرقة المتاخم لأفريقية، وشومان الذي يقع بالصغانيان مما وراء جيحون، وكابلستان من ثغور طخارستان وهو أقليم متاخم للهند، وأنطاكية من الثغور الشامية، وغيرها.
وبما أننا في عرض دراسة الدعاء الموجّه لهذه الفئة وهم أهل الثغور، ودراسة موضعيتها في حركة الإمام (ع) لا بد أن نسلط الضوء على الجانب الاجتماعي أيضاً، لنرى الواقع ومدى ارتباطه بالسياسة وبالحكام، مع التأكيد على أن السلطة المتحكّمة في إدارة هذه الثغور هي السلطة الأموية، فهي تعزل من تشاء من القيادات، وتأمر بالمرابطة أو بالتحرك للغزو ولها تجبى الغنائم.
إلا أن الواقع الاجتماعي لا ينبئ بالضرورة بأن كل من يشترك في المرابطة في ثغور المسلمين فهو منتم إلى السلطة الحاكمة وراض عنها، فهناك عدة اعتبارات جعلت من عامة الناس وحتى من المعارضين، يشتركون، ومنها:
1/ اشتراك مجاميع من الناس ممن ليس لهم إلمام ورؤية لواقع الاشتراك في الثغور، بل قد يكونوا من الفئات الجاهلة أو الغائبة عن معرفة حقيقة الصراع في داخل الدولة الإسلامية، ومن يمثل الحق ومن يمثل الجور، نستكشف ذلك من خلال هذه الرواية على سبيل المثال، التي تخبر عن عدم دراية بعض ممن يشترك أو من يوصي بشيء من ماله لبذله (في سبيل الله) لأهل الثغور.
عَنْ يُونُسَ بْنِ يَعْقُوبَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ بِهَمَذَانَ ذَكَرَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَ كَانَ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ فَأَوْصَى بِوَصِيَّةٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَوْصَى أَنْ يُعْطَى شَيْءٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَسُئِلَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (ع) كَيْفَ يُفْعَلُ بِهِ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْأَمْرَ فَقَالَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى إِلَيَّ أَنْ أَضَعَ فِي يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ لَوَضَعْتُهُ فِيهِمَا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُولُ- فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ فَانْظُرُوا إِلَى مَنْ يَخْرُجُ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ يَعْنِي [بَعْضَ] الثُّغُورِ فَابْعَثُوا بِهِ إِلَيْهِ.
2/ الاشتراك في الثغور قد يكون للهروب من الواقع السياسي الداخلي والاحتراب الواسع، وحفاظاً على النفس من الوقوع فريسة بعض الاجراءات الجائرة أو الفتن الدائرة، فالصراع لم يتوقف بين الأمويين ومخالفيهم طيلة حكمهم، سواء من الموالين لأهل البيت وهم الأقل، أو من الخوارج أو الزبيريين أو الخارجين على حكمهم، وكذا كالإجراءات التي كانت تنال من الأبرياء من عامة الناس، كما هي أخبار الحجاج، وزياد بن أبيه.
وعلى سبيل المثال فإن أباذر الغفاري لجأ فترة من الزمان للبقاء في الثغور هرباً من السلطات الجائرة، فقد روى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة فجئته فقلت له ألا تخبرني أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت كرهاً فقال: كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم، فأخرجت إلى المدينة..
يقول مؤلف كتاب جهاد الإمام السجاد: "ومن المعلوم أن الذين يتجهون إلى حدود الدولة الإسلامية، وهي أبعد النقاط عن أماكن الرفاه والراحة، ليسوا إلا من سواد الناس، ويمكن أن يكون اختيارهم لتلك الجهات البعيدة دليلاً على ابتعادهم عن التورطات التي انغمس فيها أهل المدن في داخل البلاد."
3/ الاشتراك أو الدعم للثغور تقيةً، وخوف التشنيع من المخالفين، ولدرء التهمة التي تقتضي بعض الأحيان العقاب والقتل، ونقرأ هذا المعنى في رواية للإمام الصادق (ع)، حيث يسأله سائل عن نذر نذره للمشاركة في الثغور ـ جهلاً منه أو غير ذلك. فيجيبه الإمام بالاشتراك إن كان قد سمع نذره أحد المخالفين، وهذا كي لا يكون تشنيعاً به ولا يؤخذ بتهمة عدم الاشتراك أو عدم الاعتراف.
في الوسائل: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَهْزِيَارَ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي (ع)- إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ نَذْراً مُنْذُ سِنِينَ أَنْ أَخْرُجَ إِلَى سَاحِلٍ مِنْ سَوَاحِلِ الْبَحْرِ إِلَى نَاحِيَتِنَا مِمَّا يُرَابِطُ فِيهِ الْمُتَطَوِّعَةُ نَحْوَ مُرَابَطَتِهِمْ بِجُدَّةَ وَغَيْرِهَا مِنْ سَوَاحِلِ الْبَحْرِ أَ فَتَرَى جُعِلْتُ فِدَاكَ أَنَّهُ يَلْزَمُنِي الْوَفَاءُ بِهِ أَوْ لَا يَلْزَمُنِي أَوْ أَفْتَدِي الْخُرُوجَ إِلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ أَبْوَابِ الْبِرِّ لِأَصِيرَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِخَطِّهِ وَ قَرَأْتُهُ إِنْ كَانَ سَمِعَ مِنْكَ نَذْرَكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فَالْوَفَاءُ بِهِ، إِنْ كُنْتَ تَخَافُ شُنْعَتَهُ وَ إِلَّا فَاصْرِفْ مَا نَوَيْتَ مِنْ ذَلِكَ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكَ لِمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى.
4/ الاشتراك في ثغور المسلمين، إيماناً بأهمية المرابطة كمهمة تتكفل بحماية الإسلام والمسلمين، بغض النظر عن السلطة الجائرة المعاصرة، فإن الثغور تقوم في بعض الأحيان بحفظ بيضة الإسلام وتحمي المسلمين من أخطار وجودية للمسلمين أو أخطار على الإسلام نفسه، وكما ذكرناه كمبرر شرعي يجيز الاشتراك فيها ولو كان السلطان جائراً.
ويوصف السيد المدرّسي هذا الواقع التاريخي بقوله: "إن القيمة الوحيدة التي كانت الأمة الإسلامية تعتمد عليها، وتتمحور حولها وتتوحد بها، كانت قيمة الإيمان بالله، والاعتقاد بالدولة باعتبارها ضرورة حضارية. فبالرغم من كل ما حدث في الأمة من انشقاقات داخلية، وظلم ودكتاتورية، فأن بقية من الايمان بأن هذه الدولة يجب ان تبقى ظلت موجودة، وهذه القناعة كانت سائدة لدى كافة الاطراف. صحيح ان إرادة الأمة كانت ضد السلطة الفاسدة، ولكن الحاجة الى نظام يحكم بالإسلام، والرغبة في الدفاع عن بيضة الاسلام، وعن عزة المسلمين، كانتا متداخلتين وكان الآلاف من الناس يذهبون للدفاع عن الثغور وفتح البلدان انطلاقاً من عقيدة الجهاد المقدّسة بغض النظر عن السلطة الفاسدة.
بيد ان تلك القضية اخذت بالزوال ـ وذلك في زمن الإمام الجواد (ع) ـ بسبب العلاقة الديكتاتورية بين النظام وبين الجماهير، حيث شعر الناس بان لا شأن لهم بهذه الدولة، وهذا الشعور دفعهم الى الابتعاد عنها."
من خلال عرض هذا الواقع الاجتماعي تجاه الثغور، يتبيّن لنا أن الجند الذين هم مشتركون في الثغور، جنود مختلطة، فمنهم المؤمن ومنهم الذي لا يتوافق مع السلطة، ومنهم الجاهل، أو غير ذلك من مبررات واعتبارات دعتهم للّحوق بالمرابطين، وهذا بدوره يزيل التعجّب من دعاء الإمام زين العابدين لأهل الثغور، وهذا ما أشار إليه بعض العلماء، كما يذكر السيد محمد الشيرازي في شرحه للصحيفة السجادية في عبارة الدعاء: (وأيد حماتها: أي: الذين يحمون الثغور ويحفظونها (بقوتك)، والتأييد: بمعنى التقوية ولا يخفى أن في الحماة كانوا مؤمنين كما أن فيهم من كان يجهل الحق، فالدعاء لمثله في موقعه."
من الإباحة والتبرير إلى اكتشاف الغايات
في تناولنا لفهم دعاء الإمام لأهل الثغور إننا بحاجة إلى تجاوز البحث التبريري الذي ينقّب لإيجاد ما يصحّح فعل المعصوم، وينقله من دائرة الشك والتشكيك إلى دائرة الرضا والقبول والاستساغة، فنتجاوز بالبحث إلى حيّز الاكتشاف الحر، والتفسير ضمن منهجية الإستراتيجية العامة للدور الرسالي للإمام (ع)، من أجل اكتشاف الغايات والأهداف الكامنة واراء فعل الإمام (ع)، أي أن ننتقل من المنحى الكلامي في الإجابة على السؤال من أجل دفع توهم أو رد احتجاج، إلى المنحى العلمي (المقاصدي) الاكتشافي للبحث التاريخي.
فإن من تناول البحث في دعاء أهل الثغور وبعض المباحث المشابهة، إنما ركّز على المنحى التبريري لوعي الجواز، وننقل إجابة السيد نعمة الله الجزائري في شرحة للدعاء على سبيل المثال، وهي الإجابة التي استنسخها بعض الشراح نصاً أو معنى.
أجاب السيد نعمة الله الجزائري بوجهين:
الأول: إنه كان بينهم ـ أهل الثغور ـ كثير من أهل الوفاق والشيعة كما هو مشهور وفي الأخبار مسطور وحينئذٍ فالدعاء حقيقة إنما هو لبعض أهل الثغور.
الثاني: إن الدعاء للمخالفين بالقوة والنصر لحماية بيضة الإسلام والذب عنه جائز قطعاً، وقد راعى (ع) هذه الجهة فلم يذكر إلا طلب التقوية والهداية لهم.
من خلال الاتجاه البحثي الذي يستوعب دراسة الواقعة التاريخية ضمن سياقاتها التاريخية والعقدية والاجتماعية، سوف نكتشف أن دعاء أهل الثغور ما هو إلا لبنة من لبنات مشروع حضاري أراد له الإمام أن ينتج وعياً رسالياً ويبني به الأمة المكلومة، لينتشلها من وحل التردّي والتخلّف التاريخي الذي وقعت فريسته نتيجة سياسات مجموعة حاكمة حرّفت الدين وغيّبت الحقائق، تلبية لنهمها في الدنيا وأحقادها البدرية والحنينية وغيرهن، ليبني الإمام (ع) بذلك شخصية الأمة ويصيغها من جديد لتناسب المقاس الإسلامي.
دعاء أهل الثغور وأبعاد المشروع الحضاري
كما أسلفنا فإن الدعاء في مفهوم الإمام زين العابدين ما هو إلا إحدى طرق العمل الرسالي في بناء الأمة، وكما يقول السيد المدرّسي: "إن أدعية الصحيفة السجادية لا تمثّل حالة وجدانية يعيشها الفرد المؤمن فحسب، ولا يمكن أن تُحصر في كونها رباط معنوي تسمو به الروح المشتاقة إلى لقاء الله، وإنما هي أيضاً تأصيل لفكر التحدّي وثقافة الثورة، فقد كانت الأمة الإسلامية بحاجة إلى خلفية ثورية متكاملة، وليس إلى الكلام والشعر الذي يبثّ حقداً أو يوُصّل لحالة التبرير، أو يُثير العواطف المرتجلة والآنية."
