ما هي الفلسفة؟
الفلسفة قبل اليونان:
لا شكّ أنّ محاولة فهم الوجود والإجابة على أسئلة من قبيل: من أين وفي أين وإلى أين، - والتي تعتبر لوناً من ألوان التفكير الفلسفي – وجدت بوجود الإنسان العاقل، وعلى هذا فإنّ اعتبار اليونان القديم مهد ظهور الفلسفة اعتبارٌ خاطئ لا واقع له.
وقد أكدت الآثار وجود التفكير الفلسفي في مواقع عديدة كالعراق، ومصر، والصين، والهند([1])، ولعل الفلسفة اليونانيّة اقتبست الكثير من الحضارات الشرقيّة([2]).
الفلسفة في عرف اليونان:
قبل الميلاد بستة قرون كان يطلق على الحكيم أو العالم في اليونان كلمة "سوفيست"، إلّا أنّ الحال لم يدم على ما هو عليه، حيث حلّت كلمة "فيلوسوفيا" – ومنها عرّبت كلمة فيلسوف – محل كلمة "سوفيست. وأصبحت "فيلوسوفيا" كلمةً تطلق على الحكيم أو العالم.
ويظهر أنّ فيثاغورس (572 – 497 ق.م.) هو أوّل من استخدم لفظ "فيلسوف" حينما لقب نفسه بهذا اللقب عوضاً عن لقب "الحكيم"، حيث ورد أنّه قال: "لست حكيماً؛ فإنّ الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلّا فيلسوف"([3]).
إلّا أنّ شيوع هذا اللقب بدأ حينما استخدمه سقراط (469 – 399 ق.م.) ولقبّ نفسه به، إذ أنّه لمّا انبرى لمواجهة التيار السوفسطائي – الذي أنكر إمكان المعرفة والواقع –، أطلق على نفسه لقب الفيلسوف، وذلك ليميز نفسه عن أصحاب التيار السوفسطائي الذين كانوا يطلقون على أنفسهم لقب "سوفيست".
وقيل أيضاً أنّ سقراط كان شديد التواضع ولذلك لم يقبل أن يسمي نفسه "سوفيست" – أي حكيماً –، بل اكتفى بأن يسمي نفسه "فيلوسوفيا" – أي محب الحكمة –([4]).
على أيّ حال، مع مرور الزمن تحولت كلمة "فيلسوف" من معناها الأصلي "محب الحكمة" إلى حكيم أو عالم، وأصبحت الفلسفة بمعنى الحكمة. ومن هنا صارت كلمة الفلسفة تصطلح على العلوم العقليّة لتمييزها عن العلوم النقليّة، كالبلاغة، واللغة، والتاريخ، والفقه، وأمثالهم.
وبالنظر للفلسفة بهذا المعنى([5])، تنقسم إلى فلسفة نظرية وفلسفة عمليّة. الفلسفة النظرية تبحث في الأشياء كما هي موجودة، في حين أنّ الفلسفة العمليّة تبحث في أفعال الإنسان لتقرر ما ينبغي منها وما لا ينبغي.
الفلسفة النظرية بدورها تنقسم إلى ثلاث أقسام:
الأوّل: الطبيعيات، يبحث فيه عن مجموعة من الأمور كالأحكام العامة للأجسام، وعلم الفلك، وعلم المعادن، وعلم النبات، وعلم الحيوان.
الثاني: الرياضيات، ويتشعب هذا القسم إلى الحساب، والهندسة، والهيئة، والموسيقى.
الثالث: الإلهيات، وله قسمان، هما: الأحكام العامة للوجود، ومعرفة الله.
الفلسفة العمليّة كذلك تنقسم إلى ثلاث أقسام:
الأوّل: إدارة النفس أو الأخلاق.
الثاني: إدارة المجتمع أو السياسة.
الثالث: إدارة المنزل أو الأسرة.
الفلسفة في عرف الإسلام:
أخذ المسلمون كلمة "فيلوسوفيا" وعرّبوها إلى فلسفة، واستخدموها بذات المعنى الذي استخدمه بها الفلاسفة اليونانيّون الأوائل، أي بمعنى مطلق العلوم العقلية لتمييزها عن العلوم النقليّة.
وكان الفيلسوف بنظر المسلمين هو الشخص الذي يكون جامعاً لكلّ العلوم العقليّة في زمانه. ولذا تجد الكتب الفلسفيّة القديمة – نظير كتاب الشفاء لابن سينا – شاملةً لجميع المباحث المرتبطة بالعلوم العقليّة.
وفي مقابل هذا الاستعمال العام لكلمة الفلسفة، والذي يشمل جميع العلوم العقليّة، ظهر في الساحة الإسلاميّة استعمال آخر للكلمة أخص من الاستعمال المتقدم، وهو أن تطلق كلمة الفلسفة ويراد بها خصوص الإلهيات([6])، فالإلهيّات الذي يعتبر قسماً من الفلسفة النظرية الذي هو أحد قسمي الفلسفة بناءً على الاستعمال العام للكلمة، يكون هو المقصود بالفلسفة بناءً على الاستعمال الخاص.
وبهذا يكون لكلمة الفلسفة عند المسلمين استعمالين:
الأوّل: يطلق ويراد به عموم العلوم العقليّة في قبال العلوم النقلية.
الثاني: يطلق ويراد به البحث في أحوال الموجود بما هو موجود، وهذا ما يصطلح عليه بالإلهيات.
الفلسفة في عرف الغرب الحديث:
"استعملت مفردة الفلسفة في القرنين الأخيرين استعمالات متعددةً، فأضحت بفعل تلك الاستعمالات ذات مدلول مشوش وصار لكلِّ طائفة من الناس مفهوم عن الفلسفة" ([7])
وبالإضافة إلى ذلك "ظهرت لنا مصطلحات مركّبة عديدة تحمل مفردة الفلسفة، من قبيل: الفلسفة الوضعيّة، والفلسفة العمليّة، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة العلم، وفلسفة اللغة"([8])
الخلط بين الفلسفة والعلوم الطبيعية:
نتيجةً للتشويش المرافق لمفهوم الفلسفة والغموض الذي دار حوله في القرنين الأخيرين، خلط بعضهم بين الفلسفة وبين العلوم الطبيعيّة.
إذ لم يفرق هؤلاء بين قضايا الفلسفة وبين قضايا سائر العلوم، وبالنتيجة انتظروا من الفلسفة أن تعالج قضايا العلوم، ومن العلوم أن تعالج قضايا الفلسفة.
وخلطوا بين منهج الفلسفة الذي يعتمد على القياس العقلي، وبين منهج سائر العلوم الذي يعتمد على التجربة، فحاولوا معالجة قضايا الفلسفة التي لا تعالج إلّا بالبراهين العقلية الخاصة، بتعريضها للتجربة في المختبر.
مرادنا من الفلسفة:
بعد أن اتضح للقارئ الكريم الاختلاف الواسع حول المراد من الفلسفة، وكيف أنّ هذه المفردة استخدمت استخدامات عديدة، مما جعلها مفردة مشوشة وغامضة، لزم أن نحدد مرادنا هنا من الفلسفة.
وقد تبيّن للقارئ المحترم أنّ جذر مصطلح الفلسفة يعود إلى اليونان، حيث كان يطلق ويراد من المعنى الشامل لجميع العلوم النظريّة والعمليّة، فكان مرادفاً – تقريباً – لمصطلح العلم اليوم.
ثمّ إنّ هذا المعنى لم يستمر مرافقاً لمصطلح الفلسفة، حيث راح كلّ اتجاه ومذهب إلى تعريف الفلسفة تعريفاً من وجهة نظره، وبهذا تعددت استخدامات مصطلح الفلسفة.
ومنذ أن استبدلت بعض العلوم أسلوب القياس والبرهان العقلي بالمنهج التجريبي، بدأ المفكرون بالتمييز بين مصطلح الفلسفة الذي أصبح يشير إلى المسائل التي تعالج بالقياس والبرهان العقلي، وبين مصطلح العلم الذي أصبح يشير إلى المسائل التي تعالج بالمنهج التجريبي، وعليه فلم يعد مصطلح الفلسفة مرادفاً لمصطلح العلم كما في السابق.
وبهذا أصبح مصطلح الفلسفة يشير إلى تلك المسائل التي هي نتاجٌ صرفٌ لقوة العقل البشري، ولا طريق لإنتاجها عبر التجربة الحسية.
وهذا اللون من التفكير يصطلح عليه أيضاً مصطلح "الفلسفة الحقيقية" لكونه عقلياً بشكل كامل، ويصطلح عليه أيضاً مصطلح "العلم الكلي" لكونه يتناول بالبحث أعم الموضوعات وهو الوجود، ويصطلح عليه أيضاً مصطلح "الإلهيات" لكونه يتناول بالبحث علة العلل وواجب الوجود، وهو ذاته ما كان يصطلح عليه في العهد اليوناني مصطلح "ميتافيزيك".
وعليه فمرادنا من الفلسفة هو مجموعة المسائل التي تقوم على أساس البرهان والقياس العقلي، والتي تتناول بالبحث مطلق الوجود وأحكامه وعوارضه، فالفلسفة تعطي حكماً بوجود أو عدم وجود الأشياء.
وبتعبير آخر فإنّ استخدامنا لمصطلح الفلسفة هو ذات الاستخدام الخاص عند المسلمين، وهو: البحث في أحوال الموجود بما هو موجود.
علاقة نظرية المعرفة بالفلسفة:
نظرية المعرفة بحثٌ فلسفي:
بناءً على التعريف المتقدّم للفلسفة، تكون الأبحاث الفلسفية هي الأبحاث التي تقوم على أساس البرهان والقياس العقلي، والتي تتناول بالبحث الوجود وأحكامه وعوارضه، بناءً على هذا تكون مسائل نظرية المعرفة في عداد الأبحاث الفلسفية؛ وذلك لأنّ هذه المسائل:
أوّلاً: تقوم على أساس البرهان والقياس العقلي.
ثانياً: تبحث المعرفة من حيث وجودها، والمعرفة كما سيتضح لاحقاً أحد ألوان الوجود([9]). فالفيلسوف يبحث المعرفة من حيث وجودها، ويسأل: هل أنّ وجود المعرفة مادي أم مجرد؟
ثالثاً: لأنّ البحث في إمكان المعرفة ومدى تطابقها مع الواقع ومصادرها يعتبر بمثابة المقدّمة التي لا بدّ منها للولوج في الأبحاث الوجوديّة.
يقول الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في كتابه "المنهج الجديد في تعليم الفلسفة": "إنّ هذا السؤال([10]) يشكّل النواة المركزيّة لمسائل "علم المعرفة" وما لم تُحل مسائل هذا القسم فإنّ الدور لا يصل إلى دراسة مسائل "علم الوجود" وسائر العلوم الفلسفيّة، وذلك لأنّه ما دامت لم تثبت قيمة المعرفة العقليّة فإنّه يصبح من العبث الادعاء بطرح طريق حل واقعي لمثل هذه المسائل، ونواجه عندئذٍ هذا السؤال: ومن أين لنا الاطمئنان بأنّ العقل قد توصل إلى حل صحيح لهذه المسألة؟"([11])
..................................
([1]) مبادئ الفلسفة الإسلاميّة، ص16، الدكتور عبد الجبار الرفاعي.
([2]) مبادئ الفلسفة الإسلاميّة، ص19، الدكتور عبد الجبار الرفاعي.
([3]) تاريخ الفلسفة اليونانيّة، ص36، يوسف كرم.
([4]) المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ص17، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي.
([6]) للإلهيات أكثر من تسمية واحدة، نظير الفلسفة العليا، ما وراء الطبيعة، الميتافيزيقا، العلم الأعلى، وغيرها.
([7]) دروس في مبادئ التفكير الفلسفي، ص39، مازن المطوي.
([8]) دروس في مبادئ التفكير الفلسفي، ص39، مازن المطوي.
([10]) ويقصد هنا بالسؤال هذا: أيستطيع العقل البشري أن يحل المسائل الوجوديّة؟ وإن استطاع فهل الإجابات التي يقدمها العقل ذات قيمة ومطابقة للواقع؟
([11]) المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، ص135، الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي.