الحرية أمر جميل، وجميع المستضعفين في هذه المعمورة تنشد الحرية وترجوها، فالحرية هي كسر لكل تلك القيود التي تعيق حركة الإنسان نحو التسامي والتعالي والتكامل، ولا نعني بالحرية تلك التي تساوي التفسخ، والانحلال، والانحطاط بالنفس، والذات، والمجتمع.
والمشكلة تكمن في هذه الفاصلة التي تفصل بين الحرية بمعناها الصحيح والحرية بمعناها الخاطئ، وكثيرا ما نسمع هنا أو هناك كلاما حول تحجر الاسلام وتصادمه مع حرية الإنسان، ولا سيما تلك الأبواق التي تعلو بين الفينة والأخرى مطالبة بتحرير الإنسان ونحو ذلك من شعارات براقة، اخذت تسري وتنتشر في وسائل الاعلام والمنتديات وغير ذلك.
فهل صحيح لم يكن للإسلام دور في تحرير الفرد والمجتمع أو هناك مغالطة في البين وتشويش؟
يمكن لنا أن نقول أن الإسلام لم يكن ضدًّا لحرية الإنسان بمفهومها الصحيح، وإنّما كان ضدًّا لتلك الدعوات التي تدعو لرفع كل القيود وفتح كل الخطوط ليتحرك الإنسان في مسارات المعصية في كل جهاتها وانحطاطاتها.
فالإسلام دعا لحرية مسئولة، ليكون دور التحرير دورا ايجابيا يجلب البناء للفرد والمجتمع وليس جالبا للدمار والخراب والقتل.
إذ أن الحرية المطلقة لم تجلب سوى هذه المفاهيم والآثار المنحطة والمتسافلة، معاني الدمار والخراب والدعارة والبغاء والجريمة وغير ذلك. إذ هي تعتمد اللذة اساسا في الحركة لرفع كل القيود التي تتنافى وشهوة ولذة الإنسان.
بينما الحرية لما تكون مسئولة نعطي الإنسان الخيار، ولكن نقوم بتوعيته وتوجيهه نحو الخير الأنفع له ولمجتمعه ونسأله عما اختاره.
فإننا بذلك رفعنا الإرغام والاستبداد، ولكن بنحو يعود على الفرد والمجتمع بنحو إيجابي لا سلبي.
هكذا هو الإسلام يدعو لهذا النوع من الحرية، ويمكن لنا أن نلخص دور الإسلام في تحرير الفرد بالنحو التالي:
- تحرير العقل والتفكير:
يقول الباري سبحانه: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) البقرة/219، (هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) الأنعام/50، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر/9.
هذه هي مكانة التفكير وحركة العقل نحو رفع ظلمة الجهل بنور العلم واليقين.
- تحرير الفرد من الموروثات الخاطئة:
إن الإنسان وبتقادم الأجيال والمجتمعات يرث كما كبيرا من العادات والتقاليد تمثل موروثا مهما يحكم حركة الفرد في أوساط المجتمع، وهذه الموروثات منها ما هو صحيح وسليم يساعد في بناء الفرد والمجتمع، وكان نتاج عقول واعية من آباء أخلصوا في خدمة مجتمعاتهم، ويمثل التمسك بهذا الموروث ضرورة لابد منها.
ومنها ما هو موروث خاطئ نشأ من ضرع التعصبات والأحقاد والجهل.
وهنا نسجل كلمة قاله المولى سبحانه يتعلق بهذا القسم من الموروث: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) البقرة/170، (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف/ 22.
هذه هي مشكلة هذا الموروث الخاطئ، يكبل عقل الإنسان ويقيده سلبا، ويقف حجر عثرة تجاه أي تغيير صحيح أو حركة إيجابية.
والإسلام دعا عقلاء الناس لنبذ هذا الموروث وتركه، بخلاف ذلك الموروث الذي يبني المجتمع فإن الإسلام دعا للتمسك به، كموروث إكرام الضيف، وقضاء حاجة المؤمن، وغير ذلك.
- الحرية السياسية:
هل كان للإسلام دور في التحرر السياسي أو لا؟
إن الإسلام جعل منظومة متكاملة تضمن الحرية السياسية المسؤولة للفرد والمجتمع، على نحو متكامل يتضح للمتأمل في الأحكام الشرعية الإسلامية، ولتوضيح ذلك نقول:
- الولاية واجبة: فيقول المولى سبحانه وتعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) التوبة/71، وهذه الآية تتحدث عن ضرورة الولاية وأن تقوم فئة من المؤمنين ممن تتوافر فيهم صفات معينة بقيادة المجتمع والولاية على البعض الآخر.
- العدل أساس الحكم: يقول الباري سبحانه: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) النساء/
إن العدل وفق وجهة النظر الإسلامية يمثل ركيزة مهمة جدا في الحكم الصالح، وهنا نلاحظ أن المولى عبر بتعبير في غاية الدقة إذ قال (َبيْنَ النَّاسِ)، وهو يشير إلى تساوي الجميع أمام القانون لا أن يطبق على فئة، ويتم تجاوزه عن فئة أخرى، كما وأن العدالة لا يمكن لها أن تتم إلا إذا كانت القوانين عادلة ومنصفة أما إذا كانت جائرة وظالمة فإننا لن نكون ممن يطبق العدل ويسير به.
- الشورى في الحكم: رغم أنّ رسول الله (ص) يمتلك عصمة وتسديدا من قبل الله إلا أن الله أمره بالمشورة، (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) آل عمران/159، (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الشورى/38
- المراقبة والمحاسبة
- الوعد الالهي للمستضعفين بالحرية:
إن من أعند وأقوى القيود التي تقف حائلا دون تقدم الإنسان والمجتمع هو قيد تلك السلطات الجائرة، إذ هي تتحرك من دافع الحفاظ على مواقعها دائما لا من دوافع خدمة الإنسان والمجتمع.
وهنا يبرز الوعد السماوي المتمثل في قوله: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) القصص/5.
ووراثة الأرض للمؤمنين لا تكون إلى على يد قائم آل بيت محمد (عج)، فعن الإمام زين العابدين (ع): (إذا قام قائمنا أذهب الله عن شيعتنا العاهة، وجعل قلوبهم كزبر الحديد، وجعل قوة الرجل منهم قوة أربعين رجلا، ويكونون حكام الأرض وسنامها)
وعن رسول الله (ص): (يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده)، وهو كناية عن عظم الخير في دولة الإمام المهدي (عج)، إذ يقول (ص) في حديث آخر: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتُخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحا، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة).
هكذا هي دولة المهدي (عج)، تحرير للفرد ونهوض بالمجتمع في جميع جوانبه، وصولا لدولة الله في أرضه.