ولذلك علينا أن ننقّب عن المقاصد التي ابتغاها الإمام في دعائه لأهل الثغور، والأبعاد التي كان يتوخاها منه، وهنا نشير إلى بعض تلك المقاصد:
1/ إنشاء الدعاء لأجيال المجاهدين
إن دور الإمام (ع) هو تعليم الأمة وإرشادها، وهو الذي يدلها على الطريق الصحيح لما ينبغي القيام به، ومن تلك المسؤوليات والمهام هي أن يقوم المؤمنون بالدعاء للمجاهدين (كجنس) في مختلف العصور، من أجل أن ينزل الله تعالى عليهم النصر ويحصن جوانبهم من الأعداء، فجاء الدعاء لأهل الثغور ليعلّم الناس من خلاله مدى الحياة أن الطريق الأمثل لمن هم خارج الحصون، هو دعم المرابطين بالدعاء أولاً، وأيضاً الدعاء بهذه الطريقة التي أنشأها الإمام (ع) كدعاء وارد مأثور عنه، فهو الأعرف بأدب الحديث مع الرب عز وجل، فدعاء أهل الثغور من جهة من جهاته هو عمل مبدأي وليس موقفاً لحظياً فحسب، وكي يسري نوره لكافة الناس من فم الإمام (ع)، متى ما احتاجت الأمة في ظروفها السياسية المتقلبة لهذا الدعاء، فهو محفوظ لديهم في الصحيفة السجادية المقدّسة.
فقد جاء في الدعاء تعميم ضد سائر أمم الشرك، إضافة للمشركين المشخّصين في ذلك الزمان، فقال: "اللَّهُمَّ وَ اعْمُمْ بِذَلِكَ أَعْدَاءَكَ فِي أَقْطَارِ الْبِلَادِ مِنَ الْهِنْدِ وَالرُّومِ وَالتُّرْكِ وَ الْخَزَرِ وَالْحَبَشِ وَ النُّوبَةِ وَالزَّنْجِ وَ السَّقَالِبَةِ وَالدَّيَالِمَةِ وَسَائِرِ أُمَمِ الشِّرْكِ، الَّذِينَ تَخْفَى أَسْمَاؤُهُمْ وَصِفَاتُهُمْ، وَ قَدْ أَحْصَيْتَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَشْرَفْتَ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَتِكَ."
2/ الدعاء لحماية المشروع الحضاري للإمام
دعاء أهل الثغور يمثل موقفاً سياسياً من أجل إبعاد الأنظار عن المشروع الحضاري الذي يعمل عليه الإمام في بناء الأمة، وهذا الهدف يتحقق بإعلان الدعاء واشتهاره.
ومن هنا، يعترضنا تساؤل وهو: هل أن الدعاء دعا به الإمام زين العابدين (ع) لأهل الثغور آنذاك فعلاً؟ أم أنه علّمه الخاصة وكتبه لحين الحاجة وانطباق الشروط؟
لقد جاء في نص الرواية التي ذكرت أدعية الصحيفة السجادية، مجموعة عبارات تشير إلى أن الأدعية التي تتضمنها الصحيفة السجادية، ومن ضمنها دعاء أهل الثغور، كانت من الأدعية الخاصة والمتحفظ عليها من قبل أهل البيت (ع)، فقد قال يحيى بن زيد للمتوكل الثقفي البلخي في محاورته عن الصحيفة: "أما لأخرجنّ إليك صحيفة من الدعاء الكامل، مما حفظه أبي عن أبيه، وإن أبي أوصاني بصونها ومنعها غير أهلها" ، "ثم دعا (يحيى) بعيبة فاستخرج منها صحيفة مقفلة مختومة"، كما أن متوكل قد ندم عندما دفع بدعاء عنده من الصحيفة إلى يحيى ليكتبه، وقال: "وندمت على ما فعلت، ولم أدر ما أصنع، ولم يكن ابو عبد الله (عليه السلام) تقدّم إليّ ألا أدفعه إلى أحد".، وأبدى يحيى حرصه على الصحيفة، وأظهر خوفه من أن تقع هذه الصحيفة التي عبّر عنها بالعمل في يدي بني أمية، كدلالة على اختصاصها بالمؤمنين، حيث قال: "والله يا متوكل، لولا ما ذكرت من قول ابن عمي إنني أقتل وأصلب لما دفعتها إليك، ولكنت بها ضنيناً، ولكنّي أعلم أن قوله حق أخذه عن آبائه، وأنه سيصحّ، فخفت أن يقع مثل هذا العلم إلى بني أمية فيكتموه، ويدّخروه في خزائنهم لأنفسهم، فاقبضها واكفنيها، وتربّص بها، فإذا قضى الله من أمري وأمر هؤلاء القوم ما هو قاض، فهي أمانة لي عندك حتى توصلها إلى ابني عمي محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (عليهما السلام)، فإنهما القائمان في هذا الأمر بعدي".
وقد عزّز هذا الخوف والحرص الإمام الصادق (ع)، عندما قُتل يحيى وجاءه المتوكل وأخبره بالأمر، فقال الإمام (ع): "فبكى واشتدّ وجده به وقال: رحم الله ابن عمي والحقه بآبائه وأجداده، والله يا متوكل، ما منعني من دفع الدعاء إليه إلا الذي خافه على صحيفته".
إلا أن ما يبدوا أن الإمام كان في زمانه يدعوا بأدعية الصحيفة السجادية، وكان مما يسمعه الناس ويتناقلونه، ومما يدل على ذلك هو عنونة الأدعية بعبارة (وكان من دعائه في كذا..)، وإنما قام بتدوينها ابناه الإمام الباقر (ع) وزيد الشهيد (رضوان الله عليه)، لتحفظ للمؤمنين مستقبلاً، وما عملية التحفظ والتخوف إلا من بني أمية والسلطات التي تأتي بعدهم كي لا تقع في أيديهم ويمنعونها عن الناس، فيغيب نور العلم، وتغيب المقاصد الربانية التي أراد الإمام إيصالها إلى الناس، ولذلك نجد أن الصحيفة السجادية بما فيها دعاء أهل الثغور قد انتشرت انتشاراً كبيراً، "وما أصدق كلام شيخنا العلامة رحمه الله ـ صاحب الذريعة ـ حيث قال: (وهي ـ الصحيفة السجادية ـ من المتواترات عند الأصحاب، لاختصاصها بالإجازة والرواية في كل طبقة وعصر)، وعدّ رحمه الله من شروحها 64 شرحاً، ومن حواشيها 11 حاشية، ومن تراجمها ستة. وزاد ذلك توضيحاً الدكتور محفوظ بقوله: (وفازت تلك السجادية باهتمام الأفاضل رواية وحفظاً وإسناداً وتفسيراً واستدراكاً، فقد رواها الألوف، وبلغت شروحها المئات، وجاوزت ترجماتها العشرات).
3/ اهتمام الإمام بالأخطار الوجودية للإسلام والمسلمين
يبيّن دعاء أهل الثغور اهتمام الإمام زين العابدين (ع) بالإسلام وحرصه على المسلمين، ويعتبر حفظ بيضة الإسلام والمسلمين من المهام الأساسية للإمام، فالأخطار الوجودية تقدّم على الأخطار الداخلية، وتعطي لها أولوية، وليس معنى الأولوية غض النظر عن الطغيان ولا يدعوه ذلك إلى تأييد وإعانة الظالمين، إنما يعني الاهتمام بالقضية الوجودية للإسلام والمسلمين، الدعم بالقدر الذي يحقق غرض الحماية الوجودية، ولا يستدعي ذلك دعم الطغاة، وهذا ما كان واضحاً في مضامين الدعاء، حيث فرّق بين الدعاء للمرابطين لحماية الإسلام، وبين السلطة القائمة، أو المرابطين لحماية السلطان.
لذلك جاء في نص الدعاء تشديد على الدعاء على أعداء الإسلام كي لا يتمكّنوا من تحقيق مآربهم، (اللَّهُمَّ افْلُلْ بِذَلِكَ عَدُوَّهُمْ، وَاقْلِمْ عَنْهُمْ أَظْفَارَهُمْ، وَفَرِّقْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَسْلِحَتِهِمْ، وَاخْلَعْ وَثَائِقَ أَفْئِدَتِهِمْ، وَبَاعِدْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوِدَتِهِمْ، وَحَيِّرْهُمْ فِي سُبُلِهِمْ، وَضَلِّلْهُمْ عَنْ وَجْهِهِمْ، وَاقْطَعْ عَنْهُمُ الْمَدَدَ، وَانْقُصْ مِنْهُمُ الْعَدَدَ، وَامْلَأْ أَفْئِدَتَهُمُ الرُّعْبَ، وَاقْبِضْ أَيْدِيَهُمْ عَنِ الْبَسْطِ، وَاخْزِمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ النُّطْقِ، وَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَنَكِّلْ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ، وَاقْطَعْ بِخِزْيِهِمْ أَطْمَاعَ مَنْ بَعْدَهُمْ. اللَّهُمَّ عَقِّمْ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ، وَيَبِّسْ أَصْلَابَ رِجَالِهِمْ، وَاقْطَعْ نَسْلَ دَوَابِّهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، لَا تَأْذَنْ لِسَمَائِهِمْ فِي قَطْرٍ، وَلَا لِأَرْضِهِمْ فِي نَبَاتٍ).
ثم يبيّن الإمام من خلال دعائه أن ذلك التشديد له غاية كبرى هي موضع اهتمام الإمام وأولوية كبرى في مشروعه الرسالي، وهي الحفاظ على الإسلام، فيقول (ع): "اللَّهُمَّ وَقَوِّ بِذَلِكَ مِحَالَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَحَصِّنْ بِهِ دِيَارَهُمْ، وَثَمِّرْ بِهِ أَمْوَالَهُمْ، وَفَرِّغْهُمْ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ لِعِبَادَتِكَ، وَعَنْ مُنَابَذَتِهِمْ لِلْخَلْوَةِ بِكَ حَتَّى لَا يُعْبَدَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ غَيْرُكَ، وَلَا تُعَفَّرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ جَبْهَةٌ دُونَكَ."
4/ اختراق مجتمع أهل الثغور
من سياسة الإمام هي الوصول إلى كافة أفراد الأمة لإلقاء الحجة عليهم، فقد كانت إقامة الإمام في الدينة المنورة، وكذا يتردد على حج بيت الله الحرام، كمناطق مقدّسة يشد الرحال إليها كافة المسلمين من كل مكان، فتأثير الإمام ومشروعه له قابلية الانتشار بسبب ذلك، ودعاؤه لأهل الثغور هو اختراق وعي تلك التجمعات النائية والمنعزلة عن حركة المجتمع الإسلامي الداخلي، من أجل التأثير عليها، والرواية التي ينقلها علي بن مهزيار عن الرجل الذي كان قد نذر قبل سنين أن يشترك في الثغور، فجاء يسأل الإمام أبي جعفر الثاني (ع) عن موقفه الشرعي، قد تشير إلى تأثر بجهود الإمام (ع)، حيث أنه نذر وكان معتقداً بصحة نذره ومتعلق نذره، ثم طرأ عليه التغيّر وجاء يسأل الإمام عن موقفه الجديد تجاه النذر القديم.
ولو تدبّرنا مضامين الدعاء لوجدنا كيف يصيغ الإمام وعي الأمة العقدي والسياسي في قالب دعاء يعرج به إلى رحاب الله عز وجل، كبذرة للتأثير، ومن ذلك:
أ- ابتدائه بالصلاة على محمد وآل محمد، وتوسيطها في الدعاء والاختتام بالصلوات العالية على الصلوات.. هو تثبيت للسمة العقدية في مخاطبة الله تعالى بمن أمرنا بالصلاة عليهم، وبيان لمكانة أهل البيت (ع) من الإسلام وعباداته.
ب- بالإضافة إلى الدعاء لهم بالحفظ والغلبة، فهو يدعو لهم بالمعرفة والعلم والبصيرة، (وَ عَرِّفْهُمْ مَا يَجْهَلُونَ، وَعَلِّمْهُمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ، وَبَصِّرْهُمْ مَا لَا يُبْصِرُونَ).
ج - صرف اهتمامهم عن التفكير المادي والتعلّق بالشهوات وحطام الدنيا، التي يدخل إليهم الشيطان والسلطان منها، ويوجههم إلى الاهتمام بالجنة وجعلها نصب أعينهم ومبلغ مقصدهم، (وَ أَنْسِهِمْ عِنْدَ لِقَائِهِمُ الْعَدُوَّ ذِكْرَ دُنْيَاهُمُ الْخَدَّاعَةِ الْغَرُورِ، وَ امْحُ عَنْ قُلُوبِهِمْ خَطَرَاتِ الْمَالِ الْفَتُونِ، وَ اجْعَلِ الْجَنَّةَ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ).
د- إبراز الهدف الحقيقي للمجاهدين والمرابطين في الثغور، فهو ليس حماية السلطان، وإنما هو حماية الإسلام والمسلمين، فقال: "اللَّهُمَّ وَ أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَهَمَّهُ أَمْرُ الْإِسْلَامِ، وَ أَحْزَنَهُ تَحَزُّبُ أَهْلِ الشِّرْكِ عَلَيْهِمْ فَنَوَى غَزْواً، أَوْ هَمَّ بِجِهَادٍ فَقَعَدَ بِهِ ضَعْفٌ، أَوْ أَبْطَأَتْ بِهِ فَاقَةٌ، أَوْ أَخَّرَهُ عَنْهُ حَادِثٌ، أَوْ عَرَضَ لَهُ دُونَ إِرَادَتِهِ مَانِعٌ فَاكْتُبِ اسْمَهُ فِي الْعَابِدِينَ، وَ أَوْجِبْ لَهُ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ، وَ اجْعَلْهُ فِي نِظَامِ الشُّهَدَاءِ وَ الصَّالِحِينَ."
5/ الدعاء هو أسلوب في المعارضة
دعاء أهل الثغور هو معارضة للظالمين وفضح واقع الطغيان السائد في قالب الدعاء، الأمر الذي يحيّر الطواغيت ويجعلهم عاجزين عن معاملته كمعاملة سائر المعارضين للحكم بالسجن أو القتل، فإن اعتراضهم على الدعاء الذي لا يحمل تسميات ومشخصات سيكون معيباً ووقوفاً ضد العبادات الإسلامية، فاغتنم الإمام (ع) الدعاء في تعرية السلطة القائمة، من خلال بيان صفات القائد وغاياته الجهادية، وما يحتاجه من مقومات في نص الدعاء.
فقد قال في دعائه: "اللَّهُمَّ وَ أَيُّمَا غَازٍ غَزَاهُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَوْ مُجَاهِدٍ جَاهَدَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ سُنَّتِكَ لِيَكُونَ دِينُكَ الْأَعْلَى وَحِزْبُكَ الْأَقْوَى وَحَظُّكَ الْأَوْفَى فَلَقِّهِ الْيُسْرَ، وَهَيِّئْ لَهُ الْأَمْرَ، وَتَوَلَّهُ بِالنُّجْحِ، وَتَخَيَّرْ لَهُ الْأَصْحَابَ، وَاسْتَقْوِ لَهُ، الظَّهْرَ، وَأَسْبِغْ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ، وَمَتِّعْهُ بِالنَّشَاطِ، وَأَطْفِ عَنْهُ حَرَارَةَ الشَّوْقِ، وَأَجِرْهُ مِنْ غَمِّ الْوَحْشَةِ، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ. وَأْثُرْ لَهُ حُسْنَ النِّيَّةِ، وَتَوَلَّهُ بِالْعَافِيَةِ، وَأَصْحِبْهُ السَّلَامَةَ، وَأَعْفِهِ مِنَ الْجُبْنِ، وَأَلْهِمْهُ الْجُرْأَةَ، وَارْزُقْهُ الشِّدَّةَ، وَأَيِّدْهُ بِالنُّصْرَةِ، وَعَلِّمْهُ السِّيَرَ وَالسُّنَنَ، وَسَدِّدْهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْزِلْ عَنْهُ الرِّيَاءَ، وَخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ، وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإِقَامَتَهُ، فِيكَ وَلَكَ".
وختاماً يتبيّن أن دعاء الإمام زين العابدين (ع) لأهل الثغور ظاهره في شيء وباطنه في شيء آخر، وكلاهما يصدقان بعضهما البعض، فالظاهر أنه يدعو لأهل ثغور زمانه ـ تقية ـ وحماية للمشروع الرسالي لبناء الأمة من الداخل، وهذا الظاهر يسير ضمن النهج الرسالي للإمام في بناء الأمة، فهو يوصل لهم المعاني الحقيقية للجهاد والتولي للحكم، ويوجّه عقولهم إلى قيم الدين، بل ويعرّض بحكام الجور من خلال ذكر من الصفات الحقيقية للحاكم والقائد.
والجهة الباطنة هي كي يبقى الدعاء صحيفة علم لكل المجاهدين في سبيل الله والذائدين عن حرم المؤمنين وحرمة الإسلام في كل العصور، وهذه الجنبة لا تقل أهمية عن الأولى باعتبارها ستكون شاملة لأجيال واسعة متعاقبة